رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متوالية الظل «٢»

أبلغ اليوم عامى العشرين، أكثر بعشر سنوات مما قدر لى الأطباء أن أعيش، يا للحظ، كيف أحتفل بهذه السنوات التى قضيتها فى الظل؟ عليك أن تكون ممتنًا لأنك موجود فى الحياة، الوجود فى الحياة نعمة، وماذا إن كُنت فى العدم، هل كنت سأشعر بشىء؟ لا أحد يشعر بالعدم إلا من هو موجود فى الحياة، لكن وجوده لا يرضيه، وجوده ناقص، ما هو الوجود؟ ما هو العدم؟ أغبط حالى لوجودى فى عائلة وفرت لى كل ما هو ممكن من حماية، لحيوان أليف فى قفص. لنبات ظل، لا يوجد حيوان ظل!

تقول ماما، ماذا تريد من الخروج؟ قد لا أريد شيئًا، لكن المنع هو إعاقة، كسر الإرادة، يمكنك أن تتفهم، أن تقبل، لكن لا يعنى ذلك أن ترضى.

بدأت شيخوختى مبكرًا، بدأت مع اللحظة التى لمس فيها شعاع الشمس جلدى، الشيخوخة الطبيعية تستغرق سنوات.. تتراكم التأثيرات الضارة، رويدًا رويدًا، لكن شيخوختى تنفجر على سطح جلدى بدمار وخراب.. حروق، دمامل، أورام، سرطان. 

كم مرة انتقلت للمستشقى؟ خلاياى لا تستطيع إصلاح العطب الذى يصيبها، لا تستطيع أن تصحح أخطاءها، لا توجد مِمحاة، فوطة تنظيف تلمع الغبار عن السيارة المركونة فى جراج البيت.

من أين يأتى العطل؟ العطب؟ تبلى أجزاء الجسم من الاستخدام المستمر، من تراكم العوادم والنفايات نتيجة العمليات الحيوية للخلية، أو بفعل المواد الكيميائية فى الهواء أو الغذاء، أو الدخان. قد تكون الأسباب الأخرى أشياء، مثل الفيروسات والصدمات النفسية، ارتفاع درجة حرارة الجسم، تتراكم الأضرار، حتى تغلب قدرة الخلايا على الإصلاح الذاتى، تفقد الخلايا قدرتها على التجدد. 

تضعف حواسى.. سمعى، نظرى، إدراكى، تركيزى.. أبذل جهدًا كبيرًا؛ كى أخفى هذا التدهور عن أمى، كل تدهور أخفيه عن أمى، تكتشفه بانتظام، عند الكشف الدورى كل ثلاثة أشهر.

أنا أنمو نموًا سلبيًا، نموًا هدامًا يؤدى للشيخوخة، أنا كل البضائع والمنتجات التى رفضتها رقابة الجودة، لعيوب فى التصنيع، ليس ما بى فوضى، أنا أخضع للقانون، أنا مستسلم، أطيع كل التعليمات.. أنتظم فى ترطيب جلدى ٤ مرات فى اليوم، دهان كامل الجسم، كل ست ساعات، هل تمل؟ لا، أنا أطيع التعليمات؛ لأنه ليس لدىّ خيار آخر، فى الطاعة والالتزام تخفيف للضرر والألم. لا مغامرة، كل مغامرة عواقبها سلسلة من الألم، ليس خوفًا أو إيمانًا، إنه الحتمية.. 

عالمى مصنوع، مغلف تمامًا، بلا حروب لا توجد حكاية، بلا صراع، لا توجد حكاية. 

وأنا أصارع الضوء، أصارع نفسى من الداخل، المرض المناعى، جيناتى، فتتكالب علىّ أشعة الشمس، كل ما يمكن أن يقوى الآخرين يضعفنى، جلدى حصن دفاعى الأول، مهترئ، مفتت ليس قادرًا على مواجهة أشعة الشمس، يعجز عند مواجهة الحقيقة، الوضوح، فأعيش ليس فى الظلام الدامس، ولكن فى الظل، حيث ليس الشر متجسدًا كاملًا، ولكن بَين بَين، فلا تسيّدت فى مملكة الظلمة وأخذت قوتها، لست الشيطان أو دراكولا، وليس لى أن أعيش حياة طبيعية بما فيها من حزن وفرح. 

اللعنة التى ورثتها..

اجتماعهما هو سبب بلائى.. ماذا لو تزوجت رجلًا آخر، ماذا لو اختار امرأة أخرى، يضيق ملعب اختبارى خلف هذه الجدران.. أحيانًا ما أشكر الله، وأشكر ماما لكل ما قدمته لى، كل التسهيلات والحماية.

أود لو أظهر للشمس، أود أن أخلع كل أرديتى، التخلى عن الحماية الأمومية وأنتهى وأذوب، لو أن ما سأفعله يؤدى لميلاد جديد، لو أن عذابى واحتراقى يجدد جلدى وأعود مطهرًا، خاليًا من الشقاء، من الوهن، من الألم، من العلل، لو أنى أعود بجلد جديد، أرتدى حُلة الصحة، المرض يصيب الروح بالسقم، ماذا لو أنى واجهت الشمس؟ فارتحت واسترحت، لكن النهاية لا تكون عاجلة، سريعة، لست فامبير يتلاشى بسرعة خاطفة، سأعيش شهورًا، أتعذب وأعذب كل من حولى قبل أن تنسحب روحى. 

بقائى فى الخلفية، فى الانسحاب، فى الظل. 

وجودى فى نقصى، محاطًا بعناية أمى وأبى وجدتى، أنا مركز هذا العالم، ليس العالم المجيد، القوى، لكنه العالم الخائف، القلق.

من المثير للسخرية أن أرغب فى أن أعيش حياة طبيعية وأنا نفسى شخص غير طبيعى.

يتبع..