البداية بمحاكمة يهودي.. قصة مخطط التهجير وإقامة دولة الاحتلال
يشاهد العالم المجازر التي يرتكبها الاحتلال في قطاع غزة ومحاولات تهجير السكان المستمرة، لكن ا يدرك الأغلبية ما يسمى بـ"مخطط التهجير" الذي بدأ عندما تعرضت الجالية اليهودية في الغرب للاضطهاد والطرد من بلادهم، على عكس ما نشهده اليوم من تشجيع الغرب على احتلال أرض الفلسطينيين وممارسة الوحشية ضدهم أيضًا.
محاكمة ضابط فرنسي يهودي البداية
البداية حسب المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية كانت بمحاكمة بتهمة التجسس لصالح ألمانيا وقع فيها الضابط الفرنسي اليهودي "الفريد دريفوس"، وذلك في الفترة بين عامي 1894 و1895، سجن على أثرها مدى الحياة، تسببت تلك المحاكمة في اندلاع موجة واسعة من ما يسمى بمعاداة السامية في فرنسا.
إصدار كتاب (“دولة اليهود”.. "محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية")
ومتأثرًا بهذه الأجواء أقدم صحفي يهودي حينها يدعى "ثيودور هرتزل" والذي كان يعمل مراسلًا فى باريس لصحيفة يومية نمساوية على تألیف کتاب بعنوان رئیسی «دولة اليهود»، وعنوانًا فرعيًا هو "محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية".
صدر هذا الكتاب باللغة الألمانية فى فبراير 1896، وذلك قبل أن يترجم لاحقًا إلى لغات عدة.
اعتبر "ثيودور هرتزل" أن الحياة في أوروبا أصبحت لا تحتمل بالنسبة إلى اليهود، وذلك على خلفية حالة الاحتقان العرقي ضد اليهود التي ارتفعت وتيرتها في فرنسا، وذلك بعد أن تبين له أن عوالم غير اليهود لن تسمح باندماجهم في المجتمعات الأوروبية.
"ثيودر": حل مسألة "إسرائيل"لابد أن يكون قوميًا
وصل "ثيودر" إلى نتيجة أن الحل الوحيد لـ "المسألة اليهودية" لا يمكن بالتالى، إلا أن يكون "قوميا"، وذلك باعتبار أن اليهود يشكلون "شعبًا" عليه أن يقيم دولة خاصة به، مقترحًا في هذا الوقت المبكر موقعين جغرافيين لهذه الدولة هما: فلسطين أو الأرجنتين.
لم يخف “هرتزل” عند حديثه عن فلسطين طموحه أن تكون الدولة اليهودية المنشودة جزءًا من المشروع الاستعماري الأوروبى فى الشرق، إذ كان أهم ما كتبه وهو يستحث الأوروبيين في هذا السياق وبالنسبة لأوروبا، قوله إننا سنشكل هناك حاجزًا يفصلها عن آسيا، وموقعًا أماميا للحضارة ضد البربرية.
وعلى الرغم من أنه كانت هناك رغبة في عقد المؤتمر الصهيوني الأول فى ميونخ بألمانيا، إلا أنه قد قوبل هذا المؤتمر بمعارضة شديدة من قبل التجمع اليهودى، وتدخلت الحاخامية لتحول دون ذلك.
ولكن نجح "ثيودور هرتزل" بعد جهود حثيثة، في عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول بمدينة "بال" السويسرية وافتتح أعماله في 29 أغسطس 1897، وذلك بمشاركة أكثر من 200 مندوب قدموا من 24 دولة.
وأكد هرتزل في هذا المؤتمر بعد إعلانه قيام ما سمى بـ "المنظمة الصهيونية العالمية"، أن الصهيونية تتطلع إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، يضمنه القانون العام.
إعلان أن التوطن البطئ والتسلل حل المسألة اليهودية
كما حدد "ثيودور" في خطاب الافتتاح أن هدف المؤتمر هو وضع حجر الأساس لهذا المشروع، مع التأكيد أن «المسألة اليهودية لا يمكن حلها من خلال التوطن البطىء أو التسلل بدون مفاوضات سياسية، أو ضمانات دولية أو اعتراف قانونى بـ«المشروع الاستيطاني من قبل الدول الكبرى".
ثلاث مسارات لتحقيق الهدف الصهيوني
حدد المؤتمر ثلاثة مسارات مترابطة لتحقيق الهدف الصهيوني، وهي تنمية استيطان فلسطين بالعمال الزراعيين، وتقوية وتنمية الوعي القومى اليهودى والثقافة اليهودية، وأخيرا السعى لاتخاذ إجراءات الحصول على الموافقة الدولية على تنفيذ المشروع الصهيوني.
