رمضان 1800.. مستشرق بريطانى: الصائمون «نكديون» طوال النهار.. و«تبغ» قبل «التراويح»

من المؤكد أن المستشرق البريطانى إدوارد وليم لاين، الذى عاش فى القاهرة لفترة طويلة، فى القرن التاسع عشر، لم يسمع حسين الجسمى وهو يغنى: «رمضان فى مصر حاجة تانية والسر فى التفاصيل.. رمضان فى مصر غير الدنيا طعمه بطعم النيل»، لكن من المؤكد أنه عاش وأدرك هذه الحقيقة، قبل «الجسمى» بأكثر من ١٩٠ عامًا.

لذا لم يكن غريبًا أن يتضمن كتابه الأشهر: «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم- مصر ما بين ١٨٣٣-١٨٣٥»، والذى صدر عن مكتبة «مدبولى» فى القاهرة، أواخر تسعينيات القرن الماضى، من ترجمة سهير دسوم، مساحة كبيرة للحديث عن الأجواء التى عاشها فى القاهرة خلال شهر رمضان.

ففى هذا الكتاب قدم «وليم»، الذى توفى عام ١٨٧٦، صورة سينوغرافية متكاملة عن مصر فى هذه الفترة بصفة عامة، وعن «رمضان المصرى» على وجه التحديد، حتى إذا ما قرأت ما دونه الآن، ونحن فى ٢٠٢٤، ستشعر بأنك ترتدى «الطربوش» و«القفطان»، وتجلس على أحد مقاهى «المحروسة»، إلى جانب صاحبك «فلان أفندى»، تستمع إلى راو للقصص الشعبية، بعد عناء يوم طويل من الصوم.

فى السطور التالية نترككم مع جزء مما كتبه.

موكب الرؤية

تُعرَف الليلة التى يتوقع فيها بدء شهر رمضان بـ«ليلة الرؤية». فى فترة بعد ظهر اليوم الأخير من شهر شعبان، يتوجه العديد من الأشخاص إلى الصحراء، حيث الهواء النقى لرؤية هلال القمر، وفى حال تأكدت رؤية الهلال يبدأ الصوم فى اليوم التالى، أما إذا استحالت رؤية القمر نتيجة تلبد صفحة السماء، يبدأ الصوم عند انقضاء ٣٠ يومًا من بداية الشهر السابق «شعبان»، علمًا بأنه تكفى شهادة مسلم واحد برؤية الهلال للإعلان عن الصوم.

وفى هذه الليلة ينطلق «المُحتسِب» وشيوخ وأعضاء بعض التجارات المختلفة، مثل «الخبازين والطحانين والجزارين وبائعى اللحم والزياتين والخضرجيين»، إلى جانب «فرق المزيكاتيين» والفقراء، بقيادة عدد من الجنود، فى موكب من القلعة إلى محكمة القاضى، وينتظرون عودة الشخص الذى ذهب إلى الرؤية، أو شهادة أى مسلم رأى القمر هلالًا.

جرت العادة أن يكون «موكب ليلة الرؤية» مكونًا من جياد مغطاة بأسرجة مزركشة، لكنه تطور حتى حل محله «عرض عسكرى للطبقة الفقيرة»، الذى يتقدمه حاملو المشاعل، ثم مجموعة من الجنود، ويتبعهم شيوخ وأعضاء التجارات، مع العديد من الفقراء، الذين يهتفون بتناغم: «بركة، بركة.. بارك الله عليك يا رسول.. السلام عليك يا رسول».

وبعد أن يصل الخبر اليقين برؤية القمر إلى محكمة القاضى، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقًا عديدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة، بينما تطوف الفرق الأخرى فى أحياء مختلفة بالمدينة «القاهرة»، وهى تهتف: «يا أتباع أفضل خلق الله: صوموا صوموا».

