رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتخابات الأمريكية.. ديناميات ما قبل النهايات؟

من رجل مُطارد فى قضايا قانونية، ومُعتقل لأكثر من مرة، ومتهم بالاغتصاب، وتعرض للاغتيال غير مرة، إلى رئيس للولايات المتحدة، مرة ثانية، باكتساح غير متوقع.. عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ثانية، ليضعنا أمام ضرورة البحث فى المقدمات التى أدت إلى هذا الوصول الرئاسى، والمآلات التى ينتظرها العالم، بعد رحيل اليسار الأمريكى عن الحكم، ممثلًا فى الحزب الديمقراطى، برئاسة الرئيس الحالى، جو بايدن.. وبما أننى قلت مرارًا أنه لابد من بدايات تؤدى إلى النهايات، فحرى بنا الحديث، ولو باختصار، عما شهدته الفترة السابقة من أحداث وتحولات، جاءت بترامب إلى سدة الحكم فى البيت الأبيض، ليتنفس العالم الصُعداء، بعد أن كادت إدارة بايدن تقود هذا العالم نحو الدمار.

كان رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، سعيدًا للغاية، عندما تولى دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، فيما قبل جو بايدن، لدرجة أنه أطلق اسمه على إحدى المستوطنات.. وتتألف مستوطنة Trump Heights، أو «مرتفعات ترامب»، من مجموعة منعزلة من المنازل سابقة التجهيز فى الجولان المحتل، ذات المناظر الطبيعية الصخرية والمليئة بالألغام، ويرى القادم عند بوابة الدخول نسرًا فى وضعية تحليق وشمعدانًا يحرس مدخل المستوطنة، كما تبرز قمم الجبال ذات اللون الأرجوانى فى السماء الزرقاء الممتدة فى الأفق.. كانت هذه مكافأة نتنياهو لترامب، الذى غيّر نصف قرن من السياسة الأمريكية، والإجماع الدولى الواسع، من خلال اعترافه بسيادة إسرائيل الإقليمية على الجولان، التى استولت عليها من سوريا خلال حرب 1967، وضمتها لاحقًا فى خطوة انفرادية، لدرجة أن السؤال المطروح، الذى يسعى سكان المستوطنة، التى تضم عشرات العائلات وعددًا من الجنود المقيمين، الإجابة عنه، هو ما التأثير الذى قد يحدثه المرشح الجمهورى ترامب أو منافسته الديمقراطية، كامالا هاريس، على مصالح إسرائيل فى المنطقة حاليًا.

كان ترامب قد حظى بتأييد نتنياهو، خلال فترة ولايته السابقة، كرئيس للولايات المتحدة، عندما ألغى الاتفاق النووى الإيرانى الذى عارضته إسرائيل، فضلًا عن التوسط فى إبرام اتفاقيات تطبيع علاقات مع العديد من الدول العربية على نحو غير مسبوق، والاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، فى خطوة خالفت عقودًا من السياسة الأمريكية.. وقد وصفه نتنياهو ذات مرة بأنه «أفضل صديق لإسرائيل فى البيت الأبيض على الإطلاق».. وبينما كانت الولايات المتحدة تستعد لانتخابات الرئاسة، لم يخف نتنياهو تقديره للمرشح الجمهورى، وقد أشارت استطلاعات الرأى، وقتها، إلى أنه ليس وحده فى ذلك، إذ إنه وفقًا لاستطلاعات رأى قبل الانتخابات، اتضح أن نحو ثُلثى الإسرائيليين يرغبون فى فوز ترامب مرة أخرى.. كما أظهرت الاستطلاعات أن أقل من 20% يريدون فوز كامالا هاريس، لأن هاريس ـ فى نظر غير هؤلاء ـ «كشفت عن حقيقتها»، عندما أظهرت اتفاقها مع متظاهر فى تجمّع اتهم إسرائيل بارتكاب «إبادة جماعية»، وقالت نائبة الرئيس إن «ما يتحدث عنه حقيقى».. ثم أوضحت لاحقًا أنها لا تعتقد أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية.

