محمود دوير يكتب: انتصار عبدالفتاح.. وهج الموسيقى الدائم
يقف على حافة العالم يغنى داعيا للسلام والتعايش مستلهما ذلك التراث الإنساني المُحرض على المحبة والتسامح والمساواة.... هكذا يرى"انتصار عبد الفتاح" دور الفنون وبتلك الرؤية ينطلق في عشقه للموسيقى خاصة الروحية منها التي نبتت من عبق التاريخ وصنعت أسسا للمشتركات التي تنسج وهجا للتمرد على القبح وترفض كل ما هو مُعاد لإنسانيتنا.
موسيقى تشبه الناس العاديين في كل بلدان العالم... هؤلاء الذين يرسمون على وجوههم ابتسامة لا تذبل رغم قسوة الواقع وانتشار الحروب ودموية الإنسان ضد أخيه الإنسان... ورغم غضب الطبيعة وتقلباتها يظل الموسيقار "انتصار عبدالفتاح" يرفع رايات الأمل والسلام من خلال الموسيقى.
هو فنان استثنائي اختار أن ينحاز للإنسانية ويُطلِق صرخته من أجلها، ويعلن ذلك من أحضان القاهرة العتيقة بكل ملامحها الجسورة التي تتحدى الزمن وتنحاز للعراقة ووسط سكانها الطيبين المحبين للفن والحياة.
خلال مسيرته الفنية ظل "انتصار عبدالفتاح" وما زال قابضا على جمر الانتصار للإنسانية وإعلاء صوتها مستعينا بسلاح الموسيقى الروحية حتى أصبح علامة مميزة ورقما مهما في حياتنا الثقافية، ونجح في صناعة حدث عالمي تحمل هو الجزء الأكبر من المسئولية عنه – مع رفيقته المثقفة والباحثة سهام يوسف - ودفع من وقته وجهده وأعصابه التي تحترق طوال أشهر الإعداد – ومن يرى انتصار وهو يتابع كل التفاصيل الدقيقة لمهرجان سماعي للإنشاد أو مهرجان الطبول والفنون التراثية يدرك قدر المعاناة ومدى التحدي الذى يواجهه كي يحقق كل هذا النجاح.
مهرجان الطبول والفنون التراثية الذى تأسس أبريل 2013 وشهدت القاهرة منذ أيام ختام دورته الحادية عشرة وسط حضور شعبي مذهل، حيث تدفق آلاف البشر من كل مكان في مصر كى يتابعوا مهرجانا يقدم لهم جرعة هائلة وممتعة من الموسيقى التراثية جاءت من بلدان العالم المختلفة، وكأنه طاقة من قاهرة المعز تطل على ثقافات العالم بأعلامها وآلاتها الموسيقية وأزيائها التقليدية الشعبية. وتحول المهرجان إلى قبلة لكل عشاق الموسيقى التراثية والروحية في مصر والعالم، وتمكن الفنان "انتصار عبدالفتاح" بدعم ورعاية وزارة الثقافة وعدد من المؤسسات مثل وزارة السياحة ممثلة في الهيئة العامة للتنشيط السياحي ومؤسسة حوار لفنون ثقافات الشعوب من أن يحلق في سماء القاهرة عازفا على أوتار السلام ودفوف المحبة والإخاء... فصنع لحنا مبهجا شجيا.
على مسارح سور القاهرة قصر الأمير طاز، ساحة الهناجر بالأوبرا، ومسرح بيت السناري بالسيدة زينب تألقت فرق الصين، الهند، جنوب السودان، فلسطين – الذى كان ظهورها على المسرح كافيا لأن تنطلق صرخات الآلاف دعما للشعب المقاوم وإعلان عن رفض المصريين للمذابح الجماعية التي يتعرض لها أشقاؤنا في الأرض المحتلة.
وكذلك اليابان وكولومبيا، وأكثر من 30 فرقة من فرق وزارة الثقافة والفرق المستقلة بأقاليم مختلفة كفرقة رضا للفنون الشعبية – ذات التاريخ العريق والأداء المتمكن الرائع -والفرقة القومية للآلات الشعبية وفرقة مكتبة دمنهور العامة – تلك الفرقة التي سجلت بحضورها الأول في المهرجان الدولي بداية مبشرة وأداء مميزا - وفرقة بور سعيد للسمسمية الشهيرة، وفرقة إيقاعات الأنفوشى وفرقة التحدى وغيرها من الفرق. واحتفت الدورة باسم الفنان الكبير "محمد طه" كما نُظم معرض دولى للعرائس وورش فنية للأطفال على هامش المهرجان.
وفي ختام دورته الأخيرة كان حضور أيقونة الرقص الشعبي وبطلة فرقة رضا العظيمة "فريدة فهمى" رسالة تحية وتقدير إلى المهرجان وصناعه، بما تمثله فريدة من قيمة فنية وحضارية ومعنى لأهمية الفنون الشعبية ومكانتها.
والمتتبع لمسيرة الموسيقار "انتصار عبد الفتاح" سيدرك أن هذا النجاح اللافت ليس غريبا فهو أحد أهم المشتغلين بالموسيقى المهتمين والمهمومين بإحياء التراث الشعبي والحفاظ على الهوية، من خلال توثيق ذاكرة مصر الفنية والثقافية واستخدام الحوار الفني كوسيط إنساني للتعرف على ثقافة الآخر، ومن ثم قبوله والتعايش معه ونبذ ثقافة التطرف والعنف والكراهية والتأكيد على جوهر الأديان من خلال حوار الفنون المختلفة.
حصل انتصار عبدالفتاح على العديد من الجوائز منها جائزة أفضل موسيقى تصويرية عن رائعة المخرج خيري بشارة "الطوق والإسورة" إنتاج عام 1986.
كما حصل عرضه المسرحي "مخدة الكحل" على الجائزة الكبرى في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبى عام 1998 والجائزة الكبرى في مهرجان قرطاج الدولي عام 2000.
وقام بتأسيس عدد من الفرق الفنية، من بينها فرق "مسرح العربة الشعبية "و"مسرح الحقيبة" و"المسرح الصوتي" و"المسرح البوليفونى" وفرقة سماح للإنشاد الديني – الذى نظم له مهرجانا سنويا يحمل نفس الاسم، وكذلك أسس فرقة "سماع للرقص الصوفي "وغيرها من الفرق الموسيقية التي ساهمت في إثراء الحياة الفنية المصرية خاصة في جوانبها التراثية والروحية.
يمثل مشروع "انتصار عبدالفتاح" الموسيقى المنحاز للإنسان جزءا أصيلا من روح مصر المتسامحة التي سطرت عبر تاريخها الطويل أروع السطور في قيم التعايش وقبول الآخر، ورسمت على جبين الإنسانية بالفنون والآداب أعظم الأمثلة في إعلاء قيمة الإنسان.