رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مُعضلات مصر فى غزة.. نُعيد القصة من الأول!

نالت توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى للحكومة، ممثلة فى المجموعة الوزارية الافتصادية، خلال إطلاق النسخة الثانية من المؤتمر العالمى للصحة والسكان والتنمية البشرية، بضرورة مراجعة الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، عند اجتماعاتها المقبلة معه، وإجراء مفاوضات بشأن الإجراءات الخاصة ببرامج الدعم وسعرالصرف- إشادات خبراء الاقتصاد، خصوصًا أن معدلات الغلاء والتضخم أصبحت تمثل الهاجس الأول لدى المواطن على كل المستويات الاجتماعية، خلال الفترة الأخيرة، فيما يتعلق بالزيادات المتتالية منذ مارس الماضى فى أسعارالمشتقات البترولية، وبالتالى معدلات التضخم التى زادت بشكل ملحوظ.. ورأوا أن زيادة التضخم على مدى ستة شهور قللت من فاعلية السياسة النقدية المتشددة للبنك المركزى المصرى، حيث رفع البنك سعر الفائدة خلال نفس الفترة بنحو 8% منذ الثانى من فبراير حتى السادس من مارس الماضى، وأكدوا أن مصر أصبحت تعانى من خطرين؛ الأول معاناة المواطن اليومية مع الأعباء المعيشية بشكل يفوق طاقته، ما قد يمثل خطرًا محتملًا على النسيج الاجتماعى، خصوصًا أنه لم تحدث زيادات فى الأجور والمعاشات بشكل متوازٍ.. أما الخطر الثانى فهو حدوث تباطؤ فى معدلات النمو الحقيقية، نتيجة ارتفاع سعرالفائدة إلى 28.25% لدى البنك المركزى «الكوريدور»، وتزيد فى البنوك إلى 30%.
وفى ظل هذا التوجيه الرئاسى، يمكن التفاوض مع صندوق النقد الدولى على مراجعة بعض الإجراءات، والجدول الزمنى لتنفيذها بمرونة، تخفيفًا للأعباء الناتجة عن تنفيذها محليًا، خصوصًا ما يتعلق ببرامج الدعم وسوق الصرف.. ومراجعة الخطة بناء على تغير الظروف مع المؤسسات المالية والتمويلية الدولية والإقليمية، ومواجعة مستويات الفقر والإنتاج والبرامج الاقتصادية، إذ أن هناك جزءًا اجتماعيًا فى البرنامج المقرر مع الصندوق.. وهذا يتطلب تشكيل الحكومة لجنة مستقلة من الخبراء، لمراجعة ما تم إحرازه من برنامج الصندوق من قِبل الحكومة والتحديات التى تواجه تنفيذ الباقى فى جميع البرامج، مسترشدين بالدول التى شكَّلت هذه اللجنة بشكل مستقل، لمراقبة البرنامج وتنفيذه، وإفهام القائمين على الصندوق بضرورة الأخذ فى الحسبان «الظروف القاهرية» The Force Majeure، المؤهلة لمراجعة ما سبق الاتفاق عليه، وعلى رأسها الحرب فى قطاع غزة، وحجم الأضرار الناتجة عنها، وألقت بنفسها عند أعتاب مصر.
لقد كانت الآثار السلبية الواقعة على الاقتصاد المصرى، جراء هذه الحرب، من الفداحة، لدرجة أن أفردت لها مجموعة الأزمات الدولية The International Crisis Group، وهى منظمة مستقلة تعمل على منع الحروب وتشكيل السياسات التى من شأنها بناء عالم أكثر سلامًا، تقريرًا بعنوان Egypt’s Gaza Dilemmas، أو «معضلات مصر فى غزة»، جاء فيه أن حرب غزة تفرض العديد من التحديات على مصر، بدءًا من احتمال أن تؤدى العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين إلى شبه جزيرة سيناء، وانتهاءً بتداعياتها على الاقتصاد المصرى الذى يعانى بالفعل من حالة من الصعوبة.. ولنعود إلى بدايات التقرير.
