رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيلان بابيه: جدل الوعى والضمير! (1)

أظن أنني أعبر عن كل إنسان صاحب ضمير حي، أرَّقه ويؤرقه حتى عمق وجدانه؛ المُمارسات الصهيونية الوضيعة تجاه الشعب الفلسطيني؛ وخاصةً أهل غزة الصامدين، حينما أتوجّه بالتحية إلى شخصية أكاديمية يهودية مرموقة، تجاوزت- مع تطور ثقافتها ووعيها- التحيزات العرقية المُتعصبة، وارتقت- بحسِّها الإنساني، وضميرها العلمي الموضوعي- فوق الادعاءات الكاذبة لأبواق الدعاية الإسرائيلية والغربية، التى انكشف زيفها، وتعرَّت ادعاءتها؛ في حرب المائة وثمانين يومًا المُنقضية بين الحق الفلسطيني الصراح، والباطل الصهيوني المكشوف.
الحديث هنا يدورعن البروفيسور "إيلان بابيه"، الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة "أكستير" بإنجلترا، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة.
   هو من جيل "الصابرا"، المولود في مدينة حيفا بفلسطين المُغتصبة، في 7 نوفمبر 1954، وقد تربى ككل أبناء هذا الجيل على المفاهيم والنزعات الصهيونية، ودَرَسَ في الجامعة العبرية وجامعة أوكسفورد، لكن مع نمو وعيه انتمى إلى معسكر اليسار وعضوية "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة"، وترأس "معهد إميل توما للدراسات الفلسطينية"، وكان من أبرز عناصر تيار "المؤرخون الجدد" الذين برزوا إلى الصدارة في الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية، في ثمانينيات القرن الماضي، مع كل من "بيني موريس"، و"آفي شلايم"، و"نورمان فينكلشتاين"، و"شلومو ساند" وغيرهم، عقب إتاحة التعرُّف على أحداث حرب 1948 الحقيقية؛ والسماح بالاطلاع على وثائقها السرية بعد مرور ثلاثين عامًا على وقائعها، حسب القانون الإسرائيلي.
وفي هذا السياق درس "إيلان بابيه" وكتب مجموعة من الدراسات الرصينة، التي فضح فيها بشجاعة ونزاهة أبعاد المخططات والمُمارسات الإجرامية التي مارسها العدو الصهيوني تجاه أبناء الشعب الفلسطيني، والمؤامرات الغربية- الصهيونية لطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين بقوة القهر وسطوة الترويع وتهديد السلاح، والتدمير المُمنهج لمئات من القري والبلدات الفلسطينية لإبادة كل ما يُشير إلى التاريخ الفلسطيني المُمتد لهذه الأرض على مدار آلاف السنين، وأصدر هذه الدراسات القيِّمة تحت عناوين دالة، ومنها: "تاريخ لفلسطين الحديثة"-2003، "الشرق الأوسط الحديث"- 2005، "التطهير العرقي لفلسطين"-2006، و"عشر خرافات عن إسرائيل" ـ 2017، وغيرها من الدراسات الأكاديمية، الموثقة، الرصينة، المُعتمدة على المصادر الرسمية للكيان، والتي تكشف بجلاء حجم الكذب والتزوير في كتابة التاريخ المُعتمد للكيان الصهيوني، وكمية الادعاء والتلفيق فيما يُسمّى بـ"السردية الصهيونية" التي "فبركت" التاريخ العبراني، القديم والحديث، للتأكيد على صورتهم المُختلقة لـلأرض التي بلا شعب، والتي انتظرت بفارغ الصبر عودة شعبها (اليهودي المظلوم) إلى وطنه الموعود!
   وكان طبيعيًا، والحال هكذا، أن يتعرض البروفيسور"بابيه" وأقرانه إلى الاضطهاد والتهديد الأكاديمي، والتشهير الفكري، لإثنائهم عن آرائهم الصادمة، وهو ما لم يستسلم له، فغادر الكيان المُغتصب إلى المملكة المتحدة، واستمر في خوض ما اعتبره "معركة الضمير" للانتصار للشعب الفلسطيني المُستَعمَر، ولإعلان عدائه السافر للكيان المُغتصب باعتباره شكلًا مقيتًا من الاستعمار الاستيطاني لا بد وأن يزول إلى الأبد،
وحين احتدم الصراع بعد واقعة "طوفان الأقصى"، كان صوت البروفيسور "بابيه" أعلى من كل الأصوات، حتى الأصوات العربية الرسمية، في رفض العدوان الصهيوني بصورة قاطعة، بل وجاهر باعتباره أن حركة "حماس" حركة تحرر وطني، ولممارساتها كل الشرعية إزاء كل المُمارسات الصهيونية، التي وصفها بكونها عملية إبادة عنصرية ضد الشعب الفلسطيني يجب إدانتها بكل وضوح، ودعوته العالم للاصطفاف بجانب شعب فلسطين الضحية حتى هزيمة المشروع الاستعماري الصهيوني، بل وفي التنبؤ بأن الكيان الصهيوني إلى زوال، ورفضه القاطع للمشروع الخادع "مشروع الدولتين"، ومُطالبته بـ"الدولة الفلسطينية الواحدة من النهر إلى البحر": "الدولة المنزوعة الصهيونية، المُحررة، الديمقراطية، التي تبني مُجتمعًا لا يُميز بين أفراده، على أساس الثقافة أو الدين أو العرق". (الجزيرة، 4 نوفمبر 2023).
إن الاطلاع على أدبيات البروفيسور "بابيه" وأقرانه، واجب مُهم للجماعة الثقافية المصرية والعربية، بل ولكل أبناء الشعب المصري، والفلسطيني، والجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، وهو ما سنعمد إلى التعريف به في المقالات القادمة.