فى نظر مؤيدى ترامب، إنه «يهتم بإسرائيل أكثر، إنه أقوى على أعدائنا، ولا يخاف».. «أعرف أن الناس لا يحبونه، لكننى لست بحاجة إلى حبه.. أحتاجه ليكون حليفًا جيدًا لإسرائيل»، بينما كانت هاريس أكثر صراحة فى الدعوة إلى وقف إطلاق النار فى غزة، وركزت بشكل أكبر على القضايا الإنسانية.. وبعد لقاء جمعها بنتنياهو فى البيت الأبيض فى يوليو الماضى، قالت إنها «لن تلتزم الصمت» بشأن الوضع فى غزة، وقالت إنها عبّرت له عن «قلقها الشديد بشأن حجم المعاناة الإنسانية» وسقوط مدنيين أبرياء قتلى.. بينما وضع ترامب إطارًا لنهاية الحرب، ووصفها بأنها «انتصار» لإسرائيل، وعارض وقف إطلاق النار الفورى فى الماضى، ويُقال إنه قال لنتنياهو «افعل ما يجب عليك أن تفعله».

بينما لا يرى العديد من الفلسطينيين سوى «القليل من الأمل» فى أى من المرشحين الأمريكيين.. يقول مصطفى البرغوثى، المحلل السياسى الفلسطينى فى الضفة الغربية المحتلة، إن «التقدير العام يقول، إن الديمقراطيين سيئون، ولكن إذا انتُخب ترامب فسيكون الأمر أسوأ.. الفرق الرئيسي، هو أن كامالا هاريس ستكون أكثر حساسية تجاه تغير الرأى العام الأمريكى، وهذا يعنى المزيد لصالح وقف إطلاق النار».. فحرب غزة عززت الضغوط من جانب حلفاء الولايات المتحدة، بغية إحراز تقدم نحو الدولة الفلسطينية.، بيد أن أى من المرشحين الأمريكيين لم يضع قضية إقامة دولة فلسطينية على رأس جدول أعماله.. وعندما سُئل ترامب خلال مناظرة رئاسية عما إذا كان سيؤيد الخطوة، أجاب: «سأرى».. كما أن العديد من الفلسطينيين فقدوا الأمل فى الوعد بإقامة دولة فلسطينية، وفى الدعم الأمريكى عمومًا، «الشعور السائد، هو أن الولايات المتحدة أخفقت بشكل كبير فى حماية القانون الدولى، وأخفقت فى مساعدة الفلسطينيين أكثر من مرة، وانحازت بالكامل لإسرائيل.. قضية الدولة الفلسطينية ليست سوى شعار».

أما فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الأوسع، مثل إيران، فلدى المرشحين تاريخ من النهج المختلف، إذ نصح ترامب إسرائيل مؤخرًا «بضرب الأسلحة النووية أولًا، والاهتمام بالباقى لاحقًا».. وجاءت كلمات ترامب قبل تنفيذ إسرائيل ضربات على إيران ردًا على هجوم صاروخى إيرانى فى وقت سابق الشهر الماضى.. وقال السفير الإسرائيلى السابق لدى الولايات المتحدة، دانى أيالون، «ربما يلعب ترامب لعبة أكثر صرامة، وسيكون الإيرانيون أكثر ترددًا إذا تولى الرئاسة»، لكنه يقول إنه من السهل المغالاة فى الحديث عن الاختلافات بين المرشحين.. وقد تحدث كل من هاريس وترامب خلال حملتيهما الانتخابية، عن إبرام اتفاق جديد لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، وكلاهما يرغب فى زيادة اتفاقيات تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، لا سيما السعودية، وما سيكون مختلفًا هو نهجهما، إذ قال أيالون، «أعتقد أنه إذا فازت كامالا هاريس برئاسة البيت الأبيض، فإن الاتجاه سيكون من الأسفل إلى الأعلى، مما يعنى أن وقف إطلاق النار فى غزة ولبنان سيأتى أولًا، قبل الانتقال إلى المسائل الأكبر المتعلقة بإيران أو التحالفات الإقليمية الجديدة.. أما الوضع فى حالة فوز ترامب، سيكون الاتجاه من أعلى إلى أسفل، وسيذهب مباشرة إلى طهران، ومن هناك، سيحاول الوقوف على التفاصيل والمشاهد المختلفة فى شتى أرجاء الشرق الأوسط».

وترى مصادر مطلعة من السياسيين فى إسرائيل والولايات المتحدة، أن كامالا هاريس أقرب إلى المواقف الحزبية التقليدية الأمريكية، بشأن السياسة الخارجية فى الشرق الأوسط، وأن دونالد ترامب غير مُتوقع، ومتردد فى إشراك أمريكا فى الصراعات الخارجية، وعرضة لإبرام اتفاقيات عشوائية.. بيد أن أيالون يعتقد أن السياسة ليست وحدها التى تؤثر على المزاج العام فى إسرائيل، وقال، إن «بايدن دعم إسرائيل طوال العام، لكنه لم يحظ بتأييد، لأسباب لها طابع ظاهرى أكثر من كونها قضايا حقيقية.. عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الأمريكية- الإسرائيلية، فإن الإيماءات العامة والعواطف، مهمة.. والكثير منها شخصى.. المصالح المشتركة أمر مفروغ منه، لكن الشخصيات أيضًا مهمة».

