رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سقوط السردية الإسرائيلية عن السنوار

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾«الحج الآية 38»

 فتكذيبًا غير مقصود للسردية الإسرائيلية التى أشاعها جيش الاحتلال الإسرائيلى عن يحيى السنوار، رئيس المكتب السياسى لحماس، والقائد العسكرى للحركة فى قطاع غزة، من أنه يختبئ فى الأنفاق، محاطًا بالعديد من المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس، متخذًا منهم دروعًا بشرية، للحيلولة دون استهدافه من جنود الاحتلال- أخطأ الجيش الإسرائيلى بنشر فيديو يصور اللحظات الأخيرة للسنوار وقد جعل منه «أسطورة» فى عيون الفلسطينيين، دفعت الإسرائيليين للتساؤل، عما قصد إليه الجيش بنشر هذا الفيديو، «ماذا تريد إسرائيل من هذا التسريب؟.. كسر روح المقاومة؟.. أم خلق أسطورة خالدة للشهيد؟، بعد أن أشادت بكفاحه حتى لحظات وفاته».. حتى إن أحدهم قال، «نشر الجيش الإسرائيلى للفيديو يؤسس بطولة السنوار وشجاعته، من خلال ما قدموه، وليس العكس».. وبدلًا من أن تكون صورة ثابتة للسنوار وهو ميت، هى آخر ما يراه العالم عليها، رأيناه جريحًا، دون يد، لكنه يواصل القتال فى ميدان المعركة، حتى النفس الأخير.

 


وقد تسابقت الصحف العالمية، كما شبكات التليفزيون الدولية، فى الحديث عن السنوار.. منهم من رآه محاربًا بطلًا، مقاومًا لاحتلال بلاده، ومنهم من رآه غير ذلك.. فى صحيفة «نيويورك تايمز»، كتب بن هوبارد، مدير مكتب الصحيفة فى إسطنبول بتركيا، أن السنوار الذى أعلن الجيش الإسرائيلى وفاته يوم الخميس الماضى، وقال إنه قُتِل على يد وحدة من قادة الفرق المتدربين، الذين واجهوه أثناء عملية اشتباك فى جنوب غزة زعيم قديم لحماس، تولى منصبه السياسى الأعلى فى أغسطس، ومعروف بين المؤيدين والأعداء على حد سواء، بالجمع بين المكر والعناد.. بنى قدرة حماس على مقاومة إسرائيل، فى خدمة هدف الحركة على المدى الطويل، المتمثل فى إجبار الدولة العبرية على بناء دولة فلسطينية.. ولعب دورًا مركزيًا فى التخطيط للهجوم المفاجئ على جنوب إسرائيل فى السابع من أكتوبر الماضى، الذى أسفر عن مقتل نحو ألف ومائتى شخص، واصطحب مائتين وخمسين آخرين إلى غزة كرهائن، وتم وضعه على رأس قائمة الاغتيال الإسرائيلية، وتعهد القادة الإسرائيليون بمطاردته، وألقى الجيش منشورات على غزة، تعرض مكافأة قدرها أربعمائة ألف دولار للحصول على معلومات عن مكان وجوده.. ولكن، لأكثر من عام، ظل تحقيق هذا الهدف بعيد المنال، حتى عندما قتلت إسرائيل العديد من مقاتليه وقادته.


بنى السنوار قوة قادرة على ضرب الجيش الأكثر تطورًا فى الشرق الأوسط، على الرغم من الحصار الإسرائيلى المُحكم على غزة.. لكن هجوم السابع من أكتوبر دفع إسرائيل إلى الالتزام، ليس فقط بإنهاء حكم حماس المستمر منذ سبعة عشر عامًا لغزة، ولكن أيضًا بتدمير الحركة تمامًا.. ورفع الهجوم مكانة حماس فى الأراضى الفلسطينية التى تحتلها إسرائيل، وأماكن أخرى فى العالم العربى، وفقًا لاستطلاعات الرأى.. وبينما نجح فى إعادة القضية الفلسطينية إلى انتباه العالم، أخفق فى تقريب شعبه من الاستقلال أو الدولة، بعدما حولت إسرائيل جزءًا كبيرًا من غزة إلى أنقاض، ردًا على هجوم حماس، وقتلت أكثر من اثنين وأربعين ألف فلسطينى، وفقًا للسلطات الصحية فى غزة.


