رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وصية «أمازيس» الأخيرة «٢»

ما زلنا نقرأ فى رواية «مصير خبيئة حارسة المعبد»، للأستاذ الدكتور «أحمد جمال الدين موسى»، «السياسى والأكاديمى المصرى، والأستاذ بكلية الحقوق، والرئيس السابق لجامعة المنصورة، ووزير التعليم الأسبق»، وصاحب العديد من الإبداعات فى مجال الرواية والفكر والسياسة.

استطاعت الحملة التى قادها «قمبيز الثانى» «الابن» الاستيلاء على «كِمت» «مصر» المُزدهرة، وقد كان على حاكم «كِمت» آنذاك، فرعون مصر، «أمازيس» «أحمس الثانى» أن يواجه. إن الخطر لا يتوقف عند مجرد احتلال الغازى الأجنبى أرض «كِمت» المُقدّسة، أو نهب ثرواتها المادية العظيمة وحسب، وإنما الخطر أدهى وأشمل، فـ«كِمت» كما يقول «أمازيس» وكأنه يخاطب مصريى كل العهود: «هى الأعرق بين الأمم التى تحيط بنا، وإن جوهر حضارتنا لا يكمُن فيما نشيده من معابد وعمائر، أو ما نملكه من ثروات أو نفائس، أو ما نحرِّكه من جيوش وأساطيل، وإنما فى المعرفة التى بلغناها، والحكمة التى حققناها، لذلك انصرفت جهودنا فى الفترة الماضية لإعادة تدوين ثروتنا من النصوص القديمة، بما فى ذلك النسخ المكتملة لمتون الأهرام، وكتاب (الخروج إلى النهار)، (كتاب الموتى)، وتعاليم وأقوال الحكماء (سنفرو)، و(بتاح حُتب)، و(آنى)، و(أبنوبى)، و(إيبور)، و(خون إنبو) «الفلاح الفصيح»، فضلًا عن نصائح (خيتى) و(أمنمحات) لولديهما، و(تحتمس الثالث) لوزيره، وتأملات (سيتى الأول)، وإسهامات علمائنا فى ميادين الفلك، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والهندسة، والعمارة، والطب، والقانون،.. وغير ذلك من خلاصات حكمة حضارتنا العريقة، إضافة إلى اجتهادات مفكرينا فى العصور المتأخرة.. وفوق ذلك أضفنا نصوص الحكمة السرية التى حافظت عليها معابدنا آلاف السنين».

يعترف «أمازيس»: «إن الحاضر أصعب من الماضى، ومكمن الخطر دائمًا هو حدودنا الشمالية الشرقية التى تسعى لاقتحامها قوى متعاقبة مثل الآشوريين، والبابليين... والآن الفُرس. هذه القوى تحلم جميعًا بالحصول على كعكة (كِمت) المغرية»، «أنا أستشعر الخطر القادم من الشرق، وأخشى أن تضيع نصوص حكمتنا، فلا تقوم لكِمت قائمة من بعدها»! ولدرء هذا الخطر المحدق، سعى «أمازيس» إلى تقوية إمكانات المقاومة المصرية، وقدرات جيشه القتالية، باسترضاء الرموز الحربية والوطنية المحلية والتصالح معها، وتجهيز الاستحكامات والمقاتلين، والتحالف مع حكام المناطق والبلدان المحيطة: جزيرة «ساموس»، و«رودس» و«قبرص»، وغيرها، كما جنّد فرق المرتزقة من اليونان، واستفاد من دعم القوات البحرية الفينيقية وسفن المدن القبرصية، لتعويض النقص فى عدد وقدرات جنوده قياسًا لجيش الغزو الفارسى الجرار، المرتقب!

لكن كما كان لهذه الإجراءات، التى استهدفت توسيع مدى وعمق التحالفات الخارجية، مزاياها، كانت لها عيوبها الخطيرة، ومنها ما تَمثَّل فى خيانة المدعو «فانيس»، أحد أهم العسكريين اليونانيين الملتحقين بجيش «أمازيس»، الذى انضم إلى معسكر العدو الغازى «قمبيز»، مُسلمًا له معلومات قيمة عن القدرات العسكرية للجيش المصرى، وكاشفًا الأوضاع الداخلية، وأسرار الدفاعات الميدانية، وغيرها من المعلومات التى ساعدت جيش الغزو كثيرًا.

