رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثور الأبيض

وهو يخوض معركته المصيرية الآن، هو فى حقيقة الأمر يفتدينا.. ويلهى العدو ويبعد شروره عنا وهو المتعطش دومًا للغزوات المجانية والمهووس بالسطو على أراضى الغير للتوسع وضم المزيد من الأراضى وسرقة تاريخ الأمم وتراثها وثقافتها.. يتلقى الثور الأبيض الطعنات تلو الأخرى بمفرده صامدًا مقبلًا لم يطالبنا بشىء ولا ينتظر منا شيئًا.. فهل من الكثير أو من الصعب تركه ليخوض معركته وحده دون مزايدات أو تشكيك أو تشتيت؟ هل من الصعب أن نكف أيادينا وألسنتنا عن ذلك الثور الجريح المقاوم وألا نتحفه- ونحمله فوق طاقته- بنظريات وتنظيرات فيها من التخوين ومن السخرية الشىء الكثير؟! هل من الصعب تركه ليقرر مصيره بنفسه دون أن نختار أو نقرر نحن له مصيره نيابةً عنه؟! بل يصل الأمر فى الكثير من الأحيان ليس فقط للومه أو تخوينه بل تجريم مقاومته للعدو! وبالتالى يصطف هؤلاء مع العدو فى خندق واحد ويرددون روايته! فينعتوا المقاومة تارةً بالإرهاب وتارةً أخرى بأنها تضحى بشعبها ومن ثم يتحدث هؤلاء باسم الشعب الذى هو ظهير للمقاومة بل جزء أصيل منها! فالشعب المحتل اختار بنفسه المقاومة مكرهًا «وهى كرهًا له». 
والسؤال: هل يرى البعض أن الفلسطينيين مخيرون فيما يفعلون؟ هل لديهم خيار آخر؟ هل المقاومة خيار يمكن لأحد الاختلاف عليها أو اعتبارها إرهابًا؟!
لقد حاربنا نحن عدوهم وعدونا «فالعدو واحد» ومعروف.. نعرفه جيدًا وعانينا منه وطالنا من جرمه وجرائمه ومجازره الكثير.. فهل حربنا لتحرير أراضينا واستردادها من أيادى الصهاينة كان إرهابًا؟ هل الشهيد «أحمد حمدى» الذى فجر نفسه ليفتدى سيناء ويمنع العدو من السطو عليها يمكن نعته بالإرهابى أو الانتحارى؟! 
لقد خاضت مصر حروبًا منذ عهد الهكسوس وحتى السادس من أكتوبر «فخرنا وفخر كل أحرار العالم» فهل سنرضى أو يرضى أحد توصيف حربنا ضد العدو بالإرهاب؟ 
لقد عرفت مصر حروب التحرير على مدى تاريخها وخاضت حروبها من أجل التحرر الوطنى وكان شعار المصريين وقت الاحتلال الإنجليزى «الجلاء التام أو الموت الزئام»، فهل عندما طالبنا بجلاء المحتل عن أراضينا كنا متهورين نودى بحياة جنودنا ونرميهم للهلاك فى مرمى النيران والأسلحة الفاسدة ونلقى بهم للتهلكة؟ هل مثل تلك الاتهامات يمكن أن نرتضيها على أنفسنا؟ هل عاب علينا عائب أو عايرنا أحد لخوضنا حرب التحرير ضد المحتل لاسترداد أراضينا؟ فعلام الاندهاش إذن من حرب التحرير وحركة المقاومة التى هى حركة تحرر وطنى فى المقام الأول ضد المحتل فى غزة وفلسطين؟! ولماذا المزايدة واتهام المقاومة وتخوينها ومن ثم تحميلها ما لا تحتمل؟
فإما أن تكون مقاومًا أو تكون مناصرًا للعدو ومناصرًا للصهيونية.. لا خيارات ولا بدائل.. إنه أوان الفرز وأوان الحسم ولا يوجد بين أيادينا خيار ثالث. 
لقد كُتبت المقاومة على الشعب الفلسطينى المحتل كرهًا لهم. 
فمن يعيش مثلنا فى نعيم الاستقلال والأمن والأمان بفضل الجيش وحمايته لبلادنا وحدودنا وبفضل جهاز الشرطة وجميع مؤسسات الدولة لا يمكنه أن يشعر بما يشعر به الشعب المحتل مهما كانت معاناته من بعض المشاكل أو المنغصات، فتلك النوعية من المعاناة- ومع كامل الاحترام والتعاطف والتفهم لها- تعد صفرًا كبيرًا أمام ما يلاقيه الشعب من الاحتلال الممتد عقودًا مارس خلالها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. 
