عاد لينتقم!
بعد طول تمنُّع ومقاومة مُستميتة، أُجبر"جو بايدن"، الرئيس السادس والأربعون للولايات المتحدة، على الاعتراف بعدم قدرته على خوض الانتخابات الأمريكية، والانسحاب من سباق الرئاسة والتنحّي عن خوض المعركة الضارية المُحدّد لها شهر نوفمبر القادم، بعدما خذلته أوضاعه الصحيّة المُتراجعة، كما تبدّي في أدائه المُتردي خلال المُناظرة ضد خصمه الشرس "دونالد ترامب"، المُنافس الضاري المُتعطّش للانتقام، والساعي ـ بدون هوادة ـ للعودة إلى ارتقاء كرسي العرش للشخص الأهم على مستوى المعمورة، الذي يملك حق التصرُّف في مُقدّرات أكبر الدول اقتصاديًا، وأقواها عسكريًا، وأكثرها نفوذًا على القطاع الأكبر من دول وشعوب العالم بسبب هيمنتها المنفردة على مؤسسات العمل الدولي: السياسي والمالي، والأهم بالنسبة لنا، لسطوتها الطاغية على القرارات الاستراتيجية لمُعظم دول المنطقة، وفي مقدمتها تلك الخاصة بالصراع ضد العدو الصهيوني، وأوضاع القضية الفلسطينية وتطوراتها، انطلاقًا من حقيقة أن الولايات المتحدة هي "الأب الروحي" لـ "إسرائيل"، والحامي الرئيسي له على كل المستويات.
حتى الآن وبسبب الظروف الأخيرة التي دارت حول مُستقبل الانتخابات الأمريكية، وخاصةً بعد واقعة محاولة إطلاق الرصاص على "ترامب" وقتل المُتهم في هذه العملية الفاشلة، إضافةً إلى الضعف والهشاشة اللذان صاحبا أداء "بايدن" المتعثر، فضلًا عن اتجاه غالبية من أصوات الشباب الحانق بسبب جرائم إسرائيل في غزة للتخلي عن دعمه، تبدو فرص "ترامب" في الفوز للانتخابات هي الأفضل، لكن من المُبكر حسم هذه القضية، وعلينا أن ننتظر حتى ظهور النتيجة، خاصةً وأن "البديل" لـ "جو بايدن" لم يُعلن رسميًا، رغم تأييده لترشيح نائبته "كاميلا هاريس" خلفًا له.
وإذا كانت سياسات "الحزب الديمقراطي" قد باتت معلومة، فماذا لو فاز "ترامب" في الانتخابات، وتُوج رئيسًا، وهو احتمال وارد على كل الأحوال؟
يُمكن توقُّع ثلاثة محاور رئيسية للسياسات الأمريكية في ظل "ترامب"، أبرزها السياسات الداخلية، والتي حدّدها (حال فوزه بالسُلطة)، وتدور حول سبعة قضايا: في إطار المنافسة الاقتصادية مع الصين: فرض رسوم جمركية بنسبة 60%، وفي المقابل خفض مُعَدَّل الضريبة على الشركات إلى 20% (الآن 21%)، وزيادة إنتاج النفط والغاز والفحم الطبيعي (موقف سلبي من اتفاقيات المناخ والحد من التلوث)، وتخفيض الفائدة على الدولار، والاستثمار في التقنيات المُتقدمة (مع موقف غير مُتحمس للاستثمار في السيارات الكهربائية)، وإنهاء التضخُّم وخفض كُلفة المعيشة في أمريكا، وأخيرًا: تنفيذ أكبر برنامج لترحيل المُهاجرين الأجانب من أمريكا إلى خارجها!
أمّا على المستوى العالمي والأوروبي، فمن المُتَوَقَّع أن يتخذ موقفًا مُتحفِّظًا من حلف "الناتو"، وهو موقف سبق له إعلانه ويتلخّص في ضرورة قيام كل دولة من دول الحلف بتسديد ما نسبته 2 % من إجمالي دخلها القومي إلى خزينة التحالف الغربي، وإلّا فلروسيا "أن تفعل ما يحلو لها"، كما سبق له وصف حلف الناتو بأنه منظمة "عفا عليها الزمن"!
لكن أخشى ما يخشاه دول حلف «الناتو» هو تغيُّر الموقف الأمريكي في عهد "ترامب" كيفيًا من الحرب الروسية ـ الأوكرانية، وقد عَبَّرَ الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي" عن القلق العميق من أن تحمل عودة "ترامب" إلى موقع الرئاسة الأمريكية مُجدّدًا اتجاهًا لمنع المُساعدات العسكرية والمالية عن بلاده، مُوضحًا أن أوكرانيا لن تملك في هذه الحالة القدرة على مقاومة سلاح الجيش الروسي بإمكانياته الهائلة، حيث تُشكل مظلة الحماية التي يوفرها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الضمانة الوحيدة لأمنها على المدى الطويل.
وفيما يخص قضايانا في الوطن العربي، فليس من المُنتظر أن يتخلّي "ترامب" عن الدعم الكلي لقاعدتهم الصهيونية المتقدمة، "إسرائيل"، التي حدّدَ "إريئيل شارون" وزير الدفاع ورئيس الوزراء الصهيوني الأسبق مضمون دورها وجوهر وظيفتها في خدمة المصالح الأمريكية والغربية، ومن ثم "استحقاقها" للإنفاق الأمريكي عليها والدعم العسكري الاستراتيجي السخي لها: "إن الأمريكيين يُعاملوننا وكأننا حاملة طائرات أو قاعدة عائمة. إنهم لا يفهمون دلالتنا الحقيقية؛ نحن لسنا حاملة طائرات واحدة؛ بل نحن عشرون حاملة. نحن أهم كثيراُ مما يظنون، إذ نستطيع أن نذهب بالشرق الأوسط في كل لحظة"! (سيمور هيرش، الخيار شمشون، الطبعة الإنجليزية، نيويورك، راندوم هاوس، 1991، ص: 289).
ولعلنا نذكر أن "ترامب" هو مَن وافق على (مشروعية) فرض قرار جعل مدينة "القدس" المُحتلة عاصمة الكيان المُغتصب بنقل السفارة الأمريكية إليها، في 6 ديسمبر 2017، بعد أن أعلن أن القدس، بشقيها الشرقي والغربي، عاصمة لإسرائيل، رغم أن هذا الأمر يمثل اعتداءً مُباشرًا على القانون الدولي وعشرات القرارات الأممية، وهو الذي بارك ضم مُرتفعات الجولان المُحتلة للدولة الصهيونية، بإعلانه عن مرسوم تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بموجبه أن هضبة الجولان السّورية المحتلّة جزءٌ من دولة "إسرائيل"، وقّعه في 25 مارس 2019 بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" إلى واشنطن، كما أنه مَن دفع باتجاه تسريع وتيرة التطبيع بين النظم العربية الخليجية والكيان الصهيوني من خلال مشروع "الديانة الإبراهيمية" المزعومة!
لقد عاد الذئب الجريح؛ الحاقد؛ لينتقم، فلا ينتظرن منه عاقلٌ خيرًا.