●●●
منذ بداية الحرب فى أكتوبر 2023، رفضت مصر بشدة الفكرة التى طرحها العديد من المسئولين الإسرائيليين، بأن يذهب فلسطينيو غزة إلى سيناء، حرصًا منها على تجنب أزمة اللاجئين، التى من شأنها أن تهدد أمنها القومى، وتزيد من زعزعة استقرار الشرق الأوسط.. وينبع موقف القاهرة من التضامن المبدئى مع القضية الفلسطينية، والشكوك التاريخية فى نوايا إسرائيل تجاه الفلسطينيين.. لكن المسئولين المصريين قلقون أيضًا من أن تدفق الفلسطينيين، بمن فى ذلك المسلحون، إلى سيناء، قد يؤدى إلى إحياء الإرهاب المسلح، الذى اجتاح شبه الجزيرة سنوات.. وقد اتخذ الشركاء الغربيون، منذ منتصف أكتوبر 2023 على الأقل، موقفًا واضحًا ضد مثل هذا النزوح، فى حين تزايد التهديد الفعلى له قبل أن تخف حدته.. لكنه يظل على رأس قائمة مخاوف مصر، خصوصًا فى ضوء التصعيد فى رفح وشمال قطاع غزة، وما أُعلن عن «خطة الجنرالات» التى تدفع سكان شمال القطاع إلى جنوبه، مرحلة أولى، لما قد يأتى بعدها. 
وقد شاركت مصر بنشاط فى الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الحرب.. فإلى جانب قطر، توسطت مصر بين إسرائيل وحماس، سعيًا إلى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، من شأنه أن يسمح بتبادل الأسرى والرهائن، وزيادة المساعدات الإنسانية المقدمة إلى غزة إلى حد كبير.. وقد وفرت هذه الدبلوماسية، كما حدث فى الجولات السابقة من القتال فى القطاع، الفرصة لمصر لإظهار قيمتها المستمرة للولايات المتحدة وغيرها من الأطراف، باعتبارها وسيطًا مؤتمنًا على تحقيق الاستقرار فى الشرق الأوسط.. ولكن الحرب أجبرت القاهرة أيضًا على النظر فى ترتيبات سياسية وأمنية جديدة محتملة فى الأراضى الفلسطينية.. ورغم أن المسئولين لم يتحدثوا بالتفصيل عن هذا الموضوع فى غياب وقف إطلاق النار، فإنهم يدركون أن مصر تأمل، بمجرد انتهاء الحرب، أن تتمكن من دفع إسرائيل والفلسطينيين نحو استئناف المحادثات الرامية إلى تحقيق تسوية شاملة، تقوم على إقامة دولة فلسطينية مستقلة.. وكان أحدثها، ما عرضه رئيس جهاز الأمن العام الإسرائيلى «الشاباك»، رونين بار، على المجلس الوزارى المصغر للشئون الأمنية والسياسية «الكابينيت» عن المحادثات التى أجراها فى مصر بشأن صفقة تبادل الأسرى، وتضمنت «هدنة مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة فى قطاع غزة، دون انسحاب قوات الجيش الإسرائيلى من قطاع غزة»، بهدف استئناف المفاوضات، تمهيدًا للتوصل إلى «صفقة أكبرس.
ومع ذلك، تؤكد حركة حماس أنها متمسكة بانسحاب الجيش من قطاع غزة ووقف الحرب، كشرط لأى صفقة، وليس هناك «تأكيد على أنها مهتمة بالمقترح الجديد»، حسبما ذكرت هيئة البث العام الإسرائيلية، التى نقلت عن مصدر مطلع أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أوفد رئيس الشاباك إلى القاهرة مجددًا «لتحسين المقترح» أمام الجانب المصرى، حيث سيتم فى المرحلة الأولى تنفيذ صفقة يتم فيها الإفراج عن «عدد من الأسرى» الإسرائيليين المحتجزين فى قطاع غزة «مقابل وقف إطلاق نار لعدد من الأيام».. وحسب موقع (واللا) العبرى فإن وزير الدفاع، يوآف جالانت، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلى، هرتسى هاليفى، أبديا دعمهما للمقترح خلال الاجتماع، بينما عارضه الوزيران المتطرفان، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.. ومع ذلك، شدد التقرير على أن «المداولات فى الكابينيت كانت أولية وغير معمقة، ولم يتم التصويت أو اتخاذ قرارات» بهذا الشأن.
