رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عَالَمَان وضميران!

من أهم النتائج المترتبة على عملية «طوفان الأقصى»، التى انطلقت يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وما زالت توابعها تتفاعل بقوة حتى الآن، هذه «الصحوة» العارمة، التى تكبر حلقاتها، ككرة الثلج المنحدرة من علٍ، يومًا بعد يوم، والمجسّدة فى الموجة الصاعدة للتضامن مع الشعب الفلسطينى الصامد، وأهل غزة الأبطال، التى اجتاحت، وما زالت تجتاح، مدن أمريكا وعواصم دول الغرب الكبرى. وضاعف من تأثيرها الاعتصامات الطلابية فى مئات الجامعات الأمريكية والغربية ودول آسيوية ولاتينية وإفريقية أخرى، فيما يمثل يقظة غير مسبوقة فى الوعى الإنسانى والضمير الجمعى الغربى، لا يمكن مضارعتها إلا بحركة الاحتجاج العالمية التى رفعت شعار إنهاء العدوان الأمريكى الهمجى على الشعب الفيتنامى الشجاع فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، وكانت إحدى روافع الانتصار وهزيمة المعتدين.

وتبرز فى هذا السياق ظاهرة لافتة وغير مسبوقة بهذا الحجم والعمق والتأثير، هى ظاهرة الصوت اليهودى خارج «إسرائيل»، المعارض بقوة جرائم الكيان المغتصب، ولمواقف التحالف السياسى الدينى، المتطرف، الذى يحكمه، بقيادة مجرم الحرب «بنيامين نتنياهو»، بين الشبيبة ووسط العديد من الرموز السياسية والفكرية الكبيرة. وهو صوت واعد يشى ببدايات تحرُّر لقطاعات مهمة من معتنقى الديانة اليهودية من الارتباط بالأيديولوجية الصهيونية، التى نجحت خلال القرن الماضى، فى الهيمنة على المجال العقيدى والفكرى والسياسى لأغلبية يهود العالم، مغتصبة تمثيلهم، ومحتكرة النطق باسمهم، ومدعية الحق فى أن تتخذ قرارات مصيرية نيابة عنهم، كقرارات الحرب والسلام، وغيرها من القرارات ذات التبعات الجسام.

وكنا قد تعرفنا، فى العقود السابقة، على أصوات مفكرين يهود كبار «تقدميين أو يساريين»، من أمثال عالم اللغويات، والمناضل المدنى المعروف «نعوم تشومسكى»، صاحب المواقف الناصعة فى مواجهة غطرسة القوة الأمريكية، والسياسات النيوليبرالية والإمبريالية، والعدوانية الصهيونية، وغيره من مجموعة «المؤرخين الإسرائيليين الجدد» الذين تصدوا لكشف زيف السردية الصهيونية، وهدم أسسها الكاذبة وتعرية ادعاءاتها «المفبركة»، وآخرين.. 

غير أن هذه الأصوات المحترمة كان مجال تأثيرها ومحيط رجع صداها لا يتجاوز الأوساط الأكاديمية، وقطاعات المثقفين الديمقراطيين، والمفكرين ذوى التوجهات الإنسانية بشكل عام. أما الحركة التى نحن بصدد الحديث عنها، فهى أوسع مدى بكثير، وأكثر انتشارًا، وأبعد تأثيرًا، وأشد وطأة بالنسبة للكيان الصهيونى، وتكسرت على صخرتها الصلدة حملات الدفاع عن الجرائم الإسرائيلية، والدعاية الصهيونية التى تزيف الحقائق، وجهود تبرير حرب الإبادة والقمع والعنصرية الخالصة ضد الشعب الفلسطينى، والتى اعتادت الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية الصهيونية وذات الميول الاستعمارية، المسيطرة فى أمريكا والغرب، على كسبها لصالح الكيان الإسرائيلى، بسهولة ودون جهد يذكر!

لكن المتغير الجديد الذى قلب الوضع رأسًا على عقب، كما توضح دراسة قيمة لمراسلة جريدة «الأهرام» فى لندن، الصحفية النابهة «منال لطفى»، «الأهرام ٢٩ نوفمبر ٢٠٢٣» هو، حسبما تظهر نتائج استطلاعات للرأى فى أوروبا وأمريكا وجود «تحولات فى الرأى العام الغربى مدفوعة بتكوينات ديموغرافية، على رأسها الجيلان الثانى والثالث من المهاجرين العرب والمسلمين فى الغرب، والشباب، والحركات الاجتماعية مثل «السلام الآن»، و«حملة التضامن مع الفلسطينيين»، والحركات السياسية اليسارية التى تدعم حق الشعب الفلسطينى فى دولة مستقلة».