هل نسى البعض ويلات وجرائم الاحتلال؟ هل يمكن أن ننسى مقاومة جيشنا وشعبنا للاحتلال؟ هل نسى البعض مقاومتنا الشعبية فى مدن القناة ضد المعتدى؟ 
لقد واجهت المقاومة الشعبية المصرية الباسلة ثلاث دول دفعة واحدة! فهل كان ذلك تهورًا أو انتحارًا لأن المقاومة تصدت لبريطانيا وفرنسا والكيان الصهيونى بإمكاناتها المحدودة وسلاحها الذى لا يقارن بسلاح وطيران ثلاث دول اعتدت على مدنها؟ هل يمكن أن ينسى أو يسخر أحد مما قدمته المقاومة الشعبية المصرية من شهداء وتضحيات من أجل التصدى للمعتدى؟ هل الفدائى المصرى- الذى غنى له عبدالحليم حافظ وأم كلثوم- وهو يفدى أرضه وبلاده بعمليات فدائية فردية نفخر بها حتى اليوم ضد العدو الصهيونى يمكن تسميتها أو نعتها الآن بالإرهاب؟!
منذ متى كانت المقاومة إرهابًا؟ هل فقدنا بصلتنا كى نصطف مع العدو فى خندق واحد وجبهة واحدة وننعت المقاومة بالإرهاب؟! من أبقى بالحجارة على الاحتلال اعتبرناه مقاومًا منتفضًا فى انتفاضة أولى وثانية أبهرت العالم ووقف وانحى لها الجميع احترامًا وتقديرًا.. فما الذى جرى؟! ولماذا حدث اختلال وازدواجية فى المعايير وفى منظومة القيم وصار الكيل اليوم بمكيال مختلف؟! لماذا صار لزامًا علينا الآن تفسير الماء بالماء؟ ولماذا صرنا مضطرون لشرح وتفسير كل تلك البديهيات؟!
أليست المقاومة ضد المحتل شرفًا حظينا به؟ فكيف نحرمه إذن على غيرنا؟! 
يحتفل المصريون منذ أكثر من خمسين عامًا طوال شهر أكتوبر «الذى دومًا ما نصفه بأنه شهر مجيد» جاءنا بالنصر على العدو فحررنا أراضينا وانتزعناها بالقوة تارة وبالمفاوضات تارة من أيادى المحتل.. فما الذى تغير؟ ولماذا؟ ولصالح مَن كل هذا اللغط والجدل والتشكيك؟ 
تلك التساؤلات يجب التوقف عندها طويلًا، ولا بد من الإجابة عنها كى لا يختلط الحابل بالنابل، وكى لا يصب ذلك التشتت وذلك الشك لصالح العدو لا لصالح الضحايا والشهداء.
ومن يقول بأنه حزين على الضحايا وإن الفلسطينيين يُقتلون وإن الحرب الدائرة لا بد أن تتوقف فهذا صحيح وهذا ما نريده وما يريده الجميع وما يريده الفلسطينيون قبل أى أحد آخر ولكن يبقى السؤال: هل سيوقف العدو هجماته؟ هل سيتوقف يومًا عن القتل؟ هل توقف العدو عن ممارسة القتل والاعتداء والتهجير وطرد السكان الأصليين من أراضيهم وتحويلها لمستوطنات ولو ليوم واحد منذ أكثر من ٧٥ عامًا؟ 
هل بدأ العدو فى قتل المدنيين والنساء والأطفال ومارس حرب الإبادة والتطهير العرقى فقط منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟ 
هل قبل ذلك التاريخ كان ينعم الفلسطينيون بالسلام والطمأنينة والراحة ورغد العيش؟ هل قبل ذلك التاريخ الذى يحمله الجميع ذنوب أهل مدين لم يكن هنالك قتل ولم يكن هنالك احتلال؟ هل لم يرتكب العدو مجازر فى حق المدنيين والنساء والشيوخ والأطفال قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟
هل مذابح «دير ياسين» فى فلسطين و«بحر البقر» فى مصر و«صبرا ووشاتيلا» و«قانا ١» و«قانا ٢» فى لبنان واحتلال الجولان فى سوريا تم بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟! 
هل لم يُقتل الفلسطينيون والمدنيون والأطفال إلا بعد السابع من أكتوبر؟ وهل انتهى الشعب الفلسطينى وصار كالهنود الحمر بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣.. أم أن الفلسطينيين يُقتلون منذ أكثر من ٧٥ عامًا وما زالوا يقاومون ويتشبثون بأراضيهم- ودونها الرقاب- ويحتفظون بمفاتيح بيوتهم وينتصرون للحياة وينجبون الأطفال حتى فى الأسر عن طريق تهريب النطف وهى فكرة عبقرية تغلب بها الأسرى على قيد السجن وغلائل الاحتلال؟ 
هل نسى البعض مشاهد الجنازات التى تحمل الشهداء فى كل ربوع فلسطين- و ليس فقط فى غزة- قبل السابع من أكتوبر؟! هل قتلت الناشطة اليهودية الامريكية «راشيل كورى» بالجرافة الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟ هل قتلت الصحفية المسيحية «شيرين أبوعاقلة» وغيرها من الصحفيين فقط بعد السابع من أكتوبر؟! 