وإذا لم يُرَ القمر فى هذه الليلة، يصرخ المنادى: «بكرة شعبان.. مفيش صيام.. مفيش صيام»، فيمضى المصريون ردحًا كبيرًا من تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون، وترتسم البهجة على وجوههم، كما لو أنهم يتحررون من شقاء يوم صوم، بينما تتلألأ الجوامع أنوارًا، وتعلق المصابيح عند مداخلها وفوق المآذن.

بيبة وفنجان قهوة

لا نصادف خلال شهر رمضان الناس فى الشوارع يحملون البيبات «أنابيب التبغ»، كما فى الأوقات الأخرى، بل نراهم يمشون فارغى اليدين، أو يحملون عصًا أو سِبحة، وتكتسى الشوارع نهارًا منظرًا كئيبًا، وتغلق معظم المحلات أبوابها، قبل أن يعود الازدحام إليها كالعادة، بعد أن تفتح أبوابها، فى فترة بعد الظهر.

ويكون المسلمون طوال صيامهم نهارًا نكديى المزاج، ويتحولون ليلًا بعد الإفطار إلى ودودين محبين بشكل غير عادى.

ويدرج الأتراك فى القاهرة وغيرهم على التوجه إلى جامع الحسنين «يقصد الحسين»، فى فترة بعد الظهر، للصلاة والاستراحة، ويعرض بعض التجار منهم، ويعرفون بـ«التحفجية»، بضاعتهم فى باحة «الميضأة» للبيع، وهى تنم عن ذوق رفيع، وتتماشى مع حاجات مواطنيهم.

ومن الشائع فى رمضان رؤية التجار فى متاجرهم يتلون آيات من القرآن، أو يؤدون الصلوات، أو يوزعون الخبز على الفقراء، ويصبح المتسولون قبيل المساء، وأحيانًا بعيد المغيب، مزعجين وصاخبين.

ويتوافد فى هذه الأوقات أبناء الطبقات الدنيا إلى المقاهى، ويفضل بعضهم كسر صيامه بفنجان قهوة و«بيبة»، وقليلون هم الفقراء الذين يفطرون فى رمضان، بينما يعمد بعض أبناء الطبقتين الغنية والمتوسطة إلى الإفطار سرًا.

الافطاروالتراويح

يضع أبناء الطبقتين المتوسطة والغنية، طوال شهر رمضان، كرسى الإفطار فى الحجرة التى يستقبل فيها سيد المنزل زواره، قبيل المغيب بدقائق معدودة، حيث تُثبَت صينية مطلية بـ«اللك» فوق هذا الكرسى، تزينها أطباق النقل «يقصد الياميش»، مثل الزبيب، والتمر المجفف، والتين المجفف، والكحك، والبندق المحمص، والجوز.

ويكون هناك أيضًا بعض قُلل الشربات من السكر والماء، مع الحرص على زيادة فنجان أو فنجانين عن عدد الأشخاص فى المنزل، للزوار الذين يمكن أن يحضروا بغتة، فضلًا عن إمكانية إضافة قطعة جبن صغيرة طازجة، ورغيف خبز.

وتكون البيبات «يقصد الشيشة وأنابيب التبغ» جاهزة، ودائمًا ما نجد فى المنازل التى يتدفق عليها الزوار العديد من «البيبات» المصنوعة من القصب.

ويتناول سيد المنزل، بعد أذان المغرب الذى يُرفع بعد المغيب بـ٤ دقائق، مع لفيف من أفراد عائلته أو أصدقائه، كأسًا من الشربات، ثم يؤدون الصلاة، وبعدها يأكلون شيئًا من «النُقل»، ويدخنون «بيباتهم»، وبعدها يبدأون فى تناول الفطور الدسم، المؤلف من اللحم وغيره من أطايب الطعام.

ويؤدون بعد الفطور صلاة العشاء، ويضيفون إليها صلاة «التراويح»، وهى الصلاة التى يصليها المسلم فى رمضان بعد صلاة العشاء، أو يدخنون «البيبة» قبل المباشرة فى الصلاة. وتتألف صلاة «التراويح» من ٢٠ ركعة، ووقتها فى الفترة الممتدة بين صلاة العشاء والوتر، ويصليها الأشخاص عامة جماعة فى المسجد.

