رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آمال موسى تكتب : للأزمات إيجابيات أيضًا

آمال موسى
آمال موسى

مسار الإنسان وطريقة تعامله مع المشكلات التى تعترضه يشبه إلى حد كبير مسار الدول والمجتمعات أيضًا. فالمشكلة تُقوّى الإنسان، وفى هذا المعنى تندرج مقولة: إنّ الضربة التى لا تقتل تقوّى. بل إنّه من غير الممكن قياس القدرة والإرادة واكتشاف الكفاءة وقوة المناعة بأبعادها المختلفة النفسية والصحية إلا من خلال الأزمات، التى يمكن أن تعترض طريق الفرد أو المجتمعات أو الدول.

طبعًا لسنا بصدد تقديم مديح للأزمات، فهى مقوّم من مقومات وجود الحياة ذاتها، الأمر الذى يُحتّم التعامل معها ضمن مكونات الواقع وتحديد استراتيجيات للدفاع عن الإنسان والمجتمع والدولة ضد الأزمات.

فى هذا السياق نشير إلى أزمة جائحة «كورونا» التى أربكت العالم وأدخلته فى حالة فزع وصدمة، بدأنا نتجاوزها من خلال التكيف والتدرب على التعايش والقبول بها واقعًا.

وإذا أردنا تكثير إيجابيات جائحة «كورونا»، رغم طابعها المأساوى وما خلّفته من أحزان فى قلوب ملايين من البشر الذين فقدوا أحباءهم، إضافة إلى الذين تضرروا اقتصاديًا من فقدان عملهم، فإن الأمر يبدو لنا ممكنًا جدًا.

أول إيجابية جديرة بالإشارة أن هذه الجائحة أظهرت بالنسبة إلينا كدول عربية طبيعة النقائص الموجودة بشكل دقيق وقابل للقياس. وهذا أمر مهم للغاية خصوصًا أمام غياب الدراسات الكميّة. عرفنا النقائص فى قلب الأزمة، وأدركنا الملفات ذات الأولوية بالمعالجة وإيجاد الحلول. تم التعرف إلى مشكلات البنية الصحية وواقع الخدمات فى هذا المجال. وتبين للجميع واقع التعليم، وإلى أى مدى يمكن الرهان على التعليم عن بُعد فى الأزمات، وهل الأموال التى تنفَق منذ سنوات طويلة حول التعليم عن بُعد قابلة للتوظيف حقًا فى الأزمات وللتعميم على الطلبة، أم أن المسألة جزئية وما زالت تحتاج إلى رفع التحديات وتجاوز العقبات الكثيرة؟

بسبب جائحة «كورونا» أدركنا مجددًا كم هى الأمور مترابطة ومتشابكة، حيث إن الفقر والتخلف الرقمى وهشاشة القطاع الخاص تمنع بناء مناعة ومنوال صامد ضد الأزمات. فنسب الفقر وأشكاله، وأيضًا ظاهرة البطالة وتفاقمها، وتواضع أداء القطاع الخاص فى معظم الدول العربية، تجعل العديد من المجالات الحيوية تقع فى أزمة عميقة فى فترة الأزمات.

لعل المشكلة الأكبر أن القطاع الخاص لم يعرف كيف يثبت أنه ينتمى إلى المجتمع الذى يخلق الثروة منه وبفضله. لقد كان أداء القطاع الخاص ضيقًا، حيث اكتفى بمشكلاته، والحال أن الكثير من بلداننا انخرط فى تشجيع القطاع الخاص وبدأت الدول تخفف من تدخلاتها لفائدة رأس المال الخاص.

وفى هذا السياق وجدت الدول نفسها معنية باستعادة دورها الاجتماعى الكبير فى القطاعات الحساسة مثل الصحة والتعليم. ذلك أن القطاع الخاص فى غالبيته أسهم فى تعميق تداعيات الأزمة، سواء من خلال غلاء الأسعار أو التكلفة الباهظة جدًا لمعالجة مرضى «كورونا»، أو تسريح العمال والموظفين فى قلب الأزمة وخلق أزمة اجتماعية. هنا طبعًا نطرح مسألة دور القطاع الخاص فى مرحلة الاستقرار وفى فترة الأزمات، وهى قضية من المهم التفكير فيها وطرحها للنقاش العمومى، وأيضًا من المهم وضع مخرجات واضحة وملزمة.

وإلى جانب ذلك، لا مفر من استعادة الدولة فى بلداننا للدور الاجتماعى بأكثر قوة فى التعليم والصحة، وأن تتريث المضىّ بسرعة نحو الخصخصة.

أيضًا من إيجابيات الأزمات أن النخب التى تتعاطى بالأساس مع المقولات والأفكار والنظريات الفكرية الكبرى، قدمت لها أزمة «كورونا» فرصة ذهبية للملاحظة ولإسقاط الأفكار الكبرى على أرض الواقع والتجربة، ومن ثم القيام بالتعديل اللازم بقوة الواقع. وهى مسألة مهمة جدًا، لأنها تضفى حيوية على الخطاب الفكرى الفوقى، وتجعل الواقع يدب فيه مما يخلق علاقة قرب من الناس ومع الفكرة ذاتها، وكل هذا يصب فى رصيد النخب التى تعرف أزمة دور وأزمة تأثير. من هذا المنطلق فالأزمات هى فرصة لا تلتقطها إلا النخب الذكية التى فعلًا تريد أن تؤدى دورًا حقيقيًا فى الإصلاح وفى النقد.

لنقل إن الأزمات تجعل من كل النقائص ظاهرة للعيان. الأزمات تهزم ثقافة الشعارات وتفرض على الجميع الواقعية. وكم نحن فعلًا فى حاجة إلى الواقعية البناءة التى تجعلنا نتصالح مع الواقع من دون أن نقبله كما هو. هو تصالح بمعنى الاعتراف به وبكل ما يعتريه من ثغرات ونقائص.

الوجه الذى يهمنا من الأزمات ليس الذى يُوجع ويُربك ويُظهر مَواطن الضعف، بل إن الأهم هو ما تقدمه لنا الأزمات من حقائق وما تكشفه لنا من ترتيب جديد للأولويات ومن برامج تحتاج إلى إعادة نظر، وأيضًا من مخططات وتوجهات كبرى لا مفر من كبح جماحها وتعديل معدل السرعة فيها.

الأزمات فرصة أيضًا، ولكن بشرط حسن التقاط الفرصة واستنفار كل ملكات الانتباه والجدية فى الانتباه.

نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية