النصب باسم "الصدقة الجارية".. عصابات تستغل المتبرعين في حفر آبار وهمية (تحقيق)
ظهرت مؤخرًا إعلانات على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، تطلب التبرع لحفر آبار مياه في المناطق النائية، واستجاب كثير من ذوي القلوب الرحيمة بتقديم تبرعاتهم أملًا في إنقاذ حياة المحتاجين.
بعد مرور أشهرٍ، اكتشف المتبرعون أن تلك الجمعيات وهمية، وأن أموالهم التي تبرعوا بها قد ذهبت هباءً، فقد كانت تلك الإعلانات مجرد حيلةٍ استخدمتها عصابات النصب لاصطياد ضحاياهم من ذوي النفوس الطيبة.
وفي سبيل ذلك، قمنا بالتحقيق في شأن جمعيات خيرية تدّعي حفر آبار كصدقة جارية في قرى محافظ بني سويف، في مقابل مبلغ مالي يدفعه المتبرع، بالمخالفة للمادة 46 للقانون رقم 147 لسنة 2021، الذي يحظر حفر آبار للمياه الجوفية داخل أراضي الجمهورية إلا بترخيص من وزارة الري، وذلك في غياب رقابة وزارتي الري والتضامن الاجتماعي.
طارق: "بني سويف" الأعلى في النصب باسم آبار الصدقة
قادنا البحث إلى إحدى مجموعات "الفيسبوك"، والتي تولّت أمر التحذير من تلك الجميعات، فتواصلنا مع مؤسسها طارق الكردي، الذي حذر من انتشار ظاهرة النصب تحت ستار حفر الآبار كصدقة جارية في محافظته بني سويف، وهي أكثر المحافظات التي تتم فيها تلك العمليات الوهمية.
"الكردي"، يرى أن قرى الصعيد لا تعاني من نقص المياه، إذ حرصت الدولة على توصيل المياه النقية لكل منزل، لذا فإن الإعلانات المزعومة لحفر آبار ما هي إلا صورة من صور النصب، مؤكدًا أن مؤسسة "حياة كريمة" نجحت في توفير مياه الشرب النقية للقرى الأكثر فقرًا ولا تزال مستمرة في ذلك، كما تقوم الجمعيات الخيرية المشهرة بمتابعة توصيل المياه للأسر الأكثر احتياجًا.
وحث الجهات المعنية على تكثيف التوعية لتحذير المواطنين من الانخداع بتلك الإعلانات عبر مواقع التواصل والفضائيات، كما شرح آليات النصب من خلال إقامة سور رخامي مزيف، وتركيب مضخة مياه بسيطة وخزان، وجمع أموال المتبرعين مقابل وعود كاذبة بحفر آبار، مناشدًا المواطنين بعدم التسرع بالتبرع دون التأكد من مصداقية الجهات الطالبة ومدى حاجة المنطقة فعلًا لحفر الآبار.
* نص تعديل قانون الموارد المائية والري الصادر بالقانون رقم 147 لسنة 2021 على حظر حفر أية آبار للمياه الجوفية داخل الجمهورية إلا بترخيص من وزارة الموارد المائية والري؛ بالحبس مدة لا تقل عن شهر وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف جنيه، مع تضاعُف تلك العقوبات حال العَودْ، وضبط الآلات والمُهمات المُستخدمة، ومُصادرتها حال الإدانة من جانب المحكمة المُختصة.
نصرالله: "حفر الآبار" سبوبة بالملايين
انتهى "طارق" من حديثه، لنصل إلى منشور آخر مكتوب فيه: "استمرار مسلسل إهدار أموال المتبرعين، بئر مياه لزريبة مواشي"، كتبها نصر الله سالم، تواصلنا معه لمعرفة قصة الفيديو الذي نشره عن تلك الأزمة، وهو يقطن بقرية الكوم الأحمر مركز سُمُسطا ببني سويف، فشرح أن ما نشره واحدة من مئات عمليات النصب الأخرى التي تتم باسم الصدقة الجارية.
وعن آلية النصب، قال إن المتبرع يرسل المبلغ المطلوب إلى تلك الجمعيات الوهمية لحفر البئر، الذي يكون غير صالح للشرب، ثم يرسلون له فيديو بأنهم أتموا المهمة، لكن دون توضيح أي معالم للمكان الذي تم تصويره فيه، ويطلبون من المتبرع عشرات الآلاف في مقابل هذا البئر في حين أن تكلفته لا تُذكر، كما أن المنزل الذي يوهمون المتبرع بأنه في حاجة إلى البئر لديه بالفعل وصلة مياه من الدولة، فالأمر عبارة عن "سبوبة"، ولا توجد رقابة على تلك الجمعيات لذا انتشرت بكثرة في الآونة الأخيرة بدون تصاريح أو تراخيص.