وبصفته زعيمًا لحماس فى غزة، منذ عام 2017 إلى عام 2024، أعاد السنوار بهدوء إحياء علاقة الحركة مع إيران، الراعية منذ فترة طويلة، مما ساعد حماس على تطوير القدرة على التغلب على دفاعات إسرائيل.. وبينما كان يستعد سرًا لحرب عملاقة مع إسرائيل، قاد إسرائيل إلى الاعتقاد بأنه يريد العكس: ليس السلام بالضبط، ولكن على الأقل بعض الهدوء.. وقضى الكثيرون فى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية السنوات التى سبقت الحرب، فى التركيز على تهديدات أخرى، وافترضوا أن غزة كانت تحت السيطرة، كما قال البعض فى مقابلات بعد بدء الحرب.
●●●


شكَّل الصراع الإسرائيلى الفلسطينى حياة السنوار بعمق.. فقد وُلِدَ عام 1962 فى خان يونس فى جنوب قطاع غزة، وهى منطقة مزدحمة وفقيرة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، على الحدود بين إسرائيل ومصر.. ولم تتوافر معلومات عن والديه، ولكن مثل معظم سكان غزة، كان أفراد عائلته لاجئين فلسطينيين، فروا هم أو أسلافهم أو طردوا من منازلهم، فى الحرب المحيطة بقيام إسرائيل عام 1948 وكانوا يتوقون للعودة.. درس السنوار اللغة العربية فى الجامعة الإسلامية فى غزة، وانخرط فى السياسة.. فى بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلى للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1987، أسس الإسلاميون الفلسطينيون حماس، التى تعهدت بإقامة دولة فلسطينية.. وصنَّفت إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى السنوار إرهابيًا، وحماس منظمة إرهابية.


قاد السنوار، وهو عضو مبكر فى حماس، مجموعة مكلفة بمعاقبة الفلسطينيين المتهمين بالتجسس لصالح إسرائيل، وغالبًا بالإعدام.. وفى عام 1988، اعتقلت إسرائيل السنوار وحاكمته فى وقت لاحق، بتهمة قتل أربعة فلسطينيين يشتبه فى تعاونهم مع إسرائيل.. وأمضى أكثر من عقدين فى السجون الإسرائيلية، وهى تجربة قال لاحقًا، إنها سمحت له بدراسة عدوه.. وقال عام 2011، «لقد أرادوا أن يكون السجن قبرًا لنا، وطاحونة لطحن إرادتنا وتصميمنا وأجسادنا.. لكن الحمد لله، وإيماننا بقضيتنا، حولنا السجن إلى ملاذات للعبادة وأكاديميات للدراسة».. تعلم اللغة العبرية، وقرأ على نطاق واسع عن التاريخ والمجتمع الإسرائيلى، وأصبح قائد سجن، وشارك فى المفاوضات بين السجناء وسجانيهم.. «ليس هناك شك فى أنه عنيد ومفاوض جيد»، يتذكر سفيان أبوزيدة، الذى التقى السنوار فى السجن، أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وشغل لاحقًا منصب وزير فى السلطة الفلسطينية.


على مر السنين، أضاعت إسرائيل العديد من الفرص لإبعاد السنوار عن ساحة المعركة، أو القضاء عليه تمامًا.. خلال سجن السنوار، تعرَّف يوفال بيتون، طبيب أسنان السجن، عليه وعلم بجهوده المستمرة لمعاقبة الفلسطينيين، الذين يشتبه فى أنهم يعملون مع إسرائيل، كما قال الدكتور بيتون لصحيفة التايمز عام 2024: فى عام 2004، السيد السنوار يشعر بألم فى مؤخرة رقبته، أخبر الدكتور بيتون زملاءه بأنه يحتاج إلى عناية طبية عاجلة.. أزال الأطباء ورمًا خبيثًا فى المخ، كان يمكن أن يقتل السيد السنوار إذا ترك دون علاج، وشكر السنوار الدكتور بيتون على إنقاذ حياته، «كان من المهم بالنسبة له، أن أفهم من مسلم مدى أهمية هذا فى الإسلام.. أنه مدين لى بحياته»، قال ذلك الدكتور بيتون، الذى أصبح فيما بعد رئيس الاستخبارات فى مصلحة السجون الإسرائيلية.