●●●

هنا، لابد أن نشير إلى أن الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب كان قد شن هجومًا لاذعًا على رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، فى ديسمبر 2021، متهمًا إياه بـ«عدم الولاء»، وأوضح ترامب- وقتها- أنه غضب من الطريقة التى هنأ بها نتنياهو، الرئيس جو بايدن بعد فوزه فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية.. وقال بأنه أنقذ إسرائيل من الدمار، «لو لم أكن رئيسًا لأمريكا، أعتقد أن إسرائيل كانت ستدمر.. حسنا.. تريد أن تعرف الحقيقة؟.. أعتقد أن إسرائيل ربما كانت قد انتهت الآن».. وتبنت إدارته سياسات مؤيدة لإسرائيل، بشكل غير مسبوق فى تاريخ العلاقات بين البلدين، وقال ترامب، خلال حديث إلى الصحفى الإسرائيلى، باراك رافيد، الذى كان يُعد كتابًا بعنوان «سلام ترامب: اتفاقات أبراهام وإعادة تشكيل الشرق الأوسط»، إن نتنياهو سارع بتهنئة جو بايدن على فوزه فى الانتخابات الأمريكية، «أول شخص هنأ جو بايدن كان بيبى  فى إشارة إلى بنيامين نتنياهو ـ الرجل الذى فعلت من أجله أكثر من أى شخص آخر تعاملت معه.. كان يمكن لبيبى أن يظل صامتًا.. لقد ارتكب خطأ فادحًا.. لقد كان سريعًا جدًا.. أسرع من معظم الناس.. لم أتحدث معه منذ ذلك الحين».

وفى الواقع، لم يكن نتنياهو أول زعيم أجنبى يهنئ بايدن. كما أنه أعرب عن امتنانه لترامب عبر تويتر بعد دقائق من تهنئة بايدن.. لكن ترامب ظل مُصرًا على تذكير نتنياهو بما فعله من أجله، «لم يفعل أحد مثلما فعلت مع بيبى.. وأنا أحب بيبى، وما زلت أحب بيبى.. لكنى أيضًا أحب الولاء».. وصحيح، عندما كان رئيسًا للولايات المتحدة، اتخذ ترامب سلسلة من الخطوات لدعم نتنياهو، بما فى ذلك الاعتراف المثير للجدل بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما أثار الغضب فى جميع أنحاء العالم العربى.. كما أعلن ترامب أن المستوطنات الإسرائيلية فى الأراضى المحتلة لا تعتبر «غير شرعية»، واعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية، التى تحتلها إسرائيل أيضًا منذ عام 1967.. عندها، كشف نتنياهو عن مخطط لبناء مستوطنة هناك تعرف بـ«مرتفعات ترامب»، تكريمًا للرئيس صاحب الفضل عليه.