*وافق مجلس الوزراء على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون الموارد المائية والري الصادر بالقانون رقم 147 لسنة 2021، بهدف تشديد العقوبات المُقررة في ضوء أحكام هذا القانون وإضافة عقوبة الحبس التي لا تقل عن شهر.
عبدالرحمن: النصب وصل لإذاعة "القرآن الكريم"
لم ينتهِ مسلسل الجمعيات عند هذا الحد، فتابعنا الحديث مع عبدالرحمن الشريف، شيف حلواني، أحد قاطني مركز الواسطى ببني سويف أيضًا، فأكد أن تلك العصابات تقوم بضخ أموال هائلة في الدعاية لمشروعهم الوهمي، لأنها تجني لهم الملايين، فنجد منها إعلانات على وسائل التواصل الاجتماعي كإعلانات ممولة، والقنوات التلفزيونية، ووصلت أيضًا إلى إذاعة القرآن الكريم.
وروى "الشريف"، أنه تواصل مع الأرقام التي أعلنوا عنها في إذاعة القرآن الكريم علّها تكون صادقة، لكنه وجد نفس الأحاديث وأساليب النصب المتبعة، على أن يكون البئر في بني سويف، رغم أن أغلب قرى بني سويف وصل إليها المياه من خلال الوصلات الشرعية التي قامت بها الدولة، مؤكدًا أنه كرّس مجهوداته لتحذير الناس، من خلال صفحات تلك الجمعيات على وسائل التواصل الاجتماعي، "بقيت بكتب لهم في التعليقات إنهم نصابين"، واصفًا الوضع بـ"الخطير".
"قرية العزبة البيضاء وحدها بها أكثر من 5000 بئر على هذه الشاكلة"، هكذا اختتم "الشريف" حديثه عن أزمة تلك العصابات، مؤكدًا أن كل بيت موضوع بئر بجواره لديه مياه من الدولة ولا حاجة له لهذا البئر، مشيرًا إلى أن قريته بمركز الواسطى، شهدت تركيب بئرا بجوار بيت من أغنى بيوت القرية ولا حاجة له لهذا البئر، إلا أنهم انتهوا من تصوير الفيديو ثم قاموا بخلع الصنابير.
الحديث عن تلك الوقائع، جعل محررة "الدستور" تقوم بتجربة عملية لعدد من تلك الجمعيات، من خلال التواصل هاتفيًا معهم، لكن السمة الغالبة كانت التهرب من إعطائها إيصال يثبت دفع التبرع، وفقط الاكتفاء بفاتورة احتياجات البئر لحفره.
مغامرة "الدستور" مع الجمعيات الوهمية
المحاولة الأولى كانت بالتواصل مع جمعية "س. م"، عبر رقم الواتساب الظاهر على الصفحة، وادعت محررة "الدستور" أنها تريد عمل بئر كصدقة جارية، وتريد معرفة التفاصيل، فتم إرسال قائمة بالأسعار، وبآلية العمل على حفر البئر -كما في المحادثة- واختتمت المتحدثة بـ، "التعامل معنا مضمون لأنها صدقة جارية لوجه الله تعالى"، لإضفاء روح الثقة بالتعامل معهم.
وفي محاولة لإقناع المحررة باستكمال الأمر وإرسال الأموال، سألت عن اسم صاحب الصدقة، لعمل تصميم للوحة الرخامية التي سيتم وضعها على البئر، وما إذا أردت وضع أي إضافات أخرى مع اسمه، وبالفعل قامت بإرسال التصميم لإثبات أن عملهم جاد ولا يقبل التأخير، وظلت تحاول التواصل أكثر من مرة لإقناع المحررة بأمانتهم وضرورة الدفع للبدء بسرعة، لكن أنهيت الحديث معها بدعوى التفكير في شكل البئر الذي تريده.
أما المحاولة الثانية، فهي عبارة عن مكالمة مسجلة لجمعية "س.م.ح"، التي أكدت أن التبرع المالي ليس له إيصال موثق، إنما فاتورة لما تم عمله، وإلى نص المكالمة:
خبير مائي: التصاريح تنظم عمل الآبار
بعد إثبات أن تلك الجمعيات غير مرخصة، تواصلنا مع عدد من المتخصصين حول أسباب استخراج تصريح لحفر الآبار، والعقوبات الموجهة لتلك الجمعيات، وما الرأي الديني في قضية حفر آبار كصدقة جارية.
