أمريكا وسعد زغلول!
تابع العالم كله معركة الانتخابات الأمريكية الأخيرة، كما شهدت منطقتنا جدلًا كبيرًا حول أى رئيس تُفضِّل: كامالا أم ترامب؟، وصوتت مجموعات من الأمريكيين العرب والمسلمين تصويتًا عقابيًا ضد الحزب الديمقراطى، صبَّ فى النهاية لصالح ترامب. ووصل الأمر بالبعض إلى القول إن رئيس أمريكا هو الذى يحكم العالم فى حقيقة الأمر، وسواء كانت العبارة السابقة صادقة تمامًا، أم بها بعض المبالغة، فإن أهم ما يلفت الانتباه هو ترقب العالم كله للرئيس القادم، الذى أصبح الآن ترامب، وماذا سيفعل بالنسبة للسياسة الخارجية سواء فى منطقتنا الملتهبة، أو فى أوكرانيا أو فى أوروبا على وجه الإجمال، أو حتى فى الصين؟. وفى منطقتنا ساد الاعتقاد بأن أمريكا تعبر الآن عن شخصية «الكاوبوى» أو الوجه القبيح.
ربما لا يعرف أغلبنا أن صورة أمريكا فى العالم، وعلى وجه الخصوص فى الشرق الأوسط، لم تكن على هذا النحو عند مطلع القرن العشرين؛ حيث أشاد العالم بأمريكا، وبالحلم الأمريكى، وبأمة المهاجرين التى صنعت دولة ديمقراطية حقيقية، فى ذلك الوقت. وصدّرت أمريكا للعالم صورتها على أنها حامية الديمقراطيات فى العالم.
وعلى هذا النحو أعلنت أمريكا فى عام ١٩١٧ عن دخولها الحرب العالمية الأولى دفاعًا عن الديمقراطيات فى أوروبا، فى مواجهة ما أطلقت عليه الديكتاتوريات الشمولية. ووقف الرئيس الأمريكى ويلسن يعلن مبادئه الأربعة عشر، التى رأى أنها أساسية لبناء عالم جديد، عالم حر، عالم ما بعد الحرب. وكان أهم هذه المبادئ جميعًا، هو مناداة ويلسن بحق الشعوب فى تقرير مصيرها. كما أعلن عن أن العدل إذا لم يُمنَح لكل الأمم، فلا يمكن لأمريكا أن تحصل عليه هى أيضًا، وأن الأمانى القومية يجب أن تُحترَم، ولا يجوز أن تُساد الشعوب أو تُحكَم إلا بمحض إرادتها ورغبتها. كما أنكر ويلسن على الدول القوية استعباد الشعوب الضعيفة، واستخدامها فى مصلحتها الذاتية. كما رفض مبدأ حكم الشعوب بسلطات مستبدة غير مسئولة.
كان لإعلان الرئيس ويلسن لمبادئه ودعوته إلى حق الشعوب فى تقرير مصيرها وَقْع السحر على الحركة الوطنية المصرية، حتى إن عبدالرحمن الرافعى يضع إعلان ويلسن ضمن الأسباب التى ساعدت فى قيام ثورة ١٩١٩ طلبًا لرفع الحماية وإعلان استقلال مصر؛ حيث يذكر الرافعى أن الأمة المصرية أدركت: «أن الحلفاء ومنهم بريطانيا العظمى وافقوا على مبادئ ويلسن، فاستقر فى أذهان الأمة أنها بوقوفها ضد الاحتلال والحماية، لا بُد واصلة إلى تقرير مصيرها». وبالفعل نهض سعد زغلول ورفاقه للمطالبة بالاستقلال وفقًا لمبادئ الرئيس ويلسن، وضرورة سفر الوفد المصرى إلى مؤتمر الصلح فى باريس، الذى دعا إليه الرئيس الأمريكى للنظر فى أحوال شكل العالم ما بعد الحرب، وتقرير مصير الشعوب التى تخلصت من الديكتاتوريات.
وتم إلقاء القبض على سعد زغلول ورفاقه ونفيه إلى جزيرة مالطة. وظل سعد يأمل خيرًا فى تدخل أمريكا من أجل تحقيق مبدأ حق تقرير المصير الذى نادى به رئيسها. لكن فوجئ الجميع فى شهر أبريل عام ١٩١٩، باعتراف الرئيس ويلسن بالحماية البريطانية على مصر. ويعلق الرافعى على ذلك قائلًا: «كانت الأمة المصرية تعلق على مبادئ ويلسن آمالًا كبيرة، فجاء اعترافه بالحماية مخيبًا هذه الآمال».
ويبدو أن الرئيس الأمريكى عندما نادى بحق الشعوب فى تقرير مصيرها، كان يقصد الشعوب الأوروبية وليست الشعوب الشرقية. كما رضخت أمريكا لمصالحها مع حليفتها بريطانيا، وبالتالى اعترفت بالحماية البريطانية على مصر. وهنا أدرك الشعب المصرى وَهم الاعتماد على الخارج، وضرورة الاعتماد على الذات، واستمر فى ثورته حتى أجبر بريطانيا على رفع الحماية عن مصر، وإعلان المملكة المصرية عام ١٩٢٢.
هل نتعلم اليوم من التاريخ؟!