●●●

ورغم إعلان ترامب حبه لنتنياهو، وترديده كلمة «بيبى» كثيرًا، إلا أن لتوماس فريدمان رأى آخر، ذكره فى مقال له، خلال شهر سبتمبر الماضى، فى صحيفة نيويورك تايمز، بعنوان «كيف يحاول نتنياهو إنقاذ نفسه؟».. وأكد فيه، أن الرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس ليسا بحاجة إلى التذكير، «بأن بنيامين نتنياهو ليس صديقهما، أو صديق أمريكا ـ والأمر الأكثر خزيًا ـ أنه ليس صديقًا للرهائن الإسرائيليين فى غزة»، وإلا على نتنياهو «أن يوضح لماذا أطال المفاوضات فى الوقت الذى قتلت فيه حماس ستة أرواح إسرائيلية؟»، مبينًا «أن نتنياهو لديه مصلحة واحدة وهى: بقاؤه السياسى الفورى، حتى لو كان ذلك يقوض بقاء إسرائيل على المدى الطويل».. وحذر الكاتب، فى مقاله، هاريس «بأن نتنياهو دون شك، سيقوم بأمور خلال الشهرين المقبلين، من شأنها أن تضر بشكل خطير بفرص انتخابها وتعزز من فرص دونالد ترامب».. ويبين فريدمان «أن عقيدة نتنياهو تولى أهمية أكثر للبقاء فى منصبه، بعد توجيه الاتهام إليه عام 2019، بتهمة الاحتيال والرشوة وخيانة الأمانة، والآن يجب عليه البقاء فى السلطة حتى لا يُسجن إذا أدين».. ورأى الكاتب أن «نتنياهو فهم الرسالة، وأعلن أنه سينهى الحرب فى غزة بعد أن تحقق إسرائيل- نصرًا كاملًا- لكنه لم يحدد على وجه التحديد ما يعنيه هذا، ومن سيحكم غزة فى أعقاب ذلك؟»..  نتنياهو يدرك أن «هاريس فى مأزق، فإذا استمرت الحرب فى غزة حتى النصر الكامل، مع المزيد من الضحايا المدنيين، فسوف تضطر هاريس، إما إلى انتقاده علنًا وخسارة أصوات اليهود، أو أن تبلع لسانها وتخسر ​​أصوات العرب والمسلمين الأمريكيين فى ولاية ميشيجان الرئيسية».. وبناءً على خبرة فريدمان طيلة السنوات الماضية التى قضاها فى مراقبة نتنياهو، «فلن يتفاجأ إذا ما أقدم على تصعيد الأوضاع فى غزة حتى يوم الانتخابات، لجعل الحياة صعبة على الديمقراطيين فى المنافسة مع الجمهوريين.. فإن نتنياهو ربما يفعل ذلك، لأنه يريد فوز ترامب، وأن يتمكن من إخباره بأنه ساعده على الفوز».

أما لماذا يخشى نتنياهو فوز هاريس بالرئاسة؟ فذلك ما يرد عليه مناحيم روزنسافت، فى مقال له بمجلة نيوزويك الأمريكية، أواحر أغسطس الماضى، بأنه يرى أن نتنياهو «يتشارك اثنتين من الصفات المهمة» مع الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، وهما أن نتنياهو «نرجسى، ويعطى مصالحه الشخصية وبقاءه السياسى أهمية قصوى، ومثل ترامب أيضًا، يريد بشدة أن يفوز فى الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، حتى يكون لديه أمل فى البقاء خارج السجن».. وما لا يدركه العديد من المراقبين خارج إسرائيل، هو أن نسخة ترامب المصغّرة ـ نتنياهوـ تواجه نفس المصير تمامًا، إلا أن وضع نتنياهو أكثر خطورة؛ حيث إنه يواجه اتهامات جنائية متعددة، ومن المتوقع أن تتسارع هذه المحاكمات إذا أُجبر على ترك منصبه فى أى وقت قريب.. كما يقول الكاتب، إنه بسبب «علم نتنياهو بعدم قدرته على الصمود» فى انتخابات جديدة، حال التوصل إلى اتفاق يتعلّق بحرب غزة، فإن هذا «يفسر لماذا لا يريد نتنياهو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار فى الحرب، وإعادة الرهائن».. ويلفت الكاتب إلى أن «نتنياهو، مثله مثل ترامب، عاجز نفسيًا، ربما بالفطرة، عن الاعتراف بأنه ربما ارتكب خطأ».. ويعتبر الكاتب، أنه وعلى الرغم من أن هاريس «صديقة ومؤيدة لإسرائيل»، إلا إنه لا يمكن اعتبارها «مضمونة» بالنسبة لنتنياهو وهذا ما يثير رعبه.. ويختتم روزنسافت بالقول، إن «السبب الذى يجعل نتنياهو يشعر بالذعر إزاء احتمال تولى هاريس الرئاسة، هو عدم سماح هاريس بمواصلة العبث على حساب أغلبية الإسرائيليين الذين يريدون رحيله، والفلسطينيين غير المؤيدين لحماس، الذين لا يرون أى أمل فى مستقبل يوجد فيه نتنياهو فى السلطة».