فى تطور مؤلم للقدر، عندما ضربت حماس إسرائيل عام 2023، كان ابن شقيق الدكتور بيتون، تامير أدار، من بين الرهائن الذين أقتيدوا إلى غزة، حيث توفى بعد فترة وجيزة.. فى عام 2011، وافقت إسرائيل وحماس على مبادلة جندى إسرائيلى واحد أسير، جلعاد شاليط، مقابل 1027 سجينًا فلسطينيًا. وكان السنوار أكبر سجين أُطلق سراحه فى الصفقة.. وعاد من السجن بمعرفة أعمق بإسرائيل، والتزام أكثر حزمًا بإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين الآخرين، «لقد وعد زملاءه عندما غادر، بأن حريتهم ستكون مسئوليته»، يتذكر أبوزايدة. و«كان هجوم السابع من أكتوبر، على المستوى الأساسى، يتعلق بإطلاق سراح السجناء».


عاد إلى غزة ليجد واقعًا جديدًا.. وفى عام 2007، استولت حماس على السلطة الفلسطينية.. وهذا ما جعل حماس، للمرة الأولى، ليست مجرد جماعة مسلحة، ولكن أيضًا حكومة أمر واقع، تشرف على إدارة القطاع وتقديم الخدمات العامة.. ودفع تولى حماس السلطة فى القطاع، إسرائيل إلى فرض حصار على غزة، مما قيد حركة البضائع والأشخاص من وإلى القطاع، وعمَّق الفقر والعزلة فى القطاع.. وصعد السنوار سلم الرُتب داخل حماس.. حتى أصبح عام 2012، ممثلًا للجناح المسلح لحماس، كتائب القسام، وهو دور أقرب إلى وزير الدفاع.. وقد ربطه ذلك بقوة حماس القتالية وقائدها محمد ضيف، وهو مهندس آخر لهجوم السابع من أكتوبر، الذى تقول إسرائيل إنها قتلته فى قصف كبير فى غزة فى يوليو الماضى، ولم تعلن حماس ذلك حتى اليوم.


فى عام 2017، أصبح السنوار زعيمًا لحماس فى غزة، خلفًا لإسماعيل هنية، الذى انتقل إلى قطر، وشغل منصب الزعيم السياسى الأعلى للحركة، حتى اغتالته إسرائيل فى طهران فى يوليو الماضى.. وفى هذا الدور، سعى السنوار إلى إيجاد طرق جديدة للاحتجاج على الحصار، ولفت الانتباه إلى المظالم الفلسطينية.. فى عام 2018، وضعت حماس ثقلها وراء الاحتجاجات الكبيرة التى قام بها الفلسطينيون فى غزة، الذين سعوا إلى السير إلى قرى أجدادهم داخل إسرائيل، فى مظاهرات قمعتها إسرائيل بعنف.. كما أبدى السيد السنوار اهتمامًا بتحسين حياة سكان غزة.. وفى مقابلة نادرة مع صحفى إيطالى عام 2018، دعا إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد.. وقال، «أنا لا أقول إننى لن أقاتل بعد الآن.. أنا أقول إننى لا أريد الحرب بعد الآن.. أريد نهاية الحصار.. تمشى إلى الشاطئ عند غروب الشمس وترى كل هؤلاء المراهقين على الشاطئ، يتحدثون ويتساءلون: كيف يبدو العالم عبر البحر.. كيف تبدو الحياة.. أريدهم أن يكونوا أحرارًا».


فى عام 2021، شنت حماس حربًا جديدة كانت ثالث صراع كبير لها مع إسرائيل منذ عام 2008 احتجاجًا على الجهود الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين من القدس الشرقية، ومداهمات الشرطة الإسرائيلية للمسجد الأقصى فى القدس.. وخلال النزاع، قصفت إسرائيل منزله فى محاولة فاشلة لقتله.. وعلى الهواء مباشرة، بعد سريان وقف إطلاق النار، أعلن السنوار أنه سيسير إلى منزله، وتجرأ على إسرائيل لاغتياله.. ثم تجول فى غزة وصافح ولوح لأصحاب المتاجر، وتوقف لالتقاط الصور مع المارة.


لم يلن خطابه العنيف ضد إسرائيل أبدًا.. فى عام 2022، ألقى خطابًا ناريًا دعا فيه الفلسطينيين فى كل مكان، بما فى ذلك داخل إسرائيل، إلى «تجهيز السواطير أو الفؤوس أو السكاكين»، وبعد أقل من أسبوع، قُتِل ثلاثة إسرائيليين فى هجوم بالفأس فى وسط إسرائيل.. لكن السنوار استمر فى البحث عن تسويات مع إسرائيل، وتفاوض للسماح بدخول نحو ثلاثين مليون دولار من المساعدات الشهرية إلى غزة من قطر، وزيادة عدد التصاريح لسكان غزة للعمل فى إسرائيل، وكلاهما مطلوب بشدة لاقتصاد القطاع المتعثر.