وإذ استشعر حاكم مصر، «أمازيس»، خطورة هذا الغزو الداهم على وطنه، وخشية النتائج المترتبة على الغزو باحتمالاته المتعددة، فقد عمد إلى جمع: «خلاصة الموروث من حكمتنا فى وثيقة موحدة، مطولة، مسطّرة على ورق البردى، غلفناها فى صندوق محكم من الذهب الخالص» وتم دمغها بخاتمه، وهى «الوديعة» النفيسة التى أمر «أمازيس» بالاحتفاظ بها فى مكان آمن، حتى يتم تسليمها لوطنى مخلص بشرطٍ جازم: أن تتخلص كِمت من أعدائها، وتستعيد استقلالها. 

ويلجأ الكاتب إلى «حيلة» فنية ذكية عبر الحضور لمحورى فى الرواية لـ«الجنيّة ساشا»، التى رشحتها مواهبها وكفاءتها لكى يوكل إليها «أمازيس» أمر حفظ وديعته الغالية، حتى تجد الحاكم المصرى الذى يتوافر فيه الشروط الدقيقة لكى يستأهل تسليمه هدية الأجداد الثمينة: مفتاح الحضارة الإنسانية الزاهرة! وقد أخذت «الجنيّة ساشا». 

وفى بحث «ساشا» عن فتى مصرى ذكى، يملك المقومات اللازمة للقيام بهذه المهمة التاريخية النبيلة، يقع اختيارها على الشاب «خوتو»، الذى استشهد والده، المثقف المُغرم والعارف بمراحل التاريخ المصرى القديم، فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، فحملت على عاتقها مهمة إعداد «خوتو»، وعيًا وثقافةً، وثقةً وإيمانًا، حتى يكون مؤهلًا لأداء دوره المأمول، فى حفظ الأمانة النفيسة حتى تكتمل شروط تسليمها إلى الحاكم المُنتظر لأرض «كِمت» المحروسة: «الإخلاص وحكم مصر المستقلة عن النفوذ الأجنبى».

وبقدراتها فوق الطبيعية، وعبر اختراق ممنهج لحاجز الزمن، تحمل «الجنيّة ساشا» ربيبها الفتى «خوتو»، من حقبة مصرية قديمة لأخرى، لكى يعايش حيوات الشعب بمختلف طبقاته وفئاته، وهمومه وأفراحه، فمن ساحة أسواق شعبية لأروقة قصور باذخة، ومن فورات غضب الكهنة فى المعابد، إلى ثورات الطوفان الشعبى ردًا للمظالم ومنها «الثورة المنديسية» المنسيّة، أول ثورة شعبية فى التاريخ المصرى القديم، بهدف تثقيفه وتوعيته برحلة تاريخ وطنه الغالى على امتداد آلاف السنين، وتيسير معايشته لمعارك تَحَرُّر «كِمت»، وحروب الدفاع عن استقلالها ووحدتها، ولتهيئته لدوره التاريخى فى حفظ الأمانة حتى تتهيأ ظروف تسليمها إلى مَن تُهيئه المقادير لدوره التاريخى المنتظر!

إن العلم والمعرفة والحكمة، كما يقول لنا «أمازيس»، هى الموروث الحضارى المصرى الأعظم لشعبنا، ومصدر قوته وسر منعته، لأنها أساس كل تقدم وسبب كل ازدهار، وهى الكنز النفيس الحقيقى، الذى ينبغى ألا نفرِّط فيه، أو نجعله نهبًا للأعداء، وقراءة التاريخ تدلنا على أن «مصر كانت الدولة الأكثر طموحًا وتقدمًا وقوة وحضارة فى عهدها الفرعونى، وأنها سبقت الآخرين الذين توافدوا عليها ليتعلموا منها أو هاجموها ليغترفوا من نِعمها، فماذا حدث لنا كى نقبل أن نكون فى المؤخرة، وأن نستكين لذلك ونقبل به قدرًا مكتوبًا؟

سؤال منطقى، تطرحه بجسارة رواية بديعة، عميقة الأغوار، ورحلة شيقة فى سراديب الذاكرة التاريخية لأم الحضارات، وفجر ضميرها، ومشرق وعيها، ومستقبل إنسانيتها مهما مر بها من محن، وأثقلت كاهلها عاديات الزمن!