أعلم، ويعلم الجميع، أن شهداء فلسطين صاروا بالآلاف منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. هذه حقيقة لا ينكرها أحد وهذا أمر جلل وبغيض وموجع ولا يسعد أحدًا ولا يرضى أحدًا ويحزن له الشجر والحجر قبل البشر ولكن يبقى أيضًا السؤال: هل لم يُقتل مثل هذا العدد وأكثر منذ أكثر من ٧٥ عامًا، ورغم ذلك بقى الشعب الفلسطينى فى الداخل قبل الخارج؟ هل لم يحاصر شعب فلسطين ويشرد ويهجر للمخيمات وللمهجر ولم يحاصر شعب غزة إلا بعد السابع من أكتوبر، حرب التهجير والتجويع والحصار حدثت فقط بعد السابع من أكتوبر ٢٠٢٣؟ 
كل ما فعله السابع من أكتوبر فى حقيقة الأمر هو التعجيل برحيل واستُشهد من رحل.. لكنهم ميتون على كل حال وفى كل الأحوال ما بقى الاحتلال. 
الشعب الفلسطينى بعد ٧٥ عامًا من الاحتلال لم يعد لديه ما يخسره. 
والعدد الكبير الذى قُتل واستُشهد منذ السابع من أكتوبر مصيره المحتوم والأزلى هو الموت فى كل الاحوال طالما الاحتلال قائم. 
من رحل واستُشهد كان سيرحل على أى حال لكن ربما فى مدى زمنى أطول.. لكنهم هكذا أو هكذا ميتون! 
مَن استُشهدوا فى عام واحد كانوا سيموتون ويستُشهدون ولكن خلال خمسة أعوام على أكثر تقدير. 
فمن يعيش فى ظل الاحتلال هو بالضرورة مشروع شهيد مؤجل طال الزمن أو قصر.. والصهيونى لن يتوقف عن القتل وارتكاب المجازر حتى وإن توقفت المقاومة. 
فكما احتل العدو سيناء فى مصر والجولان فى سوريا ومزارع شبعا فى لبنان وكل أراضى فلسطين سيظل متعطشًا لضم المزيد من الأراضى. 
حرب السابع من أكتوبر هى من أوقفت مدهم وتمددهم لأراضينا وأراضى الغير. 
الفلسطينيون يموتون ويستُشهدون كل يوم ليصدوا ذلك العدو عن أراضينا- و لو مرحليًا- وإن توقفت أو كفت المقاومة فى فلسطين، كما يطالب البعض، فلن يكف العدو عن القتل وسيظل يقتل ولن يحقن الدماء بل سيرغب فى سفكها هنا وهناك. 
العدو سيظل عدوًا والاحتلال سيبقى احتلالًا غاشمًا مغتصبًا الأرض والحق فى فلسطين وفى سوريا وفى لبنان وفى العراق وفى مصر. 
فالكيان الصهيونى لا حدود له ولا عهود ولا مواثيق وإن استطاع احتلال الكوكب بمجراته، وإن ينال الشمس فى يمينه والقمر فى يساره فلن يمانع ولن يكل أو يمل وسيسعى لذلك بفجره المعهود فلا خيار أمامنا سوى المقاومة.. فاللا مقاومة معناها أن نعطى الاحتلال الضوء الأخضر لضم المزيد من الأراضى ليس فقط فى فلسطين. 
وعدم إدراك ذلك والتنبه له ولتلك اللحظة الوجودية الفارقة كارثة كبرى.. فالثور الأبيض الذى نخونه اليوم ونسبه ونشكك فيه ونضعفه ونلقى عليه بسهامنا إن استسلم، كما يريد البعض، وترك سلاحه سنقتل جميعًا وسيعنى ذلك فناء الجميع. 
فسلامنا وأمننا مرتبط ارتباطًا شرطيًا بمقاومتهم.
فإن ضُربت المقاومة فى مقتل قُتلنا نحن جميعًا كما قُتل الثور الأبيض.. وتبقى مسألة أخيرة غاية فى الأهمية لفض ذلك الاشتباك العجيب وحالة التشظى والبلبلة والاستقطاب الحادث بين مؤيدى المقاومة ومعارضيها، وهى أنه فى حالات الدفاع عن الحق والأرض.. على الأيديولوجيات أن تتراجع وتتنحى جانبًا.. فالحق أحق بأن يُتبع والحق لا علاقة له بأيديولوجية أصحاب ذلك الحق ولا صوت يعلو فى تلك اللحظات الوجودية فوق صوت الحق فى معركة الحق ويكون السيف حتمًا أصدق أنباء من الكتب ومن كل ما يقال.. ولن نكون ولا يصح أن نصبح فى يوم من الأيام شركاء فى الظل للمجرمين الذين ينشرون يقينًا ما يقول بأن لا شىء سيتغير!! وإن الظلم والإجرام والقهر قواعد ثابتة!! وإن البقاء دومًا للأكثر جبروتًا وإجرامًا.. وإن الواقعية حتمًا وبالضرورة تعنى الانبطاح والرضوخ للعدو وتلقى طعناته وغدره باستسلام وسعادة غامرة وسط القطيع السعيد!