رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متوالية الظل «1»

 

قاربت جولتى المسائية على الانتهاء، أستنشق الكثير من الهواء المشبع برائحة الليمون، أقترب من ناصية الشارع.. تتضح ملامحه.. الظلمة الممتدة فيما حول سور مستشفى الإيطالى.. ظلال الأشجار الكثيفة، الهدوء الذى يناقض صخب النهار، يبدأ طرف البيت فى التبيان، السور الحديدى وطبقة الحصير المحيطة به من الداخل، الإضاءة الخافتة المتسربة من الستائر المسدلة دائمًا فى مهمة لا مفر منها، يبدو من خلفها ظل لملاك يتتبع خطواتى بحذر، أبطئ سرعتى، أحاذى السيارات المرصوصة فى هجعتها بجوار الرصيف الآخذ فى التآكل، أنتقل إلى وسط الشارع، وأنحرف يمينًا فى مواجهة البوابة الأمامية للبيت.

تعترض سيارة طريقى، أوقف الموتوسيكل، أرتد للخلف كفعل لا إرادى، أفرد ظهرى، أخلع الخوذة، خوذة عادية لحماية الرأس، ألبسها استجابة لإلحاح أمى وليست القناع الجبرى، يمكننى أن أدير الموتور وأنطلق بأقصى سرعة، مبتعدًا عن مجالهم، لكننى أنتظرهم، فلا حاجة للمراوغة.

ينزل رجلان من السيارة، يواجهنى أحدهما، يوجهنى دون أن يلمسنى: 

- تفضل معنا. 

أشير لغرفة والدتى المضاءة فى الطابق الثانى. 

- ممكن أبلغ والدتى.

- لا داعى لذلك.. مشوار صغير وسنعود بك.

أركب السيارة، يجلس فى المقدمة الرجل صاحب الصوت الآمر، يعطينى نظارة سوداء. 

- توجد زجاجة ماء صغيرة، إذا أردت أن تشرب. 

رغم تماسكى كشفت حشرجة صوتى عن جفاف حلقى، هل لمحتنى أمى من خلف الستائر؟ لم تتنازل عن عاداتها أن تتابعنى بعينيها حتى أغيب، وعند العودة أجدها منتظرة. 

تسخر إيلين من قلقها: ستصابين بجحوظ العينين، تكاد عيناك أن تقفزا من محجريهما خلفه أو كى تلتقيه، أنت تخنقينه!! 

تنظر أمى لى، تستنجد أن أدعمها، أعرف لولا حمايتها لى ما عشت أكثر مما توقع الأطباء، تعلم أنى ممتن، لكنى أطمع فى بعض البراح، توسيع الطوق وليس فكه. 

فى لحظات الصفاء حين تخلع قلقها الفطرى وتتجاهله، وتدعونى للجلوس فى الحديقة الخلفية للبيت وقت الغروب، حين لا يتبقى من علامات للشمس سوى بقع ضوئية خافتة تصعد فى ثبات على سور الحديقة، فيغمرنا الظل ويطارد البقية من الضوء، نجلس على الدرجات الخشبية المكسوة بالعشب، أجلس على الدرجة الثانية وتجلس على الرابعة، أضع رأسى على فخذيها، وتبدأ أصابعها فى تخلل شعرى، وعندما تطمئن لسيادة الظل، تستريح عضلاتها المشدودة، وتعود بظهرها ورأسها للخلف. 

وتهمس لى: 

- عيناك حقل حنطة وأهدابك شجرة صفصاف.

تتسع ابتسامتها ويسقط وميضها على جسدى، أمسك يدها الرقيقة بين يدىّ وأقبلها، فتقبل شعرى، وهى تقول: 

- أنت ملاكى، الذى ساندنى فى الحياة، لولا أنت، لولا طيبتك وهدوؤك وتفهمك، لكانت الحياة أصعب، أنت من يسر كل الصعاب، وجعلتنى لا أحمل همًا، أنت ملاك.

على فترات تتكرر الجلسة، وأنا أحرص على أن أظل الملاك الذى شيدت له جنة، وأحاطتها بكل سبل الحماية مما لا علاج له، لا ذنب، لا ذنب لها، لا ذنب لا أحد.

لكن الملاك العائش فى الظل فى الظلمة، لن يظل ملاكًا.. الجنة ملل سرمدى، وروتين خانق.

تتفهم: افعل ما تريد، لكن بمواعيد ونظام، لا أريد أن أقلق عليك.

مر وقت لا أعرف مقداره، نصل لمكان حديث خارج لتوّه من تصميمات الذكاء الاصطناعى، الفضاء السيبرانى، هل نحن فى العاصمة الإدارية؟ فى الضبعة؟ فى الساحل الشمالى؟ نقف أمام مبنى زجاجى ضخم، كطائر رخ تحيطه مبانٍ متعددة يكتسى بالطابع الزجاجى الكونى، حيث لا مجال للاختباء والعالم صار متواصلًا دائمًا وفى حالة اتصال دائمة وفى الوقت نفسه عزلة قاتمة، صعدنا للطابق الخامس والثلاثين.. الممر الطويل الدائرى، الحلزونى، أنت محاط وفى ديمومة الدائرة والنقطة المتنقلة الممتدة، أسير خلفهم، أشاروا لغرفة، دخلت، ظلوا فى الخارج، أتأمل الغرفة.. ليس بها سوى مائدة مستديرة وكرسى واحد، واجهة الغرفة زجاج ممتد من السقف حتى الأرض، أقاوم الشعور بالضيق وبجفاف جلدى.. أحتاج لترطيب جلدى كل ست ساعات، أنا سمكة تحتاج أن تظل تحت الماء، بعيدًا عن ضوء الشمس، أنا نبات ظل. 

