جراجات شاطئية تطعن عقلى
ساعة وأنا أقف متجمدة، أتابع من شرفة فندق إقامتى بالإسكندرية فى سابا باشا، اصطفاف عدد من السيارات فى انحناءة بيضاوية داخل لسان صناعى يمتد داخل البحر، شبه جزيرة صناعية من الصخور الخرسانية المسلحة، عند نادى المهندسين، جهد بشرى مبذول، وتحدٍ للطبيعة وأموال مصروفة من أجل تحويل الشاطئ إلى جراج لركن السيارات.. ما أعرفه أن تكون الجراجات تحت الأرض، أسفل العقارات، أماكنها الشوارع الخلفية، أن يتم تحويل أثمن وأغلى بقعة فى المدن الساحلية وهو الشاطئ فهذا بالنسبة لى العبث الكامل، التجلى المبهر للامنطق، وأن يكون هذا الاستخدام تحت سمع ورعاية نادى المهندسين، المهندسين، البناءين، خريجى كليات الهندسة، المسطرة على شكل حرف تى، نظريات فيثاغورث، حساب المثلثات، المنطق، الهندسة الفراغية، ويوافقون على هذا العبث، ومن أجل أى شىء؟ من أجل زيادة الموارد للنادى؟ للمحافظة؟ طيب يا جماعة ممكن: إذا كانت الحكاية الفلوس الفلوس، الموارد الموارد، ما نزرع المخدرات، ونهرب آثار، إيه الفرق؟، التشريعات القانونية؟ تشريعات إيه؟ ما التشريعات تشريعاتنا والقوانين قوانينا، ومن لا يحترم قوانين البيئة والحق فى المنفعة العامة، من لا يحترم أسس الهندسة وفلسفة الجمال علنًا وبفجاجة أمام الجميع، ماذا يفعل فى الخفاء؟، يا الله تبرق فكرة فى ذهنى معقول! لا أحد يعترض لأن الوضع الذى أراه معيب جماليًا وهندسيًا وكيميائيًا و.. يشبع هوى فى النفس، يدغدغ رغبات الامتلاك والاستحواذ والتميز عن بقية خلق الله، أنا أدخل النادى بسيارتى وأركنها فى أميز بقعة داخل البحر، ومن أجل هذا التمييز يمكن التغاضى عن المنطق والصواب. ويمكن أن نعمم التجربة وننشرها فى أكثر من منطقة بطول الكورنيش، وتتحول الشواطئ من أماكن للمرح والتنفس والاصطياف إلى جراجات للسيارات، والمبررات جاهزة.. الموارد.. الموارد، تختفى معالم المدينة تتشوه، بكافيهات ومطاعم وكتل خرسانية تخنق البحر، وتنشر رائحة الزيت المقلى للوجبات السريعة وتضيع رائحة اليود، تضيع الرائحة المنعشة التى اعتدنا أن تقابلنا نحن الغرباء القادمين من طريق قناة السويس بمجرد الصعود من النفق لنشعر بالفرق بين القاهرة المزدحمة والمتكدسة بسياراتها، والكتل الخرسانية لكباريها وأكشاكها التى حولت قلب الميادين الأنيقة إلى أسواق شعبية يقف المواطنون المنهكون فى طوابيرها طلبًا للسكر أو الأرز أو اللحم.. وكأنه لا فكاك من العشوائية وقبح تصدير البقالة والزيت والجزارة والكتل الأسمنتية الرمادية التى تحاصر القاهرة وتخنقها، فتصدمك الإسكندرية وتلطمك على وجهك بهذا الوجه القبيح المشوه، لبحر طالما سحرنا، وشواطئ طالما تغنينا بها.
وصلت الإسكندرية للمشاركة فى ندوات معرض مكتبة الإسكندرية للكتاب، حدث ثقافى مهم يحتاج الدعم والتشجيع، التقيت مبدعين سكندريين.. شبابًا وأطفالًا.. فرح حقيقى وأمل متجدد، اعتزمت الكتابة عنه، كما صورت حلقة من برنامجى أطياف حول فعالياته..
ولكن اعذرونى فمنذ وصلت المدينة وأنا أفتقد رائحة البحر، أفتقد رؤية البحر مباشرة فى كثير من مناطق الشاطئ وتمتلئ خلايا الشم عندى برائحة «زفرة» رائحة نفايات وصرف صحى، رائحة استهلاك وصخب وسفه، أنكرت الأمر للوهلة الأولى، أنا أحب الإسكندرية، وما أراه تهيؤات بسبب إجهاد السفر، لكن إطلالة من شرفتى وحركة سيارات تتراص على محيط قوس بيضاوى وأمواج ترتطم بصخور خرسانية، وتنشر رذاذها على زجاج السيارات، أفسد صباحى وإحساسى بالفرح بفعاليات المعرض، فما فائدة الثقافة إذا لم تجعلنا نُقدر مواطن الجمال ونرفض كل صور القبح، ما فائدة الثقافة إذا لم تنقل لنا قصة الطفل الذى لم يخرس التلوث لسانه، وصاح الملك عار.. والله الملك عار والتاجر الذى وسوس بالفكرة عار، والمهندس الذى نفذ عار، كلهم عراة، كلنا عراة، ولا يوجد قماش يستطيع أن يغطى هذا العوار، لا يوجد كفن يستر الضمائر المتحللة، لا توجد مناديل معطرة تغطى الرائحة التى تزكم الأنوف.
أيها المهندسون إذا انعوجت مسطرة حرف «تى» فأى مسطرة يمكنها أن تستقيم؟!