تجنب تعبير “دولة يهودية” واستبداله ب"وطن"
وبناء على توصية من هرتزل نفسه، تجنب المؤتمر الصهيوني الأول أن يستخدم في مقرراته تعبير دولة يهودية، واكتفى بتبنى صيغة "وطن"، كي لا يستثير مزيدًا من مشاعر العداء لليهود في أوروبا وداخل الإمبراطورية العثمانية وهي الصيغة نفسها التي وردت لاحقًا في الثاني من نوفمبر 1917 في تصريح اللورد بلفور.
وقد بنى هرتزل تشخيصه للمعضلة اليهودية وبلورة الفكر الصهيونى باعتباره حلا لتلك المعضلة، على حصاد مجموعة من مفكرى اليهود الذين سبقوه فى هذا المضمار.
وأهم هؤلاء هم الحاخام كالبشر، وموزيس هس والحاخام موهيلفر، وبتسكر وغينزبرغ، وجميعهم عاشوا ما بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وسار كل منهم في دروب لاهوتية وعرقية شتى، لكنهم تلاقوا في المحصلة إلى نظرة موغلة فى التشاؤم بالنسبة لأوضاع اليهود المستقبلية في البلاد الأوروبية.
المفكرين اليهود القدامى: "فلسطين" حيز المحافظة على الهوية الإسرائيلية
كذلك وصلوا إلى نتيجة مفادها وجوب المحافظة على الهوية اليهودية التراثية وتثبيتها، كما أن الحيز المفضل لذلك إنما هو «فلسطين» عن طريق هجرة استيطانية جماعية إليها.
“ثيودور” أضاف مفهوم "الدولة" لإسرائيل بحافز "اللاسامية"
ثم جاء ثيودور هرتزل ليشكل الجديد فى طرحه المنهجى الهادئ المصحوب بثقته في أن مفهوم "الدولة" هو الحل الأكيد لما يعانيه اليهود في المجتمعات الغربية، واطمئنانه إلى إمكان تحقيق هذا الحلم عبر تحويلها إلى قضية سياسية دولية كحل لها، وذلك استنادا وأسوة بشعوب اليونان ورومانيا والصرب والبلقان، التي كانت قد حققت حلمها في غضون تلك السنوات التي شهدت ميلاد "الحلم اليهودى"، وكون اليهود لديهم حافز إضافي هو اللاسامية التي كانت عنوانا للمرحلة التي جرت فيه تلك الأحداث.
دعوته إلى قيام "جمعية اليهود" و"الشركة اليهودية"
لذلك ووفق منطقه العملى التكتيكي دعا هرتزل إلى قيام كيانين مهمين هما "جمعية اليهود"، لتكون الأداة السياسية التي تتمتع بسلطة التخطيط وإصدار القرارات التنظيمية وتقوم بكل الأعمال السياسية المطلوبة والتي وضع على جدول أعمالها اختيار البلد الذي سيهاجر اليهود إليه.
وكذلك إجراء المفاوضات مع الدول العظمى للحصول على صك براءة المقترح، ومن ثم تنظيم الهجرة الجماعية اللازمة خلال الاعتراف بالسيادة اليهودية على البلد المختار.
والأخرى "الشركة اليهودية" التي تتولى جمع التمويل اللازم، وتنظيم أعمال التجارة والصناعة في البلد المختار كما عهد إلى الشركة القيام بأعمال تصفية ممتلكات اليهود المهاجرين في أوروبا، قبل مساعدتهم بشراء الأراضى ومد المهاجرين بالمنازل والأدوات وفروض الإنتاج.
تأسيس الشركة اليهودية
وقد تأسست الشركة اليهودية بنظام شركة مساهمة محدودة برأس مال 200 مليون دولار وسجلت في لندن تحت حماية السلطات البريطانية، وجُمع المال المطلوب من كبار الممولين اليهود ومن بعض البنوك الأوروبية الصغيرة التي لدى الشخصيات اليهودية قدر من النفوذ عليها.
كما نظمت أيضًا عملية اكتتاب شعبي واسع من الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة ومن الشخصيات التي صار لها وزن مالي معتبر في البلدان التي كانوا يعيشون فيها قبل بزوغ هذا الحلم، وتمكنوا على خلاف ما روجت الحركة الصهيونية من تحقيق ثروات هائلة وآمنة.