رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

متوالية الظل «3»

خرجت من العيادة، وقفت تنتظر الأسانسير، قررت أن تنزل السلم، نادرًا ما يستخدمه أحد، أرادت الهروب من وجودها وسط السلم، لم تكن تستطيع، خشيت من القطط وانتشار أكياس القمامة والشقق والأبواب المفتوحة لعيادات أخرى، نزلت لدور واحد وقفت أمام أسانسير الدور السفلى، ليست لديها طاقة للحركة وهى التى كان المشى محركًا لها، ومفيدًا فى حالات الإحباط، لكنها الآن حزينة ومكبلة، ثقلها على كتفيها وساقيها، تمنت أن يختفى كل من حولها، تحتاج أن تجلس، تريد أن تسرع للسيارة، لكنها لا تستطيع، تتضخم فى سمعها أصوات أهالى المرضى، وتسود ملابسهم السوداء رائحة خانقة لوجود إنسانى مهترئ ومريض. جاء الأسانسير فدخلت وانزوت فى أحد أركانه، استندت إلى جداره، لاحظت طولها، ظهرت نظارتها من فوق رءوس الركاب، هذا الطول!! تقول أمها: المرأة الطويلة هى الأقل خصوبة. 

الخصوبة أو العقم، كلها نتائج لأسباب، كل شىء، كيمياء يمكن ضبطها بالعلم. 

زوجة أخيها قررت أن تنجب طفلة، لا تريد مزيدًا من الذكور، كل امرأة ارتبطت بذكور هذه العائلة ضحت بنفسها وبامتدادها البيولوجى، ربطت هذه الفكرة بينهما بصداقة، لم تتوقعها، تقول: أريد بنتًا تشبهنى، تقلدنى، أريد أن أرى نفسى فيها.

أعجبت بشجاعتها وإصرارها على اختيار أن تنجب بنتًا. 

فى أيام حملها، تمنت أن تلد ولدًا، يدللها ويهتم بها كما كان رامى يدلل إيلينا.

أسندت ظهرها لمقعد السيارة، تأكدت من شد فرامل اليد، أغلقت الزجاج، أشار لها السايس إن كانت ستخرج، أشارت بيدها ورأسها. 

ماذا تفعل، هذه الضربة الثانية، الزوابع التى لا تنتهى والعناد والمقاومة. 

كل التفاصيل الخاصة، كيف تحميه وهى المسئولة عن نقل المرض له؟، هى التى وافقت على الزواج، ورغبت فى الزواج من رامى.

تسترجع صورته، الطفل الذكى والمفعم بالحيوية صاحب الوجه البدر والعينين البُنيتين الكبيرتين، مثل أى طفل آخر يبلغ من العمر ٥ سنوات.

كيف تصارحه؟ كيف سيكون رد فعله، هل سيستوعب ما ستقوله، تتخيل مستقبله وحيرته. 

يعتصر الألم قلبها وهو يحاول معرفة حدود عالمه، الحدود التى يستطيع التحرك داخلها بأمان، عيناه البنيتان الواسعتان تطرحان الأسئلة التى لا تنطق بهما شفتاه المزمزمتان، يحاول الآن معرفة المكان المناسب له فى عالمه. هل أسماكى الذهبية مصابة؟ إنها لا تخرج من الماء. «أقول له لا، ولكن ربما يكون سانتا كلوز قد فعل ذلك، أو ربما جنية الأسنان»، «إنهم لا يخرجون إلا فى الليل». 

ستخبره: أن كل شخص لديه شىء لا يمتلكه شخص آخر. إنه فقط يجعلهم مميزين.

أخذت تدور فى شوارع المدينة، علّها تستطيع ترتيب أفكارها، وصلت البيت متأخرة، حرصت عند صعودها إلى غرفتها مباشرة، ألا تمر بغرفته.

فوجئت به على بابها، نصف نائم. 

- ماما أنا خائف.

لم تسأله عن سبب خوفه، هى تعرف.. أشارت له أن يقترب.. أفسحت له مكانًا إلى جوارها فى السرير، فردت ذراعه كى ينام عليه، استكان خده على ساعدها، أخذت تمسك شعره وتطبطب على ظهره، لديها كلام كثير يتردد فى داخلها، لكنها لا تستطيع النطق به، كل الكلمات مواساة وتصبير وهى تخشى أن ينفجر حلمه وصبره، تخشى أن تقول: «معلش». 

وجدت نفسها تردد: معك حق. 

أرادت للموقف أن يمر، أرادت لليوم أن يمر. وضع خاتمة لليوم. نهاية قفلة. لا يهم ما سيأتى بعدها، عندما تشعر بخوفه أو ألمه.. لا يعنيها شىء فى العالم غير أن تمر هذه اللحظة مهما طالت ساعة أو اثنتين، تود لو يتجمد الزمن، عند كفها وهو يربت على كتفه، فقط أنا أسمعك، أنا أتعاطف معك، لا تجرؤ على قول «أنا أشعر بما تشعر به». تخشى أن يرفضها، أن ينفجر فى وجهها.