 

 وقد أدت هذه الخطوات، بالإضافة إلى قرار السنوار بإبقاء حماس خارج الاشتباكات بين إسرائيل والجماعات المسلحة الأخرى، إلى اعتقاد المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بأن الإجراءات الأمنية المشددة والتحسينات المحدودة فى نوعية حياة سكان غزة، يمكن أن تبقى حماس محتواة من تل أبيب.. لكن هذا الأمل تبدد فى السابع من أكتوبر، عندما عطل المقاتلون الدفاعات الحدودية الإسرائيلية، واقتحموا إسرائيل بحرًا وجوًا وبرًا، واجهوا المجتمعات والقواعد العسكرية الإسرائيلية، وأطلقوا النار على الجنود، وأظهروا مدى خطأ تقييمات إسرائيل للسنوار.. وردّت إسرائيل بقوة ساحقة، ودمرت أجزاءً كبيرة من غزة، وشنت غزوًا بريًا يهدف إلى تدمير حماس، وتسببت فى واحدة من أسرع أعداد القتلى فى أى حرب فى هذا القرن.. حتى طال القتل يحيى السنوار، الذى طالما أطلق عليه الإسرائيليون، أنه «رجل ميت يمشى على الأرض».
●●●
السؤال المشغولة به إسرائيل الآن، هو: من يأتى خلفًا للسنوار، قائدًا لحماس؟.
يعتقد مسئولون أمنيون، أن محمد السنوار سيتم تعيينه زعيمًا جديدًا لحماس، فى حين سيتولى خليل الحية، نائب يحيى السنوار حاليًا، المسئوليات السياسية.. ومحمد السنوار، الشقيق الأصغر للسنوار، ولد عام 1975 فى مخيم خان يونس للاجئين.. فرت عائلته من قرية بالقرب من عسقلان عام 1948، واستقرت فى جنوب قطاع غزة.. وبسبب الكراهية العميقة تجاه إسرائيل، انخرط الأخوان السنوار بعمق فى أنشطة ضد إسرائيل، بلغت ذروتها مع هجمات السابع من أكتوبر على جنوب إسرائيل، وبداية الحرب بين إسرائيل وحماس. 


لقد عززت العلاقات العائلية، التى تربط محمد السنوار بشقيقه الأكبر يحيى السنوار، مكانته داخل أجهزة الأمن الإسرائيلية ومنظمة حماس.. إذ قال مسئول أمنى كبير يتابع محمد السنوار منذ شبابه، «منذ بداية مسيرته فى حماس، عمل محمد إلى جانب كبار القادة، يتنفس ويعيش المقاومة الخالصة».. وأضاف: «فى البداية اكتسب نفوذه بسبب علاقاته العائلية، لكن لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا، حتى تم الاعتراف بقدراته العملياتية وقسوته ومهاراته الشخصية وفهمه للاستراتيجية العسكرية.. إن العمل مع كبار القادة، إلى جانب حقيقة أن شقيقه كان مسجونًا فى إسرائيل، زاد من حدة هدفه المركزى: تنفيذ عمليات اختطاف تؤدى إلى إطلاق سراح شقيقه، فضلًا عن سجناء آخرين، بدلًا من الهجمات التى تهدف فقط إلى القتل».


وذكر مسئول أمنى سابق، مُطَّلع على المشهد الاستخباراتى فى غزة خلال تلك السنوات، أنه على الرغم من عدم الإعلان عن ذلك على نطاق واسع، فقد جرت محاولات قتل مستهدفة ضد محمد السنوار، أكثر من أى شخصية كبيرة أخرى فى حماس قبل بدء الحرب، «لم يكن محمد السنوار محوريًا فى التطور العسكرى لحماس فحسب، من كتائب عزالدين القسام إلى الجناح العسكرى وفى النهاية جيش كامل، بل لعب أيضًا دورًا قياديًا ومؤثرًا فى عدة مراحل من العملية.. وليس من قبيل المصادفة، أن منزله دُمر عدة مرات فى العقدين الماضيين.. كانت العمليات للقضاء عليه خيالية تقريبًا فى نطاقها، لكنها فشلت».. وكان محمد السنوار أحد العقول المدبرة وراء اختطاف جلعاد شاليط عام 2006، بينما كان شقيقه يحيى السنوار مسجونًا فى إسرائيل.. كان كبار قادة حماس وكبار المسئولين فى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، على دراية تامة، بأن يحيى السنوار سيتم إطلاق سراحه فى صفقة شاليط، ويرجع ذلك إلى حد كبير، إلى مشاركة محمد السنوار فى العملية.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.