●●●

ومع هذا، يظل السؤال الأزلى مطروحًا: هل سياسة المرشحين الأمريكيين لانتحابات الرئاسة تجاه إسرائيل، هى مفتاح الوصول إلى البيت الأبيض؟

الكاتبة معيان جاف هوفمان، تستهل إجابتها عن السؤال، فى مقال بصحيفة «جيروزاليم بوست» العبرية، يناير الماضى، بالقول، إن الحرب فى غزة حوَّلت إسرائيل إلى قضية استراتيجية للحملة الانتخابية للرئيس الأمريكى جو بايدن، ومن بعده كامالا هاريس، وكذلك الرئيس السابق دونالد ترامب، حيث إن ناخبى المرشح الديمقراطى من اليهود فى الحزب، وناخبى ترامب من المسيحيين، الذى يؤثر إيمانهم الدينى على خيارهم السياسى، يريدون أن يروا تأييد مرشحهم لإسرائيل.. وفى استطلاع للرأى أجرى أول يناير، شمل ألفين وثلاثمائة شخص، اتضح منه أن 80% من الناخبين الأمريكيين، بمن فيهم 57% ممن هم فى الفئة العمرية بين 18 و24 سنة، يؤيدون إسرائيل فى مواجهتها لحماس.. وأشارت كاتبة المقال، إلى تعليقات وصفتها بـ«السلبية» لترامب طالت كلا من رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف جالانت، بعد أن وصف حزب الله بـ«الذكى».. «لكن إذا أراد ترامب الوصول إلى البيت الأبيض، فعليه أن يقف إلى جانب الدولة اليهودية، حتى لو لم يكن ميله الطبيعى باتجاه إسرائيل، أو لو كان يشعر بأن إسرائيل لم تُدِر الحرب بشكل جيد».

لدى ترامب- تشير الكاتبة- أقوى سجل مؤيد لإسرائيل مقارنة بالرؤساء الأمريكيين السابقين، حيث نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، واعترف بضم مرتفعات الجولان، بالإضافة إلى دوره فى توقيع ما اصطلح على تسميته بـ«اتفاقيات إبراهام للسلام» بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين.. لكن المشكلة التى تواجه الجمهوريين، هى ما إذا كان يمكن الوثوق بأن ترامب سيتابع السير فى ذات الطريق فى حال عودته إلى البيت الأبيض.. أما بايدن، ومن بعده هاريس، فهما يدعمان حل الدولتين، وقد أظهر استطلاع للرأى أن 81% من مسيحيى الولايات المتحدة يؤمنون بحل الدولتين.. وحيث إن 55% من الدعم المالى يحصل عليه المرشح الديمقراطى من جهات يهودية، وبينما كان هناك توتر بين إسرائيل والجاليات اليهودية خارجها قبل السابع من أكتوبر، فإن ذلك الأمر بدأ بالتغير.. إذًا، لكى تحصل هاريس على دعم هذه الجهات اليهودية، فسوف يتعين عليها أن تعطى انطباعًا بأنها تقف إلى جانب إسرائيل.. لكن مع ذلك، فإن أهواء الحزب الديمقراطى ككل، لا تتطابق بالضرورة مع ميول اليهود فى الحزب، وهناك مخاوف من مقاطعة بعض الناخبين الديمقراطيين للانتخابات احتجاجًا على سياسات بايدن تجاه إسرائيل، وهذا يضع الرئيس ومرشحة حزبه للرئاسة الأمريكية، بين فكى الرحى.

●●●

هل الولايات المتحدة الأمريكية أمة مسيحية أم بلد علمانى؟.. وهل للدين دور حاسم فى الانتخابات الرئاسية؟.. تبدو الإجابة عن هذه الأسئلة مهمة.. فالعلاقة بين الدين والسياسية فى الولايات المتحدة تبدو معقدة، ومختلفة بعض الشىء عن العديد من دول أوروبا التى تتبنى العلمانية الصريحة.. فكيف تبدو العلاقة بين الدين والدولة فى الولايات المتحدة؟.

كان الدين حاضرًا بقوة فى حياة المهاجرين الأوائل، الذين توافدوا على أمريكا منذ القرن السادس عشر، خصوصًا أتباع المذهب البروتستانتى، الذين نزحوا إلى العالم الجديد هربًا من الاضطهاد الدينى فى أوروبا.. فأتباع الطائفة البيوريتانية، على سبيل المثال، كانوا يرون أنفسهم كـ«شعب الرب المختار»، المُكلف برسالة ما، كما كانوا يُشبّهون هجرتهم من أوروبا إلى أمريكا، برواية العهد القديم عن خروج بنى إسرائيل من مصر إلى أرض الميعاد، بحسب ما جاء فى كتاب الأكاديمى فرانك لامبرت، «الدين فى السياسة الأمريكية».. ومع تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، فى الربع الأخير من القرن الثامن عشر، شدد الآباء المؤسسون على ضرورة ضمان الحرية الدينية، وهو ما يرجع إلى عدة عوامل، منها التنوع الدينى لمجتمعات المهاجرين، بجانب التأثر بأفكار التنوير الأوروبية التى تشدد على التسامح الدينى، بحسب ما جاء فى كتاب «الدين والسياسة فى الولايات المتحدة»، لمايكل كوريت وجوليا ميتشل كوريت.