توقعت مجيئهم، جهزت حقيبة مستلزماتى الطبية ووضعتها فى دولابى، لكن المباغتة أنهم أخذونى من الشارع وليس من غرفتى. 

سبق أن تم اقتحام البيت وما زال أثر الانبعاجة التى تشكلت من الاندفاع ودفع البوابة بالأقدام، والأحذية الثقيلة موجودة..

لم يوقف هجومهم سوى «إيلين» وصوتها الحاسم. 

- تعلمون أنه غير موجود، فلماذا هذا التخريب؟ 

تطلب إذن التفتيش، واتصلت من الموبايل بالقنصلية الإيطالية. 

- أنا مواطنة إيطالية.

فى ساعة الخطر، تركن لمن يستطيع حمايتك أكثر، انسحبوا فى تذمر مكتوم.

أجلس على الكرسى فى مواجهة الزجاج، صفحة السماء الصافية، مغطاة بالنجوم، القمر غير مكتمل، وعلى مدى البصر بدت مدينة لا أعرف ملامحها.

دخل رجل جديد، مد يده بأوراق وقلم: نريد أن تكتب كل شىء. 

- أكتب كل شىء؟ عن أى شىء؟

لماذا الورق الأبيض والقلم، لا يوجد جهاز آيباد، كمبيوتر. 

لماذا لا أكتب على كمبيوتر، أكتب بخليط من اللغات العربية والعامية والإنجليزية والإيطالية. 

حاولت أن يكون خطى مقروءًا، وإذا لم أحاول.. مر وقت، كتبت وكتبت، نظر السيد فى الورقة:

- أكمل الكتابة، ما زال لديك الكثير.

- كتبت كل شىء. 

- حاول حاول، نحن نثق بك. 

يضغط على كتفى مهددًا أم مشجعًا!. 

غاب كثير من الوقت، بدأت أشعر برغبة فى حك جلدى، أحاول تحديد الوقت، تلمس أى علامة، 

بدأ الشفق، أواجه الشرق ولا توجد ستائر لهذه النوافذ، لا يوجد مكان أختبئ خلفه، لا يوجد ما يصنع ظلًا أختبى فيه، أفهم هذه الحيل السيكولوجية، علىَّ أن أثبت.. ألم تكن هذه هى اللحظة التى أتمناها وأراوغ أمى وأتحين الفرصة؛ كى أرى شروق الشمس، ها هى الشمس تبعث رسولها الأحمر، يملأ السماء يختنق القمر فى لُجّة الوردى الذى يملأ السماء.

يعود، ينظر ثالثة فى الورقة، يشير لى أن أقترب منه.

- أنت تكتب ما نعرفه، أريدك أن تكتب ما لا نعرفه. 

- وكيف أعرف ما لا تعرفون؟ 

- أنت أذكى من هذا التأخير والبطء.

تبرق فى ذهنى فكرة، أستعيد كل الألعاب النفسية التى شرحها أبى لى، والسماء تزداد كثافة لونها الأحمر، عاد ومعه حقيبة تشبه تمامًا حقيبتى، إنها هى، لا أعرف؟ كل مستلزماتك، موعد روتينك، فتحتها بلهفة، لم أستطع إخفاءها. 

هل تحتاج أن يساعدك أحد؟ 

- لا شكرًا. 

قلتها بسرعة، لا شك أنه سخر منه، فقد احتجت طوال سنواتى لمن يساعدنى فى العناية بجلدى والتغلب على مرضى، أعرف ما يريدون السؤال عنه، لم أرغب فى التطوع، حتى الآن لا أعرف مع من أتعامل، لكن هذه الحقيبة وتوفير كل مستلزماتى والأناقة البادية فى التعامل، هذه ليست جهة سيادية، هذه جهة أجنبية، تعرف ما فعلت أو ربما تخمن، وغير متأكدة، هذه جهة تبحث عن سرها الذى اخترقته. 

جعلنى هذا التفكير، أسترخى، يمكن أن أحضر كوب لاتيه من ماكينة القهوة، أتتبع مولد الشمس بخوف أقل وبمتعة أكبر، أمدد ساقىَّ على كرسى آخر، لقد فككت الشفرة، وهم تسلموا رسالتى واكتشفوا ما فعلته، سيكون بيننا حديث طويل، بجوار ماكينة القهوة، علبة بها قطع شوكولاتة، سوداء وبيضاء، الأسود فى كل شىء هو المفضل لى، أيًا كان ما يريدون فكل ما يعنينى، ألا تقلق أمى أو جدتى، وأبى، خاصة أن إيلين تستعد لإجراء جراحة اليوم.

أنت ملاكى الذى ساندنى فى الحياة لولا أنت لولا طيبتك وهدوؤك وتفهمك لكانت الحياة أصعب أنت من يسر كل الصعاب