تقفل الجوامع الصغيرة أبوابها بعد صلاة «التراويح»، وأما الكبيرة منها فتبقى مفتوحة حتى وجبة السحور وهى «آخر الوجبات»، أو «الإمساك» الذى يعود معه الصائم إلى صومه ثانية. وتشع أنوار هذه الجوامع فى داخلها وخارجها طالما أبوابها مفتوحة، تضاء مآذنها طوال الليل. 

ويتناول المسلمون فطورهم عامة فى منازلهم، ويمضون بعده ساعة أو ساعتين أحيانًا فى منزل أحد الأصدقاء، يرتاد بعضهم- خاصة أبناء الطبقات الدنيا- المقاهى فى المساء، فيعقدون اللقاءات الاجتماعية، أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية، أو عزف «المزيكاتيين»، الذين يسلونهم فى المقاهى، كل ليلة فى شهر رمضان.

ويتدفق الناس إلى الشوارع طوال جزء طويل من الليل، وتبقى محلات بيع الشربات والمأكولات مفتوحة، وهكذا ينقلب الليل نهارًا بفضل الأغنياء، خاصة الذين ينامون فى النهار.

ويقيم بعض علماء القاهرة حلقات ذكر فى منازلهم، كل ليلة طوال شهر رمضان. ويدعو بعض الأشخاص أصدقاءهم فيقيمون ذكرًا أو ختمة.

المسحراتى

يدور «المسحرون» كل ليلة فى شهر رمضان، فيطلقون المدائح أمام منزل كل مسلم قادر على مجازاتهم، ويعلنون فى ساعة متأخرة فترة السحور، ولكل خط أو منطقة صغيرة فى القاهرة «مُسحِرها» الخاص، الذى يبدأ جولته بعد ساعتين تقريبًا من المغيب، أى بعد صلاة المغيب بفترة وجيزة.

يحمل «المُسحِر» فى يده اليسرى ما يعرف بـ«الطبلة»، وفى يده اليمنى عصا صغيرة أو سوطًا يضرب به على هذه «الطبلة»، ويرافقه فى جولته صبى يحمل قنديلين فى إطار من أعواد النخل، ويتوقفان أمام منزل كل مسلم، إلا الفقراء منهم.

يضرب «المسحِر» على طبلته عند كل وقفة ٣ مرات، وفقًا لنغمة معينة معتادة، ثم يطلق المدائح النبوية، مناديًا بالصلاة على الرسول وتوحيد الله، فيقول: «اصحى يا غفلان وحد الرحمن»، ثم يضرب «الطبلة» كما فى السابق ويضيف: «محمد رسول الله»، ثم يواصل الضرب لمرة ثالثة ويقول: «أسعد لياليك يا (ويسمى اسم سيد المنزل)».

ويكون «المُسحر» قد استقصى أسماء سكان كل منزل، فيحيى كل واحد فيه، إلا النساء، بالطريقة عينها، ويذكر كل أخ وابن، وكذلك الابنة الشابة العزباء، قائلًا: «أسعد الليالى لست العرايس فلانة»، ويحيى الرجل كما الآتى: «وتقبل الله منه صلاته وصيامه وحسناته»، قبل أن يختم بـ«ربنا يحفظك يا كريم فى كل سنة».

وإذا توقف «المُسحر» عند أبواب الأغنياء، وبعد التوحيد والصلاة على النبى، يُعيد مديحًا طويلًا مكسور الوزن والقافية، يدعو فيه الله ليعفو عن خطاياه، ويبارك على الرسول، ثم يبدأ برواية قصة «المعراج» وغيرها من قصص المعجزات، ضاربًا طبلته عند قوله بعض الكلمات، أو بالأحرى بعد كل نغمة، وهو يغض الطرف عن المنزل المتشح بالسواد حدادًا. ويحصل عادة عند منزل الشخص المنتمى إلى الطبقة المتوسطة على قرشين أو ثلاثة، أو حتى أربعة قروش فى العيد الذى يعقب شهر رمضان، بينما يعطيه بعضهم مبلغًا بسيطًا كل ليلة.