نتيجة لهذا التوجه المتسامح، خلا الدستور الجديد للدولة الوليدة من أى إشارة إلى الله أو المسيحية، كما تضمن مادة تُشدِّد على أنه لا يجوز للكونجرس، أن يُشرع قانونًا يُضفى صفة رسمية على دين بعينه أو يمنع حرية ممارسته.. ذلك النص الدستورى اعتبره توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، جدارًا يفصل الكنيسة عن الدولة.. لكن هذا الفصل الدستورى بين الكنيسة والدولة لم يحُل دون التداخل الكبير- فى بعض الأحيان- بين الدين والمجتمع، بما يشمل السياسة، حتى فى زمن الآباء المؤسسين الذين كان العديد منهم مسيحيين ملتزمين.. ويسرد فرانك لامبرت فى كتابه، العديد من الحوادث التى امتزج فيها الدين بالسياسية، كما حدث خلال الحرب الأهلية الأمريكية، بين الولايات الشمالية المعارضة للعبودية والجنوبية المؤيدة لنظام الرق، إذ لجأ متدينون من كل فريق إلى الحجج الدينية ليبرروا موقفهم من الرق.. كذلك، كان هناك فريق من المسيحيين الأمريكيين، يرى أن المسيحية تحتوى على ما يحث على السعى لتكوين وتراكم الثروات المادية، مقابل فريق آخر كان يدعو إلى الزُهد والبُعد عن النزعة الاستهلاكية، بناءً على تصور مسيحى مُناصر للتقشف.

ولعل تسليط الضوء على حوادث وقعت فى القرن الماضى، يمكن أن يُقرب للأذهان، كيف يُمكن فى أمريكا، المزج بين النصوص الدستورية التى تشدد على حياد الدولة حيال الأديان، والدور الكبير الذى لعبه الدين فى المجتمع.. ففى عام 1960، فاز جون كيندى بالانتخابات الرئاسية، ليكون أول رئيس كاثوليكى فى تاريخ البلاد التى هيمن على قيادتها البروتستانت.. وعقب الانتخابات بعامين، قضت المحكمة العليا، أعلى هيئة قضائية فى البلاد، بعدم قانونية إلزام طلاب المدارس الحكومية العامة الممولة من قِبل دافعى الضرائب بالصلاة.. فى مقابل تلك التوجهات العلمانية للمؤسسات الحكومية، شهدت تلك الفترة بزوغ نجم رجل الدين، مارتن لوثر كينج، الذى كان يقود حركة الحقوق المدنية، وكان يُشدد فى خُطبه ومواعظه الدينية، على التنديد بالتفرقة العنصرية ضد السود.. ومنذ سبعينيات القرن الماضى، ظهر تيار يمينى مسيحى جديد، سرعان ما تلاقت مصالحه مع أجندة الحزب الجمهورى، بداية من ولاية الرئيس رونالد ريجان.. ولكن، كيف تبدو الخارطة الدينية الآن فى الولايات المتحدة؟

يمكن القول، إن الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تدينًا مقارنة بالعديد من الدول الغربية.. فقد أظهر استطلاع رأى لمركز جالوب عام 2023، أن نحو ثلاثة أرباع الأمريكيين مرتبطون بدين أو عقيدة ما، بينما بلغت النسبة فى بريطانيا نحو 62%.. وبحسب استطلاع مركز جالوب، فإن عدد المسيحيين فى البلاد يبلغ نحو 68%، ما يجعلها واحدة من الدول التى يوجد بها أكبر عدد من المسيحيين فى العالم.. وتقدر نسبة البروتستانت بنحو 33% من إجمالى عدد السكان، بينما يشكل الكاثوليك ما يقرب من 22%، وقُدِر عدد المسلمين بنحو 1% واليهود 2%.. وتفيد بيانات مركز جالوب بأن 23% قالوا إنهم غير مرتبطين بأى دين.. ولا يمكن الحديث عن الخارطة الدينية فى الولايات المتحدة، دون الإشارة إلى ما يعرف بـ«الحزام الإنجيلى»، وهى مجموعة من الولايات والمناطق فى الجنوب وجنوب شرق ووسط البلاد، التى يوجد فيها نفوذ دينى وثقافى قوى لأتباع المذاهب الإنجيلية البروتستانتية.. ولكن، هل يكون لهذا التنوع الدينى تأثير على نتائج الانتخابات الأمريكية؟

