رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وثائق مجهولة تكشف كيف جمع الدم بين مصر والجزائر

سعدت مثل الجميع بزيارة الرئيس الجزائرى، عبدالمجيد تبون، مصر واستقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى بحفاوة له مطلع هذا الأسبوع، وأعتقد أنها تأخرت كثيرًا، لأن ما يجمع بلدينا عميق وصادق، بدليل أن أول زيارة رسمية للرئيس المصرى خارج البلاد فور توليه مقاليد الحكم كانت للجزائر، البلد الملهم الذى سانده المصريون بقلوبهم فى معركته العظيمة ضد الاستعمار الفرنسى. البلد الذى لا ينبغى أن تحدث جفوة بيننا بسبب الحسابات الآنية الضيقة، لحاجتنا إلى الوقوف معًا فى مواجهة التحديات العنيفة التى فرضت على كلينا.

قبل تسع سنوات وفى مثل هذه الأيام، شاركت فى احتفالية كبيرة استضافتها مدينة قسنطينة الجميلة «مدينة الجسور المعلقة» كانت تحت عنوان «الصحافة العربية والثورة الجزائرية.. جريدة الأهرام نموذجًا»، كنت ضمن نخبة من زملائى فى الجريدة، عرضوا ما قامت به الأهرام لدعم هذه الثورة. كانت احتفالية تليق بالثورة وبدور الأهرام فى تلك الفترة، ولن أنسى ما حييت أثر النشيد الوطنى الجزائرى علىّ وأنا فى القاعة الكبيرة التى امتلأت عن آخرها، هذا النشيد الذى لحنه الموسيقار العبقرى محمد فوزى ورفض تقاضى أجر عنه، وكتب كلماته شاعرهم الكبير مفدى زكريا، كنت مشغولًا وأنا أقدم ورقتى أمام الحضور ببلورة دور المثقفين المصريين بعيدًا عن الدور الرسمى النبيل حتى لا يتم اختزال الموضوع فقط فى الخضوع للتعليمات، ولأن موقفهم من الثورة الجزائرية تحديدًا يحتاج إلى تأمل ودراسة مستفيضة، هو موقف متسق مع قناعاتهم، موقف إنسانى منحاز لقضية تخصهم كما تخص الإنسانية، شعروا بمسئولية حقيقية.. كانت ثورة يوليو الوطنية بقيادة الزعيم جمال عبدالناصر تخوض المعركة نفسها ودعمها الثورة كان انتصارًا لأفكارها العظيمة عن التحرر الوطنى والقومية العربية.. ولكن المثقفين لعبوا دورًا لا يقل أهمية عن الدور السياسى والعسكرى والدبلوماسى الذى لعبه النظام الحاكم، لم يلتفت إليه المؤرخون، الأدباء والشعراء منهم خلقوا رأيًا عامًا بإبداعاتهم فى المسرح، ومن خلال الصور الغنائية فى الإذاعة، والنقد الأدبى، جعلوا المواطن العادى يتبنى القضية على أنها قضيته، سيكتشف المؤرخون أن معظم الكتب والمجلات التى ساندت الثورة خرجت عن القطاع الخاص، أى أن الموضوع لا يحتاج دعم الدولة، التى كانت تدعم القضية هى الأخرى. المؤرخون اهتموا كثيرًا بما كتب باللغة العربية الفصحى، ولم ينظروا إلى قصائد العامية فى توقيت كان هذا الشعر ينتقل من الزجل إلى الشعر متأثرًا بالثورة التى حدثت فى الشعر الفصيح، والعامية فى مصر هى لغة الحشد، صلاح جاهين وفؤاد حداد ومأمون الشناوى وعبدالفتاح مصطفى وعشرات غيرهم حوّلوا الثورة إلى أسطورة فى وجدان المصريين بالغناء والنشر فى الصحف والإذاعة، تحولت جميلة بوحيرد إلى أيقونة وملهمة ودخلت فى نسيج الأساطير والحكايات الشعبية، لم يحدث مثلًا منذ ثورة ١٩١٩ أن يجتمع الناس على هدف نبيل مثل دعم ثورة الجزائر، وربما كان النداء الذى وجهه الأدباء والمثقفون والفنانون المصريون إلى مثقفى فرنسا كاشفًا عن كيف نجح الحشد.