لقد كان للصراع فى غزة تداعيات كبيرة، خصوصًا أن مصر كانت تعانى من التضخم المرتفع والديون الكبيرة، حتى قبل أكتوبر 2023.. وفى الأشهر الأولى من الحرب شهدت مصر اضطرابات شديدة فى عائدات صادرات الغاز الطبيعى والسياحة ورسوم عبور قناة السويس، وكان آخرها بسبب القلق فى صناعة الشحن، بعد هجمات الحوثيين فى اليمن على السفن البحر الأحمر.. وبعد أن ناشدت الحكومة الشركاء الأجانب للإغاثة، فازت بتمويل جديد من الاتحاد الأوروبى وصندوق النقد الدولى، بالإضافة إلى استثمار كبير من الإمارات العربية المتحدة.. وقد حقق هذا المال بعض الراحة، ما أدى إلى تجنب أزمة اقتصادية ضخمة.. ومع ذلك، فمن غير الواضح إلى متى ستستمر هذه الراحة.
إن شركاء مصر الأجانب لا بد أن يستمروا فى رفض أى نزوح جماعى من غزة، والضغط من أجل إنهاء الحرب هناك، مع الاستمرار فى دعم لمصر لتشجيع الإصلاح.. إن الخسائر البشرية الفادحة التى خلفتها الحرب تشكل سببًا كافيًا لبذل كل ما فى وسعنا لوقفها، ولكن من الصحيح أيضًا أن مخاطر امتداد الحرب إلى مصر سوف تستمر طالما استمرت.. وحتى الآن، حصلت القاهرة على بعض الاستثمارات من الشركاء القلقين بشأن استقرارها، ولكن هذا النهج قد لا يصمد مع مرور الوقت.. ويظل الاقتصاد مصدر قلق، حيث ستحتاج مصر إلى قدر كافٍ من العملة الصعبة لتلبية التزاماتها بالديون فى المستقبل.. ويشكل تحسين مستوى المساواة بين الشركات المملوكة للدولة والقطاع الخاص ضرورة أساسية لتعزيز النشاط التجارى.. ومن الناحية المثالية، لا بد أن تتخذ الحكومة خطوات أكبر فى الإصلاحات الاقتصادية، لأن القيام بذلك أمر بالغ الأهمية لتعزيز قدرة مصر على الصمود فى مواجهة الصدمات، الحالية والمستقبلية.
●●●
منذ بدأت إسرائيل قصف غزة مباشرة بعد هجوم حماس فى السابع من أكتوبر 2023، كانت أولوية مصر هى منع أى احتمال لنزوح الفلسطينيين بشكل جماعى إلى سيناء.. منذ البداية، خشيت القاهرة أن تسعى إسرائيل إلى طرد سكان غزة، أو خلق الظروف التى تؤدى إلى فرارهم، من خلال القصف المكثف العشوائى الذى يدمر البنية التحتية المدنية.. فى المراحل الأولى من القتال، تزايد قلقها، وسط دعوات من المسئولين الإسرائيليين الحاليين والسابقين، لطرد الفلسطينيين من القطاع.. وكان الموقف الواضح ضد هذا التهجير، الذى بدأ فى منتصف شهر أكتوبر، من جانب الولايات المتحدة وغيرها من الشركاء الغربيين، سببًا فى تهدئة المسئولين فى القاهرة إلى حد ما، ولكن مخاوفهم عادت إلى الظهور، مع تعثر محادثات وقف إطلاق النار، خلال شهرى مارس وأبريل التاليين.. وأدت العملية العسكرية الإسرائيلية فى رفح، وما يجرى الآن فى شمال القطاع، إلى تفاقم المخاوف بشأن طرد الفلسطينيين. 
