رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القطط السمان

آن الصافى - السودان
آن الصافى - السودان

كان أبى غاضبًا فى حديثه مع أمى، قال لها متذمرًا: «والدتك لها منزل وأسرة يجب ألا تدخل فى حياتنا، الخطأ منى، من اليوم وصاعدًا لن تخرجى إلا بإذنى، عدا ذلك سأخبر السائق أن يبلغنى عن كل تحركاتِك، فهمت؟».

كل ما فى الأمر، أمى ذهبت مع جدتى لبيت عزاء أقرباء. ألحّت جدتى على أمى بمرافقتها، وارتضت الأخيرة مُرغمة الذهاب معها. لم تخبر أبى، الذى كان فى رحلة عمل إلى مدينة مجاورة. على غير عادته عاد إلى المنزل باكرًا عن الموعد الذى أخبر أمى به. ظنت والدتى أن الأمر لن يضير، لن تخبره وإن سألها أين ذهبت فقط حينها ستعلمه. 

عادت لتجده عند باب المنزل، غاضبًا ينتظرها، وما إن رآها حتى كال لها ولجدتى السباب. لا أعلم إن قام بصفعها فى وجهها أم لا، فقط رأيتها باكية مغطية وجهها بكفيها، توجهت مُسرعة إلى حجرتها، بينما جدتى لم تدخل، وهرولت نحو منزلها.

صباحًا، بعد أن خرج أبى للعمل، ذهبت لوالدتى لأسلم وأطمئن عليها. وجدتها فى حجرتها مستلقية على الفراش دون حركة تنظر لبقعة ما فى الجدار. اقتربت منها، قبّلت جبينها، سألتها: «أمى لدى سؤال.. ماذا يعنى قطط سمان؟».

بصوت متحشرج أجابتنى وهى مبتسمة تنظر إلى عينى: «أين سمعت هذه التسمية؟» أجبتها بعد تنهيدة: «فى المدرسة، زميلى قال لى أنتم يا أبناء القطط السمان ستصيبكم اللعنة، لم أفهم ما قاله ولِمَ قاله».

مدت يديها نحوى وقربتنى أمامها مُقبّلة خدى، أفسحت لى كى أصعد إلى الفراش، وأستلقى قربها. وضعتنى فى حضنها وهى تمسح على شعرى. أنفاسها أشعرتنى بأننى أمتلك الدنيا، وما بها، هذا الحنان الذى تشملنى به يخفف عنى قسوة قلب أبى. أبى لا يقبلنى ولا يتحدث إلىّ إلا بلغة الأمر، افعل ولا تفعل.

بعد بضعة أشهر، اختفى أبى، لم يعد إلى المنزل لأيام وأسابيع وأشهر، وكلما سألت أمى أخبرتنى بأنه فى رحلة عمل وسيعود لاحقًا، تعجبت من عدم اتصاله طوال فترة غيابه، وكذلك تعجبت من زيارات الأهل والأصدقاء للسلام على أمى، وعادة تطلب منى ألا أجالسهم. 

امتد غياب أبى سنة كاملة. فى أحد الأيام، فى مطلع العطلة المدرسية، رن هاتف أمى، أجابت وكان وجهها متسمرًا. عرفت يومها أن أبى قد مات. لم يشرح لى أحد كيف مات، لكن الذى شاهدته يومها جمعًا غفيرًا قدموا يحملون جثمانه أمام المنزل، وقالوا إنه عليهم القيام بدفنه مباشرة. ذهبت معهم، همهمات وبعض الأدعية وآيات من الذكر الحكيم تُتلى، عمى كان ممسكًا بيدى لم يفلتها أبدًا. تلك الليلة نمت فى حضن عمى، وكان رحيمًا بى. طوال أيام العزاء، لاحظ أنى أجلس فى صمت وأراقب المُعزين، أمد يدى لمن يمد يده لى، بعضهم يمسح براحته على رأسى. مللت هذه الحركة وعبرت عن ذلك لعمى، الذى قال لى لا بأس هم يعبرون عن تعاطفهم وحبهم لى.

انتقلنا للعيش فى منزل جدتى وجدى، لم يعد لدينا منزل مستقل، لم تعد لدينا سيارات. عمى استمر بزيارتنا يأتينى دومًا بهدايا. يوم الجمعة يأتى ونذهب رفقة جدى للصلاة بالجامع ونعود لتناول الغداء معًا بالمنزل.

فى المدرسة، يندر أن يجالسنى أصدقاء، مع وفاة أبى توقفوا عن التنمر، والتزموا الصمت مع تجاهلى تمامًا. كنت أخبر أمى بذلك، عادة تتواصل مع إدارة المدرسة، النتيجة المعلمون كانوا رفقاء بى، لكنى وحيد وحيد تمامًا، ليس لى أصدقاء، حتى وإن تقرب أحدهم يبتعد عنى بعدها، ويعاملنى كأنه لا يعرفنى.

عدت يومًا من المدرسة ووجدت ورقة بين كتبى فى حقيبتى، مكتوبًا عليها «لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»، حاولت أن أتذكر من وضعها كيف ومتى، فشلت. أريت الورقة لأمى وسألتها ماذا تعنى هذه الجملة. بكت وقالت لا لا عليك لا تهتم، ثم تواصلت مع إدارة المدرسة، وحسب ما قيل لها، إنهم لا يعرفون من وضع الورقة، لكنهم سينوهون على التلاميذ ألا يكرروها، مع الاعتذار.

بحثت عن معنى ما وجدته وهو حديث نبوى، حزنت وفهمت المغزى. كنت أخرج غضبى فى الدراسة، وبتشجيع أمى كنت أحرز درجات عالية. 

مضى عام، انتقلت وأمى للعيش مع عمى، لقد تزوج من أمى. كنت أنام معها فى غرفتها وعمى ينام فى غرفة منفصلة. الحياة بالنسبة لى أم وعم يملآن وقتى بالأحاديث والمتابعة والتشجيع على الدرس وممارسة هواياتى، الرسم وعزف البيانو.

فى صباح لم يفهم منه إلا أن حياتنا لم تعد كما ألفنا، رصاص وأخبار موت وصوت أمى وهى تجهش بالبكاء، إنها الحرب، نزحنا فى فوضى جثث ونيران، بملابسنا وأوراق وجوازات سفر حملها عمى فى صدره. وصلنا إلى مدينة حلفا، ومنها إلى القاهرة وفى غضون أشهر قليلة، كنا فى مدينة الضباب، عمى لديه جواز سفر بريطانى. فى بريطانيا، تغيرت حياتنا جميعًا، أصبحت لى غرفة خاصة بى ولأمى وعمى غرفتهما. أصبح لدىّ عدد من الأصدقاء، من الجيران وزملاء دراسة.

كبرت وعرفت من هو أبى، وما معنى القطط السمان، ولماذا عانيت من تنمر الزملاء فى المدرسة. 

غربتى الحقيقية فى معنى تلك الجملة التى دست فى حقيبتى، لم أنسَ يومًا معنى الحديث «لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»، فقط بعد أن كبرت تعلمت بدلًا عن الشعور بالحزن واليأس أن أفكر هناك مساحة للرحمة قد لا يعيها بعض البشر، آمل أن تشملنى، الآن ولاحقًا.