بحسب ما قاله البروفسير آلان هرتسكى، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوكلاهوما، فإن هناك عوامل متعددة غير الدين، تلعب دورًا حاسمًا فى تصويت الناخبين فى السباق الرئاسى، مثل الاقتصاد، لكنه يشدد على أن للدين أيضًا تأثيرًا مهمًا فى الانتخابات، خصوصًا فى ظل السباق الصعب الذى كان بين دونالد ترامب وكامالا هاريس.. وهنا، يقول البروفسير مارك روزيل، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج ماسون، والمشارك فى تأليف كتاب «الدين والرئاسة الأمريكية»، إنه رغم عدم إظهار ترامب التزامه الكبير بالتعاليم الدينية البروتستانتية، إلا أنه حظى بدعم كبير من قبل الإنجيليين البروتستانت البيض عام 2016، وهو الأمر الذى كان متوقعًا هذا العام أيضًا، رغم التوقعات بتراجع ضئيل فى شعبيته وسط المتدينين، بسبب دعمه عمليات التخصيب خارج الرحم، وهناك إمكانية لأن تكون مجموعة من الناخبات الإنجيليات قد صوتن لصالح هاريس.

لكن المشهد الدينى كان يبدو أكثر تعقيدًا من مجرد افتراض مبسط، مفاده أن ترامب يحظى بدعم أغلبية المتدينين، خصوصًا فى ظل التشابك بين العامل الدينى والعوامل العرقية والاقتصادية، إذ يشير هرتسكي، المشارك فى تأليف كتاب «الدين والسياسة فى أمريكا»، إلى أن البيانات الخاصة بالسباقات الانتخابية الأخيرة، تظهر أن الجمهوريين يحققون مكاسب كبيرة للغاية فى أواسط الإنجيليين البيض، وأغلبية أقل نسبيًا، عندما يتعلق الأمر بأصوات الكاثوليك البيض.. فى المقابل، يستحوذ الديمقراطيون على الكثير من أصوات العلمانيين والبروتستانت السود، والكاثوليك من ذوى الأصول اللاتينية، إلى جانب المسلمين واليهود والهندوس، والعديد من أعضاء الأقليات الدينية الصغيرة.. كما أنه، وبشكل عام، يحقق الجمهوريون مكاسب انتخابية كبيرة، فى أوساط من يرتادون الكنائس للمشاركة فى الطقوس الدينية، بينما تتزايد شعبية الديمقراطيين فى أوساط من لا يشاركون فى المناسبات الدينية.

وبحسب هرتسكى، فإن هذا التباين، دفع بعض المراقبين إلى القول إن المشهد السياسى الأمريكى أصبح شبيهًا بما يحدث فى الدول الأوروبية، حيث يدعم العلمانيون اليسار، بينما تذهب أغلبية أصوات المتدينين إلى اليمين، لكنه يُشدد على أن الأمر أكثر تعقيدًا فى الولايات المتحدة، حيث يميل المتدينون من السود واللاتينيين والعرب إلى التصويت لصالح الحزب الديمقراطي.. لكن فى الانتخابات الأخيرة، لم تكن هاريس ربما قادرة على تحقيق نفس النسبة من أصوات الكاثوليك، التى أيّدت فى الانتخابات الماضية جو بايدن، وهو الرئيس الكاثوليكى الثانى للولايات المتحدة.. ومع ذلك، يمكن القول بأنها يمكن أن تكون قد حققت مكاسب انتخابية فى أواسط جماعات دينية مختلفة، بسبب خلفيّتها العرقية المتنوعة، «فأمها هندوسية، ووالدها كان ينتمى إلى الكنيسة المعمدانية الإفريقية، التى تتبعها هاريس، وزوجها يهودى.. لكن دعمها لسياسة بايدن فى حرب غزة، أدى إلى خسارتها أصوات فى أواسط المسلمين، الذين عادة ما يصوتون للديمقراطيين، وهو ما شكَّل تحديًا لها فى ولاية متأرجحة، مثل ميشيجان التى يوجد بها الكثير من المسلمين».