وإن كان قارئى تأثر أشد التأثر بدور «المُسحِر» وإبرازه شخصية المسلمين، فهو سيندهش أكثر لما سيقرأ لاحقًا، إذ تضع المرأة فى العديد من منازل الطبقة المتوسطة فى القاهرة قطعة معدنية صغيرة، أو خمس فضات أو قرشًا أو أكثر، فى قطعة من الورق، وترميها من النافذة إلى «المُسحر»، بعد أن تكون أضرمت النار فى الورقة، حتى يرى مكان وقوعها، فيتلو حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة «الفاتحة»، ويخبرها قصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها، مثل «قصة الضرتين وشجارهما».

وتبعد بعض قصص «المُسحِر» عن باب اللياقة والاحتشام، ومع ذلك تسمعها النساء القاطنات فى المنازل ذات السمعة الطيبة، وكم أن هذه القصص وذيولها منفرة وغير مناسبة، وكم أن روايتها تحمل فى طياتها تضاربًا كبيرًا.

ليلة القدر

ترفع المآذن أذان الصبح باكرًا على غير عادة، وهو تنبيه للمسلمين ليتناولوا وجبة السحور، آخر وجبة مسموح بها. أما فى الشتاء فيرفع الأذان بعد ساعتين ونصف الساعة، فى ليالى الشتاء الطويلة، وبعد نحو ساعة ونصف الساعة، فى الليالى القصيرة، قبل الإمساك.

كذلك ترفع الجوامع الكبيرة أذانًا آخر قبل الإمساك بعشرين دقيقة، وهو تنبيه أخير لأى صائم، ويتعالى صوت «الميقاتى» فى هذه الجوامع عند حلول فترة الإمساك، و«الميقاتى» هو الذى يعلن ساعات الصلاة وغيرها، أو قد يتولى هذه المهمة أحد غيره، مناديًا «ارفعوا»، أى «ارفعوا الطعام».

ويتجول «المُسحِر» قبل الإمساك بساعة ونصف الساعة تقريبًا، ليوقظ الناس، أو يذكرهم بتناول الطعام، فى المنازل التى أُمِر بإيقاظها، فيقرع الأبواب وينادى حتى يسمع سكان المنزل نداءه، ويفعل بواب كل حى الشىء نفسه، فى كل منزل فى حيه.

ولا يفرط الغالبية فى الطعام عند الفطور، ويتركون اللذائذ والأطايب الدسمة لفترة السحور، وقد يقلب بعضهم هذه القاعدة، أو يساوى بين الوجبتين، وعند انتصاف الليل يخلد معظمهم للنوم.

ويحيى الأتقياء المتدينون آخر عشرة أيام من رمضان، فى نهاراته ولياليه، فى جامع الحسنين، أو جامع السيدة زينب. وتعرف إحدى هذه الليالى، وهى ليلة السابع والعشرين، بليلة القدر، وهى الليلة السابقة لنهار السابع والعشرين.

ويقال إن القرآن أُنزل على محمد فى هذه الليلة، ويؤكدون أنها خير من ألف شهر، وتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هى حتى مطلع الفجر، وتكون أبواب السماء مفتوحة فى تلك الليلة، فتقام الصلاة التى لا بد أن تستجاب، وينقلب- كما يُقال- الماء المالح حلوًا فجأة فى تلك الليلة.

ويقضى بعض الأتقياء الذين لا يستطيعون تأكيد أى من الليالى العشر فى رمضان هى ليلة القدر، هذه الليالى بخشوع كبير، ويجعلون أمامهم وعاءً فيه ماء مالح يذوقون طعمه، ليروا إن بات حلو المذاق أم لا، فيتأكدون أن هذه الليلة ليلة القدر حينها، علمًا بأن الرسول قال فى أحد أحاديثه إن ليلة القدر هى إحدى الليالى الوترية التالية: ٢١ أو ٢٣ أو ٢٥ أو ٢٧ أو ٢٩.