قال الرئيس عبدالفتاح السيسى، مرارًا وتكرارًا، إن أى إجراء من هذا القبيل سيكون بمثابة تجاوز للخط الأحمر.. ولا يُعرف على وجه التحديد، كيف سترد مصر إذا تم تجاوز هذا الخط، ولكن لا شك أن العلاقات مع إسرائيل سوف تتأثر سلبًا.. وفى السر، يشير بعض الدبلوماسيين إلى أن القاهرة قد تذهب إلى حد تعليق معاهدة السلام لعام 1979، التى أنهت عقودًا من العداء الرسمى بين البلدين.. إن الموقف المصرى متجذر جزئيًا فى المبدأ.. فالقاهرة لا تريد أن يُنظَر إليها باعتبارها شريكة فى تدمير الحركة الوطنية الفلسطينية وطموحاتها السياسية.. ولطالما خشيت السلطات المصرية تكرار أحداث عام 1948، المعروفة بـ«النكبة»، عندما أُجبر الفلسطينيون على الفرار من وطنهم، ومنعتهم الدولة الإسرائيلية الجديدة من العودة.. إن هذا الحل من شأنه أن يحول المزيد من عبء القضية الفلسطينية إلى الدول العربية.. والشكل الأكثر شمولًا لتحويل هذا العبء، هو ما يسمى بـ«حل الدول الثلاث»، حيث تسعى إسرائيل إلى إعادة السيطرة على غزة إلى مصر وأجزاء من الضفة الغربية إلى الأردن.. ورغم أن هذه الأفكار قد تبدو بعيدة المنال، فإن المسئولين المصريين يشتبهون فى أن إسرائيل، أو على الأقل أجزاء من جسمها السياسى، لديها مثل هذه الخطط طويلة الأجل.. مع أن أى طرد أو تهجير جماعى آخر، من شأنه أن يقضى على أى أمل فى إقامة الدولة الفلسطينية، وهى القضية التى يتضامن معها المصريون بكل إخلاص. 
داخل الدوائر الرسمية المصرية، تختلط الأسئلة المبدئية بمخاوف عميقة الجذور بشأن الأمن.. فقد خسرت مصر شبه جزيرة سيناء لصالح إسرائيل فى حرب عام 1967، ولم تستردها بالكامل إلا فى عام 1982، فى أعقاب حرب عام 1973 والدبلوماسية التى بلغت ذروتها فى معاهدة السلام عام 1979.. وخلال فترة ولاية الرئيس الإخوانى، محمد مرسى 2012/ 2013 اشتبهت أجهزة الأمن فى أنه ربما يتواطأ مع الجماعات المتأسلمة فى الأراضى المحتلة، لإنشاء تحالف إسلامى فى سيناء.. ولكن هذا لم يحدث، ولكن نسخة من نفس السيناريو تطارد مسئولى الأمن اليوم.. فعلى مدى عقود من الزمان، اجتاحت حركة الإرهاب، وفى بعض الأحيان المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، شمال سيناء، وفى بعض الأحيان تعاونت مع المتشددين فى غزة وإن لم تتعاون مع حماس، التى تعارض داعش ويخشى المسئولون أن يؤدى تدفق الفلسطينيين إلى شبه الجزيرة إلى تشجيع هذه الحركة.. كما يخشون أن يؤدى وجود عدد كبير من السكان الفلسطينيين فى سيناء، إلى تحويلها إلى منطقة انطلاق لشن هجمات على إسرائيل، ما يترك مصر فى موقف غير مرغوب فيه، حيث يتعين عليها قمع مثل هذا النشاط، أو التعرض للانتقام الإسرائيلى.. ومنذ الأيام الأولى للحرب، نقلت القاهرة هذه المخاوف إلى شركائها الغربيين.