بالنسبة لترامب، فإن قراره بتعيين قضاة محافظين فى المحكمة العليا، وهو ما نتج عنه لاحقًا إلغاء المحكمة العليا، لحكم أصدرته منذ نحو خمسين عامًا، يمنح النساء الحق فى الإجهاض، أذكى شعبيته فى أواسط الإنجيليين والكاثوليك المعارضين للإجهاض.. ورغم أن ترامب تراجع بعض الشىء عن الموقف المعادى للإجهاض، إلا أنه ظل المرشح المفضل لمن يعادون الإجهاض، لأن هاريس ركزت فى حملتها السياسية على حق النساء فى الإجهاض، وهو أحد الأسباب التى أدت إلى تراجع شعبية هاريس فى أواسط الكاثوليك، مقارنة بما حققه بايدن فى 2020.. إلا أن رغبة ترامب فى ترحيل المهاجرين غير النظاميين، قد جعلت هاريس تحصد أصوات قطاع من الكاثوليك والبروتستانت ذوى الأصول اللاتينية.. لكن أفكار ترامب «الشعبوية» الخاصة بالاقتصاد، تلاقى قبولًا عند قطاع من السود وذوى الأصول اللاتينية، الذين يمكن أن يصوتوا لصالحه بشكل يخالف قناعاتهم الدينية.. ودلالة ذلك، أن السباق الرئاسى فى الولايات المتحدة، الأكبر اقتصاديًا فى العالم، يتأثر بالاقتصاد وعوامل أخرى، لكن العامل الدينى يكون له بعض التأثير على تحديد هوية من سيحكم البلاد، التى يوجد بها أكبر عدد من الكنائس فى العالم.

●●●

ونأتى إلى الاستفهام الأخير: كيف لعبت المنافسة بين «الرجل والمرأة» دورًا فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟.

يحظى دونالد ترامب بدعم كبير بين الرجال، بينما أظهرت استطلاعات الرأى، أن النساء يفضلن كامالا هاريس بفارق كبير، وتعكس الفجوة السياسية بين الجنسين أعوامًا من الاضطرابات الاجتماعية، تساهم فى تحديد نتيجة الانتخابات الأمريكية.. بالنسبة لأول امرأة متعددة الأعراق تحصل على ترشح رئاسى، وثانى امرأة تقترب من المنصب، بذلت كامالا هاريس قُصارى جهدها لتجنب الحديث عن هويتها، «أنا أترشح، لأننى أعتقد أننى أفضل شخص للقيام بهذه الوظيفة فى هذه اللحظة بالتحديد لجميع الأمريكيين، بغض النظر عن العرق والجنس».. وعلى الرغم من جميع محاولاتها لتجنب النقاش حول الموضوع، يبدو أن مسألة الجنس كانت حاسمة فى هذه الحملة، إذ يكون لقب «السيدة الرئيسة»، لقبًا جديدًا بالنسبة لأمريكا، ومن المنطقى الافتراض أنه بينما يؤيد الكثير من الناخبين هذه الفكرة، قد يجدها بعضهم مزعجة بعض الشىء.. ولم تصرح حملة هاريس بذلك علنًا، لكن أحد المسئولين اعترف أنهم يعتقدون أن هناك «تمييزًا جنسيًا خفيًا»، منع بعض الأشخاص من التصويت لأى امرأة تترشح للرئاسة.

فى آخر مرة ترشحت فيها امرأة لمنصب الرئيس، كانت المواقف السلبية تجاه جنسها عاملًا واضحًا.. إذ قبل ثمانى سنوات، روَّجت هيلارى كلينتون لنفسها، بصفتها أول امرأة تترشح عن حزب رئيسي، وكان شعار الحملة «أنا معها»، تذكيرًا غير مباشر بدورها الريادي..  صحيح، لقد تغير الكثير بالنسبة للنساء منذ عام 2016، إذ ساعدت حركة Me Too عام 2017، فى زيادة الوعى بالتمييز الواضح ـ والخفى  الذى يواجه النساء فى مكان العمل، كما غيَّرت الطريقة التى يتم بها الحديث عن النساء باعتبارهن محترفات، وقد تكون الحركة قد سهَّلت على مرشحة مثل هاريس تأمين ترشحها.. لكن تلك الخطوات الكبيرة نحو قضايا التنوع والعدالة والشمولية، فُسرت من قبل البعض على أنها تراجع، خصوصًا بالنسبة للشباب الذين شعروا بالتجاهل، أو أن التغييرات كانت خطوة كبيرة جدًا بالنسبة للأمريكيين المحافظين، الذين يفضلون الأدوار التقليدية للجنسين.

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.