رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما لا طائل فيه

تعبير "لا طائل فيه" يعني لا فائدة ترجى منه، ومثله: لا طائل تحته، ولا طائل منه. كثيرون من الناس المعتبرين يتكلمون ويكتبون في ما لا طائل فيه للأسف، لا يدري المستمع أو القارئ لماذا يهدر هؤلاء طاقاتهم في مثل هذا الكلام الأشبه بالهراء، لكن المقصودين لا يكفون عنه مع ذلك، يمسك الواحد منهم آذان الناس، أو يجذب أعينهم إلى حروفه المكتوبة، يأخذهم، عنوة، إلى مسار حديث عابث لا ينتهي إلا يبدأ من جديد، وهو آسر بالرغم من عبثيته، هنالك يقول المستمع أو القارئ مغمغمًا: ما أجمل هذا لو كان كلامه ذا قيمة!
مثلا يتحدث واحد منهم مع الناس عن "عظمة الزمن القديم"، يخبرهم عن الأيام الجميلة التي ذهبت، والعادات التي ضاعت والتقاليد التي اندثرت، والأخلاق التي انحدرت، والقيم التي تردت، يكون كلامه كالقذائف، لا يسمح لأحد بالتقاط أنفاسه حتى، فضلًا عن إيقاف سيوله المندفقة للاستفسار أو الاستيضاح، يقول بحسم كامل: نحن في زمن العار والشنار!
لا يذكر حسنة واحدة لزمنه الحاضر، ولا يبين للخلق ماذا يفعلون بعد أن أظلمت المصابيح وجفت الينابيع وحل الخراب، كقوله اليائس، وللأمانة يكاد الناس أن يؤمنوا به من فرط جديته، ولكن، بقليل من التفكير والاستقصاء، يجدون منطقه فاسدًا، فلو كان الزمن الذي بين يديه بائسًا ومنتهيًا، كما يصيح صياحه، ما سمح له هذا الزمن أن يتكلم هكذا أصلًا، وهو يمزمز شرابه الأثير المطلوب، ثم إن الحياة ما زالت منتجة أمام أعينهم، وبقدر ما كان الإنتاج القديم أصيلًا فالجديد مبهر، وفي كل زمن ما يمكن التفاخر به والتنصل منه، المهم ينسلون من جلسته واحدًا وراء الآخر، ويستمر يكلم نفسه كمجنون بالضبط، أو يتودد إلى عمال المقهى ليواصل عزفه المضطرب..
يكتب واحد ثان عن "أهمية السينما النظيفة"، تسير حروفه من سطرها الأول على هذا النحو: صار الواحد يخجل من نفسه وهو يشاهد العري والدماء والمخدرات، ويضع عينيه في الأرض، لو صادف ومر أولاده به وهو غارق في هذه الأوحال، يخاف على نفسه وعلى أولاده من المصير المشئوم المنتظر إذ صار الفن عنيفًا وعاجًا بالفتن المفسدة، ومن هنا يدعو إلى تطهير الشاشة من القاذورات، ووعظ الفنانين والكتاب والمخرجين الذين أدمنوا تقديمها، أو حثهم على الاعتزال، وإفساح المجال لآخرين طيبين، يستطيعون صنع سينما عفيفة شريفة، ويدركون أهميتها في بناء نفوس الكبار والصغار على ما أراد الله لا الشيطان!
تبدو سطوره مقنعة، لكنها لا تصمد أمام الواقع المتغير المكتظ بالرذائل كاكتظاظه بالفضائل، ولا تفصح عن حرية هي أساس الفن، ولا تعزز، في حقيقتها، سوى التقليدية التي تقتل الابتكار والإفلاس الذي يؤكد الخسارة، ولمثله يقال: لا تشاهد ما لا يعجبك، ودع أولادك وما يحبون، حور كتابتك أو اسكت لأنها تفضح ضحالتك وانفصالك عن حتمية صيرورة الأشياء.