النداء وقّع عليه الذين يحبهم الناس من أدباء ومغنين وصحفيين. ستجد محمد عبدالوهاب، وطه حسين والسنباطى وأم كلثوم توقيعهم إلى جوار فاتن حمامة وكمال الطويل وأحمد بهاء الدين وبليغ حمدى وسيد مكاوى ومحمود أمين العالم ومحمد عبدالمطلب وعباس البليدى وعبدالرحمن الشرقاوى وأنور منسى وفتحى غانم وكارم محمود وعمر الشريف... 

 

نداء

من الكتّاب والفنانين المصريين إلى الكتاب والفنانين الفرنسيين:

لا بد أن تعيش جميلة بوحيرد..

الكلمة التى نوجهها إليكم تقطر دمًا،

حكومتكم أرادت الحرب وما زالت تريد الحرب وتعمل آلات الموت والإرهاب والتعذيب فى الشعب الجزائرى، فتقتل وتسجن خيرة أبنائه، وتنزل السيف بين شفة الرضيع وثدى أمه، وتحكم بالإعدام على جميلة بوحيرد.

الجموع المؤلفة من شعب الجزائر سجنت وشردت وذبحت، والمئات من أبناء شعبكم سيقوا إلى الموت فى الحرب القذرة، واليوم يريدون أن يعيدوا قتلهم جميعًا بإعدام جميلة.

جريمتها أنها طلعت من أرض الجزائر بالشمس على جبينها والخبز فى يديها فهل أنتم مع الظلمات والجوع؟

جريمتها أنها عذبت فلم تفه بحرف واحد، فهل أنتم مع الجبن الخسيس؟ جريمتها أنها قلب يدق بكل الحياة، بكل تاريخ أوطانها، بالأمل الذى ناضل مائة عام من الاستعمار، بالسلام، بالغد، بالحب بالأمومة، بالعزة، قلب يدق بثورة الجزائر..

جريمتها الحرية.. فهل أنتم مع الباستيل، وتصدير الباستيل؟ وهل الدماء التى سالت على جدرانه لا تمنع اليوم أن يسيل دم جميلة؟

الكلمة التى نوجهها إليكم تقطر دمًا.. 

لا صدق فيما نكتب إذا لم نستطع أن نمنع شريعة الغاب فى القرن العشرين... الأرض تنبت الزرع، والأمهات يرضعن الأطفال، والشعوب تكد وتبنى وتتجمع لتنفذ كلمة الحق من صدور الطغاة.

ولن يمكن للطغاة أن يضعوا نهاية لأسطورة جميلة.. لن يمكنهم أن ينتزعوا قلبها، أو يسكتوا صوتها، أو يحرموا الشعب من بطولتها الظافرة.

ولا بد أن يطلع على الجزائر فجر، يبسم بملامح جميلة.

كل يوم ينادى على غده، لا بد أن تعيش جميلة.

كل شبر من الأرض يحاصرنا بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة.

فحاصروا حكومتكم بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة. تجمعوا فى يد واحدة لتوقيع هذا النداء، ضموا صوتكم إلى صوتنا وإلى صوت كل إنسان شريف. وارفعوه بهذا النداء ليرفع المقصلة عن رأس جميلة بوحيرد..

فكل ثانية تمر تستشهد بهذا النداء، لا بد أن تعيش جميلة.

 

 

قبل الثورة كانت الجزائر حاضرة فى الوجدان

- فى ١٩٤٨ أصدر أحمد رمزى كتاب «الاستعمار الفرنسى فى شمال إفريقيا» نصفه عن الجزائر، طالب فيه أن يكون يوم احتلال الجزائر سنة ١٨٣٠ يوم حداد للأمة العربية، وكتب فصلًا بديعًا عن الأمير عبدالقادر.

- سنة ١٩٥٢ كتب عميد الأدب العربى عن رواية «الربوة المنسية» لمولود معمرى مقالًا، واعتبرها نقدًا لاذعًا للنظام القديم المتمثل فى شيوخ القرية التى تجرى فيها وقائع الرواية.

- فى مجلة المجلة كتب الدكتور أنور عبدالملك سلسلة مقالات بدأها بمحمد ديب.. وظهر اهتمام عام بما يحدث فى الجزائر من خلال الأدباء فى معظم الصحف.