●●●
بعد جهد حثيث من مصر، تبنت القوى العالمية فى أغلب الأحوال مواقفها الواضحة ضد هذا التهجير.. ففى الأيام القليلة الأولى من الصراع، عرض الزعماء الأوروبيين على المسئولين فى القاهرة حوافز مالية، مثل إلغاء الديون، فى مقابل قبول مصر للاجئين الفلسطينيين.. ولكن فى الخامس عشر من أكتوبر، أشار مستشار الأمن القومى الأمريكى، جيك سوليفان، إلى أنه «فيما يتصل بالمسألة الأوسع نطاقًا، المتمثلة فى ما إذا كان بوسع أولئك الذين يغادرون العودة، فإن الولايات المتحدة لديها اقتراح بسيط للغاية فى هذا الشأن: إنه عندما يغادر الناس ديارهم فى صراع، فإنهم يستحقون الحق فى العودة إلى تلك الديار.. وهذا الوضع ليس مختلفًا».. ومنذ ذلك الحين، عارضت العواصم الغربية بشدة أى فكرة تطالب بإجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة.. ورفضت القاهرة بشدة فكرة أن يتم رشوتها لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين.. وكما قال دبلوماسى أمريكى: «هناك خط أحمر واضح فرضه المصريون، وسوف نحترمه».. ومن المؤكد أن رفض مصر فكرة التهجير القسرى للفلسطينيين إلى سيناء، كان له دور فعال فى إرساء الإجماع الدولى ضد مثل هذه الخطة. 
لقد تفاقمت مخاوف مصر من النزوح الجماعى مع توغلات إسرائيل فى أجزاء من رفح.. ففى السابع من مايو سيطرت القوات الإسرائيلية على الجانب الفلسطينى من معبر رفح الحدودى، وأغلقته مؤقتًا، «كما أغلقت معبر كرم أبوسالم بين غزة وإسرائيل لفترة من الوقت، بعد أن أسفر هجوم صاروخى شنته حماس عن مقتل جنود إسرائيليين هناك».. وفى الأيام التالية تباطأ تدفق المساعدات إلى القطاع إلى حد كبير، الأمر الذى هدد بتفاقم الوضع الإنسانى المتردى بالفعل.. ووصف مسئول أمريكى مصر بأنها «غاضبة» إزاء هذه التحركات الإسرائيلية.. وأصدرت وزارة الخارجية بيان احتجاج، أدانت فيه على وجه الخصوص احتلال إسرائيل للجانب الفلسطينى من معبر رفح.. وفى تصريحاته التى حذر فيها إسرائيل من شن غزو عسكرى شامل لرفح، أبدى الرئيس الأمريكى، جو بايدن نفس النبرة، مشيرًا إلى أن العمليات الإسرائيلية كانت «على الحدود مباشرة.. وهى تتسبب فى مشاكل فى الوقت الحالى مع مصر».. ومع توسع التوغلات الإسرائيلية فى رفح، أعلنت مصر عن نيتها التدخل رسميًا لدعم قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، فى محكمة العدل الدولية.
