رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبقرية الشيخ سيد

أثناء دراسة استمرت أربع سنوات بكلية الهندسة جامعة عين شمس، قبل التحاقي بكونسيرفاتوار بطرسبورج واحترافي للموسيقى، تعلمت إلى جانب الحس الهندسي والتفكير العقلاني المنظم سحر الحاسوب.. الكومبيوتر.

كان لدي حاسوب آلي صغير، أهداني إياه والدي رحمه الله، وكان معه كتاب ضخم يشرح كيفية عمله وإمكانياته المتنوعة. تعرفت وقتها لمامًا على لغة "البيسيك" Basic للبرمجة، وببعض المذاكرة والقراءة تمكنت في إحدى ليالي الاستذكار أن أنشئ برنامجًا يساعدني في حل ستة مسائل في مادة الميكانيكا، حل الواحدة منها كان سيستغرق ما يقرب الساعة. أنشأت البرنامج في ساعة ونصف أو ساعتين، أما حل المسائل الست، فلم يستغرق أكثر من 5 دقائق. هذا هو الفرق بين بيتهوفن والشيخ سيد درويش.

حكاية لطيفة رواها لي المايسترو ناير ناجي قائد الأوركسترا المرموق، أن سيد درويش تعرف على بديع خيري، والذي كان آنذاك أشهر من نار على علم، وكانت أغنية الشيخ سيد "دنجي دنجي" قد نالت من الشهرة مبلغها، فقال له بديع خيري: لاااا... إنت لازم تتعرف على ناس من اللي هي بجد!

واصطحب خيري صديقه درويش إلى والد الممثلة لولا صدقي، وكانت حينها تظهر في أفلام الثلاثينيات من القرن الماضي، وكان رجلا من علية القوم، يرتاد دار الأوبرا الخديوية، ويستمع إلى ما تيسر من فيردي وبوتشيني وغيرهم من مؤلفي ذلك القالب الغربي المعقد، وكان على دراية معتبرة بالثقافة الأوروبية.

لا أظن أن الشيخ سيد درويش نام ليلتها. وحين استمع إلى فيردي، كموسيقي شديد الموهبة والعذوبة، وحينما "لمس" بأذنه ما يمكن أن يصنعه التوزيع الأوركسترالي المكتوب، ومعنى أن يتنوع اللحن بين النسيج الصوتي للآلات، ويتكسر ويتفرع على قواعد الصوت والصوت المصاحب والصوت المضاد، حينما "رأى" ذلك الشيخ سيد، أدرك تمامًا ما ينقصه.

كانت تلك هي اللحظة التي تعرّف فيها الشيخ سيد على "سحر الحاسوب" الذي كنت أكتب عنه منذ قليل. بمعنى أن ما يفصل الشيخ سيد وألحانه عن أوبرا "عايدة" وفيردي هو تلك التكنولوجيا، تلك الثقافة الممتدة عبر قرون من تراكم الثقافة الغربية من مونتيفيردي وتيليمان وباخ وحتى هايدن وبيتهوفن وموتسارت وصولًا إلى فيردي وبوتشيني.

توصل الشيخ سيد بحدسه وعبقريته لذلك المنتج الثقافي المسمى "الأوركسترا"، و"الأوبرا" و"الهارموني" و"الكونترابنط".

حينها سأله والد لولا صدقي: هل تستطيع أن تأتي بمثل هذا؟

فرد الشيخ سيد: نعم، لكني لا أستطيع التوزيع للأوركسترا.

كتب سيد درويش الفصل الأخير من أوبريت "شهرزاد" بما يشبه طريقة كتابة بيلليني، وطلب من موزع أن يصيغ أعماله بتلك الطريقة التي استمع إليها يوما.

سر التدوين الموسيقي

لم يكن التدوين وحده هو ما وقف عقبة أمام رحلة الشيخ سيد الإبداعية، كان التدوين هو الخطوة الأولى في طريق الألف ميل وآفاق الموسيقى، بمعنى أن التدوين الموسيقي يعني شيئان: الأول هو إمكانية المراكمة على ما حدث بالأمس أو أول أمس أو منذ قرنين من الزمان، وكذلك المراكمة على ما يحدث في مكان آخر من العالم، فاللغة الموسيقية واحدة، يشترك فيها المصري والصيني والروسي والأمريكي.

الثاني هو أن التدوين يتيح الفرصة للحذف والقص واللزق والمدّ والتقصير وكل ما تشاء من ألعاب استنادًا لأن ما تسمعه أصبحت تراه، وما تراه أصبحت تسمعه. وتلك العلاقة المتبادلة بين المسموع والمقروء هي ما تتيح لنا رؤية اللحن، وبالتالي تدقيقه ورصده ونقده والحديث عنه بالإحداثيات.

ما وددت أن أشير إليه بشأن عبقرية الشيخ سيد هو امتداد ألحانه التي يمكن أن تصل إلى 20-30 مازورة (وحدة النص الموسيقي)، وذلك هو اللحن فقط، بمعنى أن سيد درويش كان "طويل النفس" على نحو غير معقول، وكل عدد ضئيل من تلك الموازير (4-5 موازير) كان من الممكن أن يكون نواة لحركة من سيمفونية أو عمل كبير بأكمله.

لهذا نشعر بأن اللحن لدى موتسارت أو بيتهوفن هو لحن "مربع" أو "مثلث" أو "مستطيل"، له شكل وقالب وبداية ونهاية، أما لحن الشيخ سيد فتسمعه ممتدًا ومنسابًا كالنهر، ولا يتوقف حتى يصب في بحر الموسيقى والجمال والإبداع.

لكن ما يظل حميميًا بلا حدود لدى الشيخ سيد درويش هو القدرة والموهبة الفذة في إيجاد اللحن الشجي والعذب والسهل الممتنع الذي ينفذ إلى القلب والوجدان فورًا بلا حواجز، ودون أن يمر حتى على العقل، إنه إحساس الشيخ سيد بتنغيم اللغة، وقدرته على التعبير عن الكلمات بالموسيقى، لتصبح الكلمات معجونة بالموسيقى، والموسيقى معجونة بالكلمات في مزيج بديع لا يتكرر إلا لدى سيد درويش.

يشبه الشيخ سيد في ذلك المؤلف الروسي موديست موسورجسكي، الذي تمكن من العثور على "اللكنة" الروسية الخاصة بالثقافة الروسية، وهكذا الشيخ سيد، الذي عثر على "اللكنة" المصرية الخالصة الأصيلة. ربما كان ذلك هو السر الذي جعل من موسيقى الشيخ سيد تعيش أبدًا في وجدان المصريين وثقافتهم وحياتهم، لا لارتباطها باللغة المصرية فحسب، وإنما لارتباطها بموسيقى اللغة المصرية.