- حسن فتح الباب الشاعر والناقد والذى عاش فترة طويلة فى الجزائر وخصوصًا بعد مرحلة كامب ديفيد، لعب دورًا كبيرًا فى التأريخ للشعر الفصحى الذى واكب الثورة فى مصر، وأصدر كتاب «ثورة الجزائر فى إبداع شعراء مصر» بمقدمة لسليمان الشيخ رئيس مؤسسة مفدى زكريا.. ضم ٨٠ قصيدة لكبار الشعراء، على رأسهم محمود حسن إسماعيل وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى وصالح جودت وعبدالرحمن الخميسى وفتحى سعيد وكامل الشناوى وأحمد مخيمر، الكتاب نسى أسماء كبيرة مثل نجيب سرور شاعر العامية، الذى كتب بالفصحى فى مجلة الآداب البيروتية واحدة من أجمل القصائد التى تناولت محاكمة جميلة بوحيرد.

- الجميع لا يذكر لصلاح جاهين غير قصيدته الجميلة أغنية للجزائر:

أحب أشوفك يا رايات فى النسمة.. بترفرفى ع الذكريات مبتسمة 

سبع سنين دم الجزاير فاير.. وألف ألف شهيد وهى الكلمة 

فيه معجزات.. زمانها فات 

ودى معجزات الشعب لما يصمم.. محلا الغنا بعد الرصاص ما اتكلم 

ولكن له قصيدة أقل شهرة، نشرها فى كتيب صدر بعيدًا عن مؤسسات الدولة قدم له أحد رموز الحركة اليسارية وهو الأستاذ إبراهيم عبدالحليم، القصيدة اسمها «اللى جرى لجميلة»:

