رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قانون «ويستون هيو أودن»

أعود فى الأزمات الكبرى إلى قراءة الشاعر الإنجليزى ويستون هيو أودن، الذى ولد عام ١٩٠٧، وكان ألمع شعراء الثلاثينيات فى بريطانيا، وأكثرهم شعبية وبراعة وشاعرية، كان واحدًا من المثقفين الشيوعيين، وهاجر إلى أمريكا وحصل على جنسيتها، ويقال إن هجرته تلك لم تكن هجرة بقدر ما كانت هروبًا، إثر الاشتباه به من قبل المخابرات البريطانية بمساعدة أحد الجواسيس السوفييت، هذه المسألة التى لم تكن معروفة، ولم يتم الكشف عنها إلا فى وسائل الإعلام البريطانية مؤخرًا. 

كان أكثر الشعراء حضورًا بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، بسبب قصيدة كتبها سنة ١٩٣٩، لقد نجح أودن، الذى توفى فى فيينا سنة ١٩٧٣، فى أن يتحدث عن الديكتاتورية المقنّعة بالديمقراطية، وعن وجه الإمبريالية الذى يحدق إلى نفسه خارج المرايا، يتحدث عن ناطحات السحاب العمياء التى تتلمس طريقها إلى السماء، وعن الوطن الذى يشبه غابة مسكونة بالجن، عن القادة الأغبياء، وعن الجوع، والأكاذيب التى تملأ العالم، لكنه يتمنى فى النهاية أمنية ملتبسة تتطابق فى تفسيرها مع صورة الحدث الإرهابى المروع فى سبتمبر.. إنه يتمنى أن يصبح ذلك اللهب الأكيد المحاصر باليأس والإنكار، القصيدة كتبها إبان الغزو الألمانى لبولندا، وتساءل النقاد، كما كتب تمام تلاوى فى مقال له: هل هى مجرد مصادفة يا ترى أن تتألف هذه القصيدة من تسعة مقاطع؟ هل هى مصادفة أن يتألف كل مقطع من أحد عشر سطرًا؟ لا أعلم حقًا، يقول فى القصيدة:

«فى هذا الهواءِ الحِيادىّ، حيثُ ناطحاتُ السحابِ العمياءُ تستخدمُ، كاملَ ارتفاعاتِها كى تنادى بقوةِ الرجالِ المتحِدِين، وبكلّ لغةٍ تتدفّقُ بعجرفتِها، وبازدحامِ الأعذار، من الذى يستطيعُ العيشَ طويلًا، فى حلم سعيد». بدأ «أودن» مسيرته ثائرًا، يؤمن بالصراع الطبقى، والتبشير بقيام الثورة، وانتهى به المطاف صوفيًا مسيحيًا محافظًا، يرى الخلاص فى الانزواء الروحى، ظل يصر على أن الشعر لا وظيفة له خارج دائرة كونه شعرًا، وكان يطالب بفصل الشعر عن السياسة. 

استوقفتنى قصيدة «أودن» عن القانون وأنا أبحث حوله، القانون الذى احتكر «رجال القانون» الحديث عنه، تذكرت «كافكا» وقصته «أمام القانون» التى ذهب بطلها شابًا لمقابلة «القانون» وشاخ أمام الباب ومات قبل أن يقابله، لأنه ليس مسموحًا لأحد بالدخول إليه، أنت أمام الفن العظيم عندما يتناول معنى نبيلًا غامضًا بعيد المنال، يقول «أودن» بترجمة العراقى أديب كمال الدين: القانون، يقول البستانيون، هو الشمس

القانون هو الشىء الوحيد الذى يطيعه كلُّ البستانيين

غدًا، البارحة، اليوم.

القانون هو حكمة الشيوخ

يوبخ الأجدادُ الواهنون بحدّة،

فيخرج الأحفاد لسانًا ذا صوت عالى الطبقة:

القانون هو أحاسيس الشباب

القانون، يقول الكاهن مع نظرة كهنوتية

شارحًا للناس اللا كهنوتيين:

القانون هو كلمات كتابى الكهنوتى

القانون هو منبر وعظى وبرج كنيستى

القانون، يقول القاضى وهو ينظر نظرة ازدراء

متكلمًا بوضوح وصرامة شديدة

القانون هو كما قد قلتُ لكَ من قبل:

القانون هو كما أفترض أنكَ تعرف

القانون هو، فقط، دعنى أشرحه لك مرّة أخرى

القانون هو القانون.

مع ذلك، فالقانون، يكتبه علماء القانون الثابتون،

ليس بالخطأ ولا الصحيح

القانون هو الجرائم

المعاقبة فى الأمكنة والأزمنة

القانون هو الملابس التى يرتديها الرجال

فى أىّ وقت، فى أى مكان

القانون هو صباح الخير ومساء الخير

أنا لا أستطيع القول ثانية بأن القانون

ليس بأكثر مما يستطيعون

فنحن نقمع الرغبة الكونية لنخمن

أو ننزلق من مكانتنا الخاصة إلى حالة لا مبالاة

رغم أننى أستطيع، على الأقلّ، أن أقيّد

فراغك وفراغى إلى حالة جبن

إلى حالة شبيهة بالجبن

فنحن سنتباهى على كلّ حال:

القانون مثل الحب، أقول

مثل الحب لا تعرف أين ومتى

مثل الحب لا نستطيع أن نفرضه بالقوة

أو نطيّره مثل الحبّ نحن، دائمًا، نبكى.