رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الإبداع والواقع

الأدب خيال. راح/ جه: خيال. طلع/ نزل: خيال. طب الخيال دا 

إيه علاقته بـ الواقع؟
الإجابة:بـ شكل مباشر، مفيش أي علاقة نهائي، ولا يمكن يكون فيه علاقة نهائي، أومال إيه الواقعية؟ والكلاسيكية والرومانسية والحداثة، وما بعد الحداثة وما بعدين الحداثة؟ إيه كل الكلام اللي البشرية استهلكت فيه (ومازالت تستهلك) مليارات الأطنان من الأحبار، وملايين ملايين الأزرار لـ الكيبوردات، إيه دا؟
كل هذا الكلام يتناول العلاقة بين الطرح (العمل الأدبي) وتصورات المؤلف عن الواقع، مش الواقع الفيزيائي نفسه، لـ إنه زي ما قلنا فيه واقع بـ يحصل، الواقع دا نفسه مستحيل تحصيله (كما هو)، وإنما نتعامل من خلال تصورات: تصوري/ تصورك/ تصور الدولة/ تصور الجن الأزرق.
خلينا ناخد مثال حي: أوائل الستينات فيه اسم احتل مساحة كبيرة من المجال العام في مصر، هو محمود أمين سليمان (أظن كلنا عارفينه) لص وقاتل ترتبط به قصص كثيرة ومتشعبة عن سرقاته/ علاقاته/ مغامراته، ومطاردة الشرطة له، ثم مصرعه في النهاية في واحدة من هذه المطاردات. دا واقع.
ملايين الأشخاص تابعوا القصة، مئات الجهات تابعت القصة، وكل شخص وكل جهة طلع بـ تصور عنهافيه اللي طرح تصورهوفيه كتييييير جدًا ما طرحوش، من ضمن ملايين التصورات دي فيه تصور كونه شخص اسمه نجيب محفوظ(لاحظ إننا بـ نقول شخص) هو نفسه كـ إنسان كون عنها تصور، ثم إنه يمتلك فرصة طرح هذا التصور، بـ اعتباره أديب، فـ قرر يستغل هذه الفرصة، وقدم لنا رواية "اللص والكلاب".
وصف الرواية اللي قدمها بـ إنها واقعية أو إنها غير واقعية أو إنها فلسفية/ رمزية/ حزمبلية، لا يتطرق من قريب أو من بعيدلـ الإجابة عن السؤال: هل هي دي قصة محمود سليمان ولا لأ؟ لـ إن الإجابة هنا حاسمة: لأ، هي مش قصة محمود سليمان خالص، مهما بالغ في تحري "الأمانة".
إنما تصنيف الرواية يتعلق بـ كيفية تعامل نجيب فيهامع "التصور الذي يمتلكه"، هل تحرى تقديم التصور على نحو تسجيلي؟ هل تحرر من تفاصيل التصور الفيزيائية لـ صالح أفكار ومعاني؟هل اهتم أساسًا بـ محمود سليمان كـ إنسان؟ ولا كـ ظاهرة اجتماعية؟ ولا كـ ممثل لـ فئة/ طبقة، ولا ما اهتمش بيه خالص، هو بس شاف في حكايته مادة خام لـ تقديم رؤية عن العالم كله؟ ولا ولا ولا ولا
دا مجال الأدب، سواء في صياغته أو في النقاش عنه وبـ خصوصه.
طيب، هل كون العمل الأدبي دا خيال يمنعنا من تكوين تصوراتنا عن الواقع من خلاله؟ السؤال بـ صيغة أخرى: "أنا عايز أفهم قصة محمود سليمان، وأكون عنها تصوري، هل فيه ما يمنعني إن أكون هذا التصور من خلال رواية اللص والكلاب؟على اعتبار إنه أدب، وإحنا قلنا إنه الأدب خيال؟".
أنا سعيد إنك سألت السؤال دا، وإنك كمان أعدت صياغته، بس خليني أسألك أولًا: هل حضرتك، أو أي إنسان في الدنيا، بـ يكون تصوره عن الواقع من خلال حاجة واحدة، حاجة واحدة بس، أيًا كانت الحاجة دي إيه؟
يعني، لو قريت مثلًا أوراق الشرطة الرسمية من تحريات ومحاضر وخلافه، كدا تقدر تكون تصور؟ هل ممكن تكتفي بـ إنك تقرا اللي كتبته جريدة "الأخبار" وقتها؟ أو الأهرام؟ هل لو سمعت شهادة من حد معاصر لـ الموضوع، وقريب منه، تقدر تعتمدها لـ وحدها؟
الإجابة: كلا البتة! هو طبعًا مفهوم جدًا إنه حياة الإنسان قصيرة، ويومه مزدحم، وهمومه كتير، فـ مش معقول يعنى كل موضوع في الدنياهـ يقعد يدور في ميت حتة عشان يكون عنها تصور؟ كدا مش هـ نعيش، فـ ممكن يكتفي بـ حاجة واحدة وخلاص، دا صحيح!
مش بس ممكن، بل إنه أغلبنا بـ يعمل كدا في أغلب الحاجات، لكن ساعتها هذا الإنسان المسحول المشغول ضروري يدركإن تصوره الذي كونه هو تصور قاصر جدًا، ودا في حد ذاته مش عيب، ما كل تصوراتنا عن كل حاجة مش مكتملة، العيب إني أظن إني كدا خلاص، فهمت التيتة.
نرجع لـ"اللص والكلاب" ومحمود سليمان، الأدب هو واحد من أدوات الإنسان في تكوين تصوراته عن الواقع، أوراق البوليس الرسمية كمان أداة، تحقيقات الصحافة أداة، شهادات المعاصرين أداة، كل أداة لها طبيعة، بـ التالي بـ تساعدك بـ شكل ما.
من الغباء إنه الإنسان يعتمد على أداة من كل هاتيك الأدوات لـ تغطية مساحة بتاعة أداة أخرى. مثلًا لما قريت اللص والكلاب لقيتها بـ تدي أهمية كبرى لـ الشخص اللي استخبى عنه، دا نبهني لـ هذه التفصيلة، وما كنتش ممكن أنتبه لها من غير الرواية، فـ دورت عن الشخص دا، ولقيته.
بس مش ست مومس لها مواصفات نور في الرواية، مش ست أصلًا، دا طالب جامعي، وبعييييد تمامًا عن شخصية نور، فـ أنا تعرفت على روايته لـ الموضوع، كدا الرواية أدت دورها، شهادة الشخص أدت دورها، ما ينفعش أقول إنه الرواية ما كانتش مفيدة في تكوين تصوري، لكن كمان هـ أبقى غبي جدًا لو اكتفيت بـ الرواية، وقلت إنه محمود سليمان كان مستخبي عند واحدة مومس فاضلة.
بـ اختصار، تحصيل صورة عن الواقع، يستلزم زوايا عديدة كل زاوية بـ يقدمها لك مجال، وكل مجال له طبيعة وطريقة، ولا مجال منهم "صور الواقع كما هو"، ولا مجال منهم "شوه الواقع"، كلها تصورات أصحابها أو على الأدق ما طرحوه من تصوراتهم.
ما ينطبق على الأدب، ينطبق على كافة صور الإبداع: سينما/ شعر/ مسرح/ دراما تليفزيونية، قصة قصيرة/ عرض حكي/ أراجوز، أي إبداع هو خيال مبدعه يطرح لنا من خلاله ما يريد من تصوره لـ الواقع، لا أكتر ولا أقل.