شفايفها لما تضحك.. زى شفايف ثريا

وعيونها بالحواجب.. تمام شبه سنية

وشعرها المموج.. مفروق من الشمال

على الموضة البناتى.. زى عروسة كمال

وسمرا زى خضرة.. ورقيقة زى سوسن

والورد فوق خدودها.. صلاة النبى أحسن

والصورة بين إيدينا.. مع كل حى حبة 

ياخدها يطل فيها.. حرام ياعينى شابة

واللى ما دريش يقول لك.. مالها جرالها إيه

ده اللى جرى لجميلة.. ما ينسكت عليه

وجميلة من الجزاير.. بلد البحر الكبير

بلد ولاد عمامنا.. فرسان الأساطير

اللى زارعين رايتهم.. ع القمة مرفرفة

اللى سايبين بيوتهم.. والفرش والدفا

علشان عاوزين يعيشوا.. حياة مشرفة

جميلة واحدة منهم.. واحدة من شعب ثاير

بتكره المظالم.. وبتحب الجزائر

وبتحب الأغانى.. وبتحب العماير

وبتحب الجناين.. والورد والعيال

واللى جرى لجميلة.. شىء من ورا الخيال

ألم مخيف فى قلبى.. وبقاله خمس شهور

من ساعة ما اصطادوها.. كأنها عصفور

تجرى والدم نازف.. وتقول يا جرح جازف

اصبر ده الوقت آزف.. والناس مستنظرة

أوامر القيادة.. أحبك يا جزاير

أكثر من العبادة.. أجرى كمان شوية 

خطوة كمان زيادة.. وف كتفها الرصاصة 

وعضام اتحطمت.. تنزف تنزف وتجرى

لحد ما اترمت.. وكلاب الصيد جابوها

ومهما يعذبوها.. ومهما يصلبوها

ومهما يضربوها.. ومهما اتألمت

أبدًا ما سلمت.. ومهما يغصبوها

أبدًا ما اتكلمت.. يا حسرة ع الشباب

بين أنياب الكلاب.. كتبوا العذاب عليها 

بدال كتب الكتاب.. والدنيا تروح وتيجى

جوه عيون البنية.. اللى ف صورتها بانت

شبه عيون سنية.. وتبهت الشفايف

الضحاكة الشهية.. اللى ف صورتها بانت

زى شفايف ثريا.. وشعرها المموج 

اللى ف صورتها سال.. من فرق ع الشمال 

زى عروسة كمال.. معجون بدمها

حبة عين أمها.. حبة عين النضال

واللى جرى لجميلة.. ما تحمله الجبال

وتر من الكمنجة.. وتر واحد وحيد

نوح علشان جميلة.. فى أول النشيد

والأوتار اللى باقية.. صرخت من غير دموع

وامتدت م الكمنجة.. لحناجر الجموع

على باب المحكمة.. والعالم كله واقف

على باب المحكمة.. بيغنى غنوة واحدة

راعدة ومدمدمة.. تزلزل السما

وقضاة المحكمة.. العصبة المجرمة

بقلوب مطلسمة.. وعلى عينيهم غما

وفى أيديهم دما.. بيسمعوا الأغانى

وهم ف وادى تانى.. وإيش تعمل المعانى

فى عقول مضلمة.. طول الليل السجانة 

بيسنوا المقصلة.. وجميلة فى الزنزانة

سامعة ومستحملة.. طول الليل المعارك 

دايرة ف حضن الجبل.. وجميلة فى المهالك 

عايشة على الأمل.. أمل أمل أمل

اتقدم يا بطل.. تبت فى البندقية

خلى النار تشتغل.. ده اللى جرى لجميلة

ما لوش غير العمل

كتب الأستاذ الصديق أحمد طوغان، رحمة الله عليه، أكثر من كتاب عن تجربته مع الجزائر ومناضليه، كان أبرزها «أيام العمر»، مأمون الشناوى الشاعر الغنائى الكبير كتب أكثر من أغنية ولكن أوبريت جميلة بوحيرد كان هو الأهم فى إنتاجه. يوسف إدريس من أوائل الذين اعتبروا الثورة الجزائرية قضيته، تابعها وسافر مرارًا وكتب كثيرًا فى جريدة الجمهورية قبل أن ينتقل إلى الأهرام، وكان يعبر بكتاباته عن فلسفة الثورة بنقاء يليق بموهبته، وكان يرى أن ثورة الجزائر ليست ثورة جزائرية فقط.. وكان ينتقد المثقفين والسياسيين الجزائريين، واعتبر أنهم يقللون من شأنها عندما يتصورون أنها «لا تعدو أن تكون ثورة وطنية تحريرية مثل غيرها من الثورات، هدفها فى النهاية أن تستقل البلاد ويحكمها أهلها، ويصبح لها سفارات ووظائف عامة ومناصب وزارية، تمامًا كما فهم الحبيب بورقيبة ثورة تونس».

يقول يوسف إدريس: «أى ثورة فى الوطن العربى وبالذات فى الشمال الإفريقى، حيث سيطر العدوان الصليبى الأوروبى، ليست أبدًا مجرد ثورة وطنية محدودة بحدود بلادها ومرهون مصيرها بنيل الاستقلال وسيطرة أهلها على مصائرهم.. إن أى ثورة عربية وخصوصًا فى الشمال الإفريقى هى جزء لا يتجزأ من الثورة العربية الحضارية الشمالية، التى ليس هدفها فقط استعادة وحدة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ليس هدفها تجميعًا جغرافيًا للبلاد وللشعوب العربية، ولكن هدفها الأساسى تجميع حضارى وإنسانى متطور لهذه الشعوب، هدفها إزاحة كل ما تراكم على طبيعتنا ووجودنا من أدران وعقد وظلامات، هدفها أن نجد أنفسنا ونهيئ أنفسنا لكى نعمل بوحى من طبيعتنا ونضيف إلى التراث الحضارى العالمى.. لا أن نحيا عالة عليه».. وكان يرى أن الثورة الجزائرية ليست شيئًا صادرًا عن تفكير الساسة والمتخصصين.. ولكنه مفهوم الرجل الجزائرى العادى والمرأة الجزائرية العادية، مفهومها البسيط لهذه الثورة «نحن عرب يا أخى».

وكان يرى أيضًا أن الجزائريين لا يحبون الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبدالناصر، لأننا ساعدنا الثورة كما يعتقد بعض السذج، إنهم يعتقدون هذا لإحساسهم التلقائى البسيط أن الجمهورية العربية وجمال عبدالناصر يمضيان فى نفس الخط الذى قامت من أجله ثورة الجزائر.. خط الصحوة الحضارية الثورية العربية، خط ليس الاستقلال فقط ولا الاشتراكية فقط، ولكن خط الكشف عن الكيان العربى وإيقاظه وتقديمه متطورًا وإيجابيًا وفعالًا.