ورفضت مصر أيضًا طلبات إسرائيلية بالسماح بتحويل شحنات المساعدات التى كانت فى طريقها بالفعل إلى معبر كرم أبوسالم، خوفًا من أن تشكل هذه الخطوة قبولًا فعليًا بوجود حامية إسرائيلية على معبر رفح، وتخفيف الضغوط الدولية على إسرائيل لوقف عملياتها.. مع أن هذا الموقف يعمق الضائقة الإنسانية فى غزة، الأمر الذى أثار قلق المسئولين الأمريكيين ومسئولى وكالات الإغاثة، الذين يأملون فى إقناع مصر بتغيير نهجها، ولو مؤقتًا على الأقل، لكن مصر كانت تنظر للفائدة الأعظم، وهو الحفاظ على الحقوق الفلسطينية دون نقصان.. كما أدت عمليات التوغل فى رفح إلى تضخيم المخاوف من احتمال قيام الفلسطينيين فى غزة بمحاولة اقتحام الحدود فى حالة من الذعر بعد أن أسفر الهجوم الإسرائيلى وقتها عن مقتل أكثر من اثنين وثلاثين ألف فلسطينى وتشريد 75% من سكان القطاع البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة.. وقد لجأ العديد من هؤلاء الناس إلى رفح.. واقترح أحد المسئولين المصريين أن إسرائيل، من خلال إجبار الفلسطينيين على التجمع فى الجنوب، قد تجبر القاهرة على قبول اللاجئين كوسيلة وحيدة لتجنب كارثة إنسانية أعظم.
وبدا أن أحد الدبلوماسيين الأمريكيين يشاطر هذا القلق، حيث قال إنه فى ضوء القدرة المحدودة لقطاع غزة على إيواء النازحين داخليًا، وعدم كفاية المساعدات الإنسانية التى تصل إلى القطاع، فإن مصر قد تشعر بضغوط متزايدة لاستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، لتخفيف الظروف الرهيبة داخل القطاع.. ويبدو أن مشاهد الفلسطينيين الذين تم اقتلاعهم من منازلهم، هربًا إلى مدن الخيام فى رفح، تثير هذا الشبح.. فى فبراير، بدا الأمر للبعض وكأن مصر تتخذ التدابير التحضيرية لهذا السيناريو.. وأشاعوا أن القاهرة بدأت بهدوء فى بناء منطقة عازلة على طول حدود غزة، لاستيعاب ما يصل إلى مائة ألف لاجئ، رغم أن السلطات المصرية كانت غامضة بشكل مفهوم بشأن الغرض من هذه المنطقة.. ونفى محافظ شمال سيناء فى بادئ الأمر التقارير التى تحدثت عن المنطقة العازلة، وأكد قائلًا إن العمال كانوا يقومون ببناء مركز لوجستى للمساعدات الإنسانية.. وفى سياق منفصل أشار وزير الخارجية وقتذاك، سامح شكرى، إلى أن نزوح الفلسطينيين إلى سيناء أمر غير مقبول، لكن مصر مستعدة للتعامل مع أى وافد «بشكل إنسانى».. وعلى نحو مماثل، نفى مسئول مصرى أن يكون البناء مخصصًا للنازحين الفلسطينيين، لكنه أضاف على الفور أن «هذا لا يعنى أننا لن نخدم النازحين، إذا تسبب الهجوم على رفح فى تدفقهم».
●●●
سلطت أحداث رفح الضوء على الخط الأحمر المصرى المتعلق بمحور فيلادلفيا، المعروف أيضًا باسم «محور صلاح الدين»، وهو شريط ضيق من الأرض يمتد على طول الحدود بين مصر وغزة.. وفى أوقات مختلفة أثناء الحرب، أشار المسئولون الإسرائيليون إلى نيتهم فى السيطرة على الممر، بزعم أن مصر غير قادرة أو غير راغبة فى وقف تهريب الأسلحة الذى يحدث تحته.. وقد أعرب المسئولون فى القاهرة عن عدم ارتياحهم لوجود جنود إسرائيليين بالقرب من منشآت مصرية حساسة، إذ أنه إذا بقيت إسرائيل عند الحدود فإنها ستكون لها السيطرة الكاملة على جميع المعابر إلى داخل غزة وخارجها.. وطلبت مصر من الحكومات الغربية إيصال رسالة إلى إسرائيل بأن خرق حدود غزة و/ أو احتلال ممر فيلادلفيا من شأنه أن يعرض الأمن القومى المصرى للخطر بشكل غير مقبول، مع ما يترتب على ذلك من عواقب على المنطقة الأوسع.. فإلى جانب القلق بشأن تدفق اللاجئين، تشارك القاهرة بنشاط فى الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب فى غزة أو على الأقل تحقيق وقفة طويلة الأمد.. واحتفظت مصر بدور مركزى فى المسائل المتعلقة بغزة، بحكم موقعها الجغرافى وارتباطاتها القديمة بالقطاع.. فى السنوات الأولى من رئاسة الرئيس السيسى، اتبعت القاهرة خطًا صارمًا ضد الحركات الإرهابية، سواء داخل مصر أو فى أماكن أخرى فى الشرق الأوسط، وقد مكن هذا مصر من استعادة مكانتها كوسيط فى جولات القتال المختلفة بين إسرائيل وحماس فى السنوات اللاحقة. 