ويلعب «الانقسام العمرى» والسياسى دورًا مهمًا يمكن ملاحظته فى أمريكا، حيث أعرب شباب الناخبين فى الحزب الديمقراطى، وبينهم أعداد مهمة من اليهود، عن رفضهم مواقف «بايدن» من مجريات الوقائع فى غزة، وامتعاضهم من تواطؤ الإدارة الأمريكية مع حمامات الدم الإسرائيلية فى فلسطين، وبما يهدد فرص «بايدن» فى المعركة الانتخابية المقبلة بعد بضعة أشهر؛ كما أوضحت استطلاعات الرأى فى بريطانيا «أن الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٢٤ عامًا يعبرون عن تعاطف مع الفلسطينيين ثلاث مرات أكثر من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على ٦٥ عامًا»، «المصدر نفسه»، وهو ما يعنى أن إسرائيل خسرت «معركة المستقبل» فى أوروبا والغرب، بعد أن كانت أمرًا مؤكدًا، ومضمونًا باستمرار، وخاصة أن احتجاجات هذا الجيل الثائر، بمشاعره الإنسانية الدفاقة، ووعيه السياسى المتجاوز السرديات الصهيونية المهيمنة، قد اخترق قدس أقداس الهيمنة الأيديولوجية الصهيونية: جامعات النخبة الأمريكية والغربية، التى تُخَرِّجُ للمجتمع خلاصة القادة وصُنّاع السياسة وأصحاب الانحيازات المستقبلية للمشروع الاستعمارى الإحلالى الغربى، منذ ولد المشروع الصهيونى، حتى الآن، ولنر على سبيل المثال، إلى دلالة الانتشار الضخم لارتداء عشرات الآلاف من الأمريكيين والغربيين لـ«الحطة الفلسطينية»، «الكوفية» المُرقّطة الشهيرة، بين المعتصمين فى الجامعات والمتظاهرين فى الشوارع، وحملهم العلم الفلسطينى، وإنشادهم الأغانى التى تمجد فلسطين وتنادى بحريتها كأغنية «تحيا فلسطين»، «Leve Palestina»، وإنتاجهم آلاف الفيديوهات الصغيرة عن القضية يتم تداولها على نطاق واسع فى منصات التواصل الاجتماعى... إلخ! 

وإزاء «طوفان الوعى» الجديد الذى هز أركان الكيان الصهيونى، والممثل فى إدراك جموع غفيرة فى العالم كنه هذا المشروع الاستعمارى الفاجر، ووظيفته الحقيقية، واكتشافها طبيعته الهمجية، وأبعاد سياساته للإبادة الممنهجة، وتَفَهُّم عدالة الحقوق الفلسطينية ومشروعية وأصالة نضالها، لم يجد كهنة الصهيونية وسيلة لمواجهة هذا الموقف الصعب إلا اللجوء للأسلحة الفاسدة «القديمة»، التى طالما استخدموها لترويع خصومهم الفكريين، وابتزاز كل مَن يحاول التملص من مصيدتهم التاريخية، أو التمرد على الترويج لوجهة نظرهم والدفاع المستميت عن مصالحهم: أى سلاح الاتهام بـ«معاداة السامية»!

وفى حديث لتليفزيون «C.N.N.»، تصدى السيناتور الأمريكى اليهودى، «بيرنى ساندرز»، صاحب التوجه التقدمى، لمزاعم «بنيامين نتنياهو»، الذى هاجم بضراوة اعتصامات طلاب أمريكا والغرب فى جامعاتهم تضامنًا مع شعب فلسطين، ومطالبتهم بإيقاف حرب الإبادة الدائرة الوحشية أمام أعين العالم كله، مدعيًا أن: «العصابات المعادية للسامية استولت على الجامعات الرائدة. وهى تدعو إلى إبادة إسرائيل، وتهاجم الطلاب اليهود، وبما يُذَكِّرُ بما حدث فى الجامعات الألمانية فى الثلاثينيات»!

قال «ساندرز»: «أنا يهودى، وقد ذبح «هتلر» عائلتى، وأنا حسّاس للغاية تجاه «معاداة السامية»، لكن ما يفعله «نتنياهو» ماكر للغاية.. إن ما تفعله حكومته اليمينية المتطرفة والعنصرية أمر غير مسبوق فى تاريخ الحروب الحديث»!

«لقد قتلوا خلال الأشهر الستة والنصف الماضية ٣٣ ألف فلسطينى، وأصابوا ٧٧ ألفًا، ثلثاهم من النساء والأطفال.. وفى الوقت الحالى، نحن ننظر إلى احتمال حدوث مجاعة جماعية فى غزة». إن «توجيه الاتهام للحكومة الإسرائيلية ليس (معاداة للسامية) بل حقيقة»... «إن ادعاء (نتنياهو) أن كل من ينتقده مُعادٍ للسامية أمرٌ مشينٌ حقًا»!

والخلاصة: هناك فى العالم ضميران، أحدهما جثة هامدة، ورائحته العفنة تزكم الأنوف، هو ضمير الغرب بزعامة أمريكا ورعاية الصهيونية، وضمير الصامتين عن جريمة إبادة الشعب الفلسطينى، الميتة ضمائرهم وإنسانيتهم من العرب والعجم...

والآخر حى وصادق، وفتى، ونقى، ونابض، وناهض... يؤذن لفجرٍ جديد... هنا وهناك..

وهذا الضمير المُبَشِّر، وُلد من رحم البطولة الفلسطينية الأسطورية، والتضحيات النبيلة للشعب الفلسطينى الشجاع.. وعليها وعليه نُراهن.