البداية كانت مع الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة والخبير المائي، الذي أكد أن أي عمل له علاقة بالمياه يجب استخراج تصريح له من وزارة الري، خاصة الآبار، لأن المياه الجوفية تختلف من مكان لآخر، وحفر البئر يحتاج لدراسات سابقة قبل حفره، لمعرفة عمق المياه من سطح الأرض، أيضًا خصائص المياه الجوفية سواء عذبة أم بها ملوحة، وما إذا كانت مياه صالحة للشرب أم للزراعة بناء على التحليلات الكيميائية لنوعية المياه.
وأوضح "شراقي" في حديثه مع "الدستور"، أنه يجب أيضًا معرفة خصائص البئر نفسه، وحركة المياه فيه، وكمية المياه المطلوب استخراجها يوميًا من البئر، والمسافة بين أقرب بئر للبئر الجديد، والتي تختلف من منطقة لأخرى، لأن الخزان الجوفي قد يتم حفر بئر به ويجف بعد عام أو أكثر، أو يؤثر على الآبار المجاورة بسحب مياهها، بالتالي لا بد من الترخيص الذي يحدد كل النقاط التي تم ذكرها، وهو الأمر المنوط بوزارة الري.
قانوني: العقوبة بالحبس أو الغرامة أو كليهما
أما الرأي القانوني، فحدثنا حمدي مرزوق، المستشار القانوني، أن العقوبة التي توجه لتلك الجمعيات تكون ما بين سنة إلى 3 سنوات بتهمة النصب، وذلك لحصولهم على أموال في مقابل مشاريع وهمية بطرق احتيالية، فلا يوجد ما يسمى بحفر بئر في أي مكان بشكل عشوائي، إنما الأمر يتم وفق ضوابط معينة.
أوضح "مرزوق"، في حديثه مع "الدستور"، أنه إذا قام أحد المجني عليهم برفع قضية استرداد أموال مع التعويض، فهذا يعني أن العقوبة ستتحول إلى حبس وغرامة، وتقدير الغرامة متروكة للمحكمة حسبما يترائى لها.
أكد أن حفر الآبار في مصر لا يتم إلا بتصريح من الجهة المالكة للأرض التي يتم الحفر فيها، فمن الممكن أن تكون تابعة للقوات المسلحة أو وزارة الزراعة ضمن أراضي الاستصلاح الزراعي أو أي جهة حكومية أخرى، وفي هذه الحالة يستخرج التصريح لمعرفة الجهة التابع لها الأرض المراد حفر البئر بها، وما غير ذلك يُعاقب بالحبس أو الغرامة أو كليهما، ويتم مصادرة البئر لصالح الجهة المالكة.
*وفقًا للمادة (94) من القانون رقم 149 لسنة 2019: يعاقب بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه، ولا تزيد على مليون جنيه كل من تلقى أو أرسل أمولًا بالمخالفة لأحكام هذا القانون وتقضي المحكمة بإلزام المحكوم عليه برد ما تلقاه أو أرسله أو جمعه من أموال، وتؤول هذه الأموال إلى صندوق دعم مشروعات الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
كريمة: "حفر الآبار" نصب واحتيال
وختامًا، حذر الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، من ظاهرة انتشار النصب والاحتيال تحت مسميات حفر الآبار، مشيرًا إلى أن الدولة تقوم بذلك مجانًا، مؤكدًا أن الأفضل إنفاق تلك الأموال على الفقراء والمحتاجين في مصر.
وتذكر "كريمة"، في حديثه، أن إحدى الجمعيات عرضت عليه أن يقوم بعمل دعاية إعلانية لهم عبر إحدى القنوات الفضائية بدعوى حفر الآبار، في مقابل الحصول على مبلغ كبير، لكنه رفض بشكل قاطع، لأن الدولة تقوم بذلك بشكل مجاني، داعيًا لضرورة التحري في صرف أموال الصدقات لتصل إلى مستحقيها، كما يجب معاقبة هؤلاء المحتالون.
وزير الري: حدثنا قاعدة بيانات للآبار لمنع سوء استخدامها
وفي تصريحات سابقة، أكد الدكتور هاني سويلم، وزير الري والموارد المائية، حرص الوزارة على المتابعة المستمرة للآبار الجوفية، لضمان الاستخدام الرشيد لهذا المورد الهام خاصة أنه غير متجدد، وأن الوزارة نفذت شبكة مراقبة لمتابعة المخزون الجوفي، وحدثت قاعدة بيانات الآبار، كما ركبت أنظمة طاقة شمسية لعدد من الآبار.
وشدد الوزير على ضرورة عدم التوسع في التنمية إلا بعد دراسة إمكانات الخزانات الجوفية، والتحول لأنظمة الري الحديثة، وزيادة الإنتاج الزراعي باستخدام نفس كمية المياه، فضلا عن تعميم استخدام الطاقة الشمسية في رفع المياه من الآبار.