رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رائحة القهوة

من المطبخ تتسرب رائحة القهوة، تتفتح مسامها للرائحة التى تحب، تملأ خياشيمها، تأخذ نفسًا عميقًا وتطرده بعد أن تستبقى الرائحة التى تدمنها، رغم تعدد الروائح من حولها.. عطور.. عادم السيارات.. عرق سائق الميكروباص وهو يحك يده ببنطالها مع كل حركة للفتيس.. تبقى رائحة البن الممتزج بالحبهان طوق نجاة، الحاسة السادسة التى ترد الأشياء إلى أصلها مهما امتزجت.

تأخذ الفنجان من يد الأم، التى يحيّرها سكون ابنتها ونظراتها الشاردة، تبتسم كلتاهما للأخرى. وتخرج الأم وتبقى مع إحساسها بضياع جزء منها، شىء فى نفسها تفتقده، كأنما تسرب منها إلى أظافرها، أو من أطراف شعرها المقصوص حديثًا، تأخذ الرشفة الأولى، ينبثق فى ذهنها سؤال: هل مزجت والدتها البن بالحبهان أم لا؟ 

حتى الرشفة الأخيرة من الفنجان، لا تستطيع تحديد إجابة السؤال بنعم أو لا. 

تساؤلها الحائر يجعلها تعرف ما تاه منها، لكنه لا يرد ضالتها التى كانت لها فى الأيام الماضية، ولم تتخل عنها أو تخذلها أبدًا، حتى وهى داخل غرفته المتكلفة.. ببابها المعتنى بطلائه، وبجواره اللافتة النحاسية التى تبرق بصفته ناظر المدرسة، وجدرانها المزخرفة بخليط من الصور، آيات قرآنية وصور آثار فرعونية، وفى مواجهتها تمامًا صورة الرئيس، ومن الرأس الكائن تحت الإطار المذهب تلقت للمرة الأولى ابتسامته كطوفان من اللزوجة أغرقها وأعاق حركتها، أربكها أكثر مما طمأنها، أبطأ تنفسها، وحتى يمكن للقلب أن يقاوم زادت ضرباته، حتى خشيت أن يسمعها وهو يمد يده إليها، ويضغط عليها ضغطة حملت عشرات الرسائل، فترجمتها، ودلتها على موطن الخطر؛ فتقوقعت على نفسها، وصدت ربما بحقيبتها التى وضعتها أمام ساقيها بعض الأشعة التى بثتها عيناه، تحفُّظها وصمتها أغرياه، فأوصلها بنفسه، وهو ناظر المدرسة وهى الزائرة الصحية، إلى حجرتها المفتوحة على فناء المدرسة؛ حتى يكون الوصول إليها سهلًا إذا أصيبت طالبة فى حصة الألعاب، أو شعرت بدوار أو مغص. 

ضايقتها رائحة عرقه الصارخ وهو يسير بجوارها، كأنها نضح برميل ملىء بالعفن، وذكّرها بشىء لم تره أبدًا، وربطت بينهما لأسباب لا تعرفها، فأصبح اسمه المحفور فى ذاكرتها «برميل دهن الخنزير»، ولا تدرى لماذا قرنته بالخنزير، ربما لأنها تسمع أن الخنازير تعيش على القمامة، وطبيعى أن الوعاء لا ينضح إلا بما فيه.

وقد أظهر الرجل باطنه أمس، وفى إشارة إلى ضيقها بلافتات المبايعة التى غطت حوائط المدرسة، واختفاء الكلمات الحكيمة والأبيات الشعرية، التى كانت قراءتها مصدر راحة، وأحيانًا مؤازرة لها.

واجهها قائلًا: 

- المدرسة مدرسة الحكومة، والذى علّق اللافتات الحكومة، وإذا زاد كلام، فالقانون هو الذى سيعاقبك، فهمت؟

وقبل أن تسأله ألا تكفى الشوارع؟ 

استطرد: 

- ألم يدفع والدك الحاج خمسمائة جنيه وعلّق اللافتة بنفسه على المحل مع عمال البلدية.. بلاش خيابة.

ردت بألم: 

- لكن المدرسة لجنة، واللجنة يجب أن تكون محايدة.

- نعم لجنة، وستأتين غدًا، حتى أصغر عامل سيحضر، التوقيع مع العلامة أو يوم جزا.

اقترب منها وربت على كتفها: اسمعى الكلام، ماذا حدث لك؟ منذ جئت المدرسة وأنت إنسانة هادئة ومطيعة.

مسحت كتفها بالمنديل الورقى الذى بيدها بمجرد خروجها من مكتبه، لا تفهم فى السياسة ولا تعنيها فى شىء، لكنها تكره الاحتلال، والغصب، وفرض الأمر الواقع، وهى مقهورة حتى البكاء، وسجينة صوت ناقوس لا يمل طرقه عملاق نسى ذراعه ومطرقته، حتى القطارات ملّت الطريق الواحد وخرجت عن القضبان أكثر من مرة ولم ينتبه أحد.

تعطى وجهها للحائط، تعود للعبتها القديمة التى تمارسها فى الصباح قبل أن تفتح أمها الشباك وتبدد الشمس كل الخيالات، وفى المساء تبحث عن خيالات جديدة. فى الحائط القديم المدهون بالجير الملاصق لسريرها مناطق باهتة ومناطق لم تؤثر فيها السنون، يصبح الحائط شاشة عرض.. منطقة داكنة فى الحائط الأخضر تشبه الأسطوانة، تتحول لبرميل، «برميل دهن الخنزير» يريد أن يتزوجها، تخرج لسانها للحائط فى حركة صبيانية تضحك لها، يتحول إلى رأس أسد يكشر عن أنيابه، يطاردها كالملل والأعمدة واللافتات، يقفز فى بحيرة، ينثر رذاذًا يتساقط على شعر الرجل العمود، فينفض شعره، وتتساقط القطرات على اللافتة التى يحملها بالاشتراك مع عمود آخر يزيحهما الرجل ذو النسر، ويأمر بعمودين جديدين لا تتبول على رأسهما اللافتات.

لا تكتفى برسم الأشكال أو تخيلها، بمرور الوقت تصبح جزءًا منها، تأخذ دور البطولة أحيانًا، وأحيانًا أخرى ترضى بدور الكومبارس، تستدعى كل النبلاء والفرسان، حتى دون كيشوت وطواحين الهواء، كل الأميرات المظلومات تتمثلهن سندريلا وزوجة أبيها الشريرة وأميرة الثلج، تريحها الحكايات وتنسيها أن هناك من تهرب منه.

تسمع طرقًا على باب حجرتها، يخرجها صوت أخيها الصاخب من نفسها، تنمحى كل الخيالات. وأخوها يحكى عن العربات والأعلام والهتافات.

قبل الخامسة بنصف الساعة يرن جرس التليفون، من المدرسة يأتى صوته واضحًا قاطعًا: 

- ما زالت أمامك فرصة.. أريد أن أعرف ردك. 

تضع السماعة بهدوء وتطلب فنجان القهوة من أمها، يمازحها أخوها:

- ضاع نصف عمرك؛ لأنك لم تخرجى اليوم.

تبتسم له وهى تأخذ أول رشفة من فنجان قهوتها؛ مستمتعة بمزيج البن والحبهان، وتجيبه:

- يكفينى النصف الآخر.