وكانت جهود مصر هذه المرة الأكثر وضوحًا منذ ديسمبر 2023، عندما طرحت مبادرة لوقف إطلاق النار، تعتمد على تنازل حماس والجهاد الإسلامى عن السيطرة على القطاع، لمجموعة من التكنوقراط الفلسطينيين البعيدين عن الفصائل السياسية الرئيسية، مقابل وقف دائم للأعمال العدائية.. وقد حدد الاقتراح وقف إطلاق النار على مراحل، لتمكين إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والسجناء الفلسطينيين، فضلًا عن عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة.. وقد استضافت القاهرة مناقشات مستمرة منذ ذلك الحين، ويبدو أنها تعمل بشكل وثيق مع قطر، التى توسطت أيضًا، وحملت رسائل بين الأطراف المختلفة.. ومع تعرض علاقات قطر بحماس لتدقيق متزايد فى واشنطن، حيث يوجد للحركة مكتبها السياسى فى الدوحة تولت مصر دورًا أكثر مركزية فى الجولات الأخيرة من المحادثات.. والأمر الحاسم، هو أن مصر، إلى جانب قطر، نقلت ضمانات مختلفة من الولايات المتحدة إلى حماس، بشأن استمرار وقف إطلاق النار فى نهاية المطاف، إذا امتثلت لشروط الاتفاق المرحلى.. وعلى هذا الأساس، أعلنت حماس عن أنها قبلت وقف إطلاق النار على مراحل، فى السادس من مايو، قبل أن تدخل إسرائيل إلى رفح.
●●●
لقد خلفت حرب غزة أيضًا تداعيات اقتصادية كبيرة على مصر.. ففى الأسابيع الأولى من الحرب أوقفت إسرائيل استخراج الغاز الطبيعى من حقل تمار البحرى، وأغلقت خط الأنابيب الممتد إلى مصر، خوفًا من أن تستهدف الجماعات المسلحة الفلسطينية هذه البنية الأساسية.. وتستخدم مصر الغاز الإسرائيلى لإعادة تصديره وتوليد الطاقة محليًا.. ولكن سرعان ما استأنفت إسرائيل صادراتها من الغاز إلى مصر فى نوفمبر.. ودفعت المخاوف من اندلاع حرب أوسع فى الشرق الأوسط، العديد من السياح إلى إعادة النظر فى خططهم لزيارة مصر، خصوصًا جنوب سيناء، حيث وصلت نسبة الإلغاءات إلى 25% فى أوائل نوفمبر.. كما عانى الاقتصاد من انخفاض حاد فى عائدات رسوم عبور قناة السويس، وهو مصدر رئيسى للعملة الأجنبية.. كما أدت هجمات الحوثيين على الشحن التجارى فى البحر الأحمر إلى ارتفاع تكاليف التأمين، وشجعت عددًا متزايدًا من شركات الشحن على تجنب هذه المياه، وبالتالى القناة التى تربطها بالبحر الأبيض المتوسط.. وفى أبريل انخفضت عائدات القناة بنسبة 50% فى الربع الأول من العام الحالى.. ورغم أن السفن الحربية الغربية فى البحر الأحمر اعترضت الغالبية العظمى من الصواريخ والطائرات المسيرة التى أطلقها الحوثيون، فقد تصاعدت الهجمات. ففى يناير بدأت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فى تنفيذ ضربات مضادة على مواقع عسكرية للحوثيين فى اليمن، لكن هذه الضربات فشلت حتى الآن فى استعادة حركة الملاحة التجارية.
وبدا الأوروبيون قلقين بشكل خاص، إزاء احتمال أن يؤدى تدهور الأوضاع فى مصر إلى هجرة جماعية.. وبعد أن أدركت العواصم الغربية المأزق الذى تعيشه القاهرة، بدأت تتبنى موقفًا أكثر استيعابًا، لأنها كانت تدرك أن صعوبة الوضع الاقتصادى فى مصر لن يؤدى إلا إلى تفاقم الأزمات فى أماكن أخرى من المنطقة. وفى أواخر أكتوبر بدأت المفوضية الأوروبية العمل على حزمة مالية لمصر دون شروط.. وأوضح دبلوماسى أوروبى أن «الأموال التى وعد بها الاتحاد الأوروبى لمصر، مرتبطة بالخوف من عدم الاستقرار».. ويبدو أن الأوروبيين كانوا قلقين بشكل خاص، إزاء احتمال أن تؤدى الظروف الصعبة إلى هجرة جماعية.. وفى رسالة وجهتها فى أكتوبر إلى زعماء الاتحاد الأوروبى، صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين: «تستضيف مصر عددًا متزايدًا من اللاجئين، ولدينا مسئولية دعمها».
■■ وبعد..
تذكرنا حرب غزة بالأزمة التاريخية والسياسية لمصر فى قضية فلسطين.. ففى عام 1979، عندما وقعت مصر أول معاهدة بين إسرائيل ودولة عربية، أثارت استياء منظمة التحرير الفلسطينية والشعوب فى مختلف أنحاء العالم العربى، من خلال صياغة ما يعادل سلامًا منفصلًا، بعد أن رفض الفلسطينيون المشاركة فى مباحثات القاهرة، للحصول على أرضهم فيما قبل الخامس من يونيو 1967.. وكان اهتمام القاهرة بالتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل، لاستعادة السيطرة على سيناء.. ومن خلال وضع هذه الأولوية، أعادت مصر ترتيب سياساتها الإقليمية، فى ظل الإصرار على حل عادل ودائم للفلسطينيين، وهو النهج الذى أنذر فى بعض النواحى، باتفاقيات التطبيع التى عقدتها دول عربية أخرى مع إسرائيل.. ومنذ معاهدة كامب ديفيد، عام 1979، سعت مصر إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الوطنية، خصوصًا تلك المتعلقة بانعدام الأمن فى سيناء، ودعم القضية الفلسطينية.. وعلى وجه التحديد، كان هذا الجهد يعنى تحمل تبعات محنة الناس فى غزة، مع دعم محاولات التوصل إلى تسوية دبلوماسية، تقوم على حل الدولتين.
واليوم.. ومع دخول حرب غزة مرحلة جديدة وخطيرة، تجد مصر نفسها مرة أخرى فى موقف محفوف بالمخاطر.. فقد عززت مصر المعارضة العالمية للتهجير القسرى من غزة، فى حين نجحت فى تأمين المساعدات والاستثمارات اللازمة للتعامل مع التداعيات الاقتصادية للأزمة.. ولكن المخاطر الجسيمة لا تزال قائمة.. ومن الأهمية بمكان أن يؤكد الشركاء الغربيون وغيرهم على موقفهم ضد التهجير، فى حين يمارسون فى الوقت نفسه الضغوط على إسرائيل وحماس لوقف الأعمال العدائية، وجلب المزيد من المساعدات إلى غزة.. وفى الوقت نفسه، يتعين عليهم أن يوازنوا بين مخاوفهم المفهومة واستقرار مصر فى الأمد القريب، والتركيز على الإصلاحات التى من شأنها أن تعزز قدرة البلاد على الصمود فى الأمد الأبعد.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.