مى زيادة تكتب: حياة اللغات وموتها ولماذا تبقى العربية حيَّة!
اللغة والحضارة
الشعوب كالبحار: لهذه مدٌّ وجزر ولتلك ارتفاع وهبوط.
للبحار موجات يأتين لاطمات الشاطئ بتجمع مياههن، ثم يغرن فى صدر موجات متهجمات. وللشعوب مدنيات تنمو فتعلو إلى ذروة المجد والسؤدد، ثم تهبط إلى منحدر الوهن والنسيان متخلية عما لديها من نظام وقوة وخبرة لمدنيات جديدات تحلُّ محلها.
ما هو الداعى إلى هذا التموج الدائم فى مناطق المجهود البشرى حتى تهلك عنده أشواط المدنية واحدًا بعد آخر؟ وما هى العوامل التى تجعل زاهر الأمس اليوم يابسًا، وخصيب اليوم قاحطًا غدًا؟
لقد درس هذه المسألة الخطيرة علماءُ التاريخ والآثار والعمران، ففصَّلوا لذلك الأسباب ووضعوا لتعليله المؤلفات الكبيرة، إلا أن أبحاثهم لا تفيد فى تلافى المحتوم على كل مدنية بلغت شأوها المنطَّق، ثم خضعت فى هبوطها كما فى ارتقائها لناموس التموج الدائم. وليس فى وسع المتأمل المخلص إلا إثبات ما قد تتابع وقوعه منذ فجر التاريخ: وهو أن الشعوب تخلف الشعوب، والمدنيات تعقب المدنيات، وأنه فى دوران الأحقاب لا بد أن يمسى الجديد قديمًا، وأن ينقلب القديم يومًا جديدًا.
كذلك تنتشر لغة قوم بانتشار حضارتهم، فيسارع المغلوب إلى تعلمها وإتقانها ما استطاع، حتى إذا انحطت تلك الحضارة، عاد ينكمش انتشار لغتها ودخلت مع الزمن فى صف اللغات الميتة.
إن هذا المقدور نفذ فى جميع اللغات القديمة، حتى التى يتصل عهدها بعهد اللغة العربية، لقد ارتفعت اليونانية واللاتينية بارتفاع مدنيتيهما وهبطتا معهما أو بعدهما بزمن يسير. فلماذا خرجت اللغة العربية من حكم ذلك المقدور، فظلت حية كل هذه القرون الطوال بعد تشتت دول الفتوح واندثار العظمة العربية؟
عند اليونان
تاريخ بلاد الإغريق هو الفصل الأول من تاريخ المدنية الحديثة، ومنه استمدَّت أوروبا مبادئ العلم والفلسفة والآداب، وما كانت تتمتع به المدن اليونانية من حرية واستقلال مثلٌ أعلى يتطلع إليه المفكرون والمصلحون، وتنشده الحكومات الحديثة الحرة، ذلك لأن اليونانيون بدأوا بحل المشاكل الفلسفية والعمرانية ومعالجة بعض القضايا العلمية التى تضطرب لها أجيالنا.
مرَّت عصور لم يكونوا فيها إلَّا منفعلين بحضارة الكلدان والمصريين والسوريين، إذ كانت شواطئ النيل والفرات منذ زمن بعيد محطَّ مدنيات قد وصلت إلى أوج العظمة والاقتدار، لكن جاء يوم قاموا يناهضون تأثير الفينيقيين فيهم ليفسحوا المجال لمدنيتهم القومية، فارتقوا ارتقاءً باهرًا وبسطوا سلطانهم على شواطئ البحر المتوسط، وبينا جيوشهم تنشر أعلامهم على بلاد يفتحونها ويستعمرونها، كان أهل البلاد اليونانية يعيشون عيشة هنيئة مستمتعين بما وضعته جمهورياتهم من النظامات الديمقراطية والاستقلال القومى.
ولما أن قام الفرس يهددون بلادهم الأوروبية، بعد فتح الآسيوية، نهضت أثينا وإسبارطة لرد غارات المغيرين، وأصبحت أثينا عاصمة المدنية اليونانية منذ القرن الخامس قبل الميلاد.
غير أن منافسة إسبارطة لها ولدت بينهما الحرب البيلوبونيزية الشهيرة التى انتهت بانكسار أثينا. ثم قامت طيبة تزاحم إسبارطة. وهذه الحروب المتوالية أضعفت المدن اليونانية ونالت من تضامنها واستقلالها، فسطا عليها فيلبس المكدونى وأخضعها لسلطانه، واجتاح ولده الإسكندر مملكة الفرس عدوة اليونان فضمها إلى مملكته الواسعة، إلا أن الإغريق انقسموا بعضهم على بعض بعد موت الإسكندر، فاستنجد الإيتوليون بالرومان فكان ذلك أول النهاية، وصارت بلاد اليونان إقليمًا لاتينيًا منذ عام ١٤٦ قبل الميلاد.
أما اللغة اليونانية ففرع من طائفة اللغات الهندية الأوروبية كلغات: الفرس، والهند، وأرمينيا، وليتوانيا، والقلت، والجرمان، والسلاف. وقد استعملت أولًا فى بلاد الإغريق الأوروبية، ثم امتدت إلى شواطئ آسيا الصغرى، وإلى الجزر التى كانت تأتيها السفن للاستراحة فى رحلاتها بين القارتين الآسيوية والأوروبية. ولما تعددت مستعمرات اليونان على شاطئ البحر المتوسط انتشرت لغتهم، فأصبحت لغة إيطاليا الجنوبية، وأكثر جهات صقلية، وبلغت قارة إفريقيا يوم شادوا قيرين، وبلاد غاليا يوم بنوا مرسيليا.
اللغة اليونانية الأولى من أوفر اللغات ثروة، تتجلى الفصاحة فى: رناتها الرقيقة، وألفاظها الأنيقة، وأساليبها الفخمة، وقد أكسبها تنوع تشكيلها وتحريك منطوقها رخامة فى مقاطع الأصوات، وموسيقى لفظية فى التعبير عن الأفكار والعواطف، وقد فازت بما لم تفز به اللغات الأخرى، وهو أن لها مفردات خاصة باللغة الشعرية ومثلها للغة علماءُ العهد الإسكندرانى، وآباء الكنيسة الشرقية، وأدباء بيزنطية منذ ملك يوستنيانس إلى فتح الأتراك لمدينة القسطنطينية «١٤٣٥».
ولقد تلقينا مآثر اليونان فى الفلسفة والفن والأدب عن طريق هذه اللغة، فيها نشأ الشعر القصصى الحماسى Epic بأشعار هوميرس الإيلياذة والأوديسا، وقصائد هيزيوذس، وبرز الشعر الغنائى Lyrice ذو الوسمة الدينية أو السياسية أو الرثائية، مع صولون وسافو وأناكريون وغيرهم. ولما جاء العصر الشهير المدعو بعصر «بركلس» سما النتاج الفكرى إلى درجة الإتقان العظيم فى الروايات المفجعة مع إسخيلوس وصوفوقليس وأوربيذس، والروايات الهزلية مع أرستوفانس، والتاريخ مع هيرودوتس وثوسيديدس وزينفون، والفلسفة مع أفلاطون وأرسطو، والبلاغة مع خطباء الأطيقيين، هؤلاء وغيرهم جعلوا الآداب اليونانية آيات ينسخ عنها الناسخون.
وبدا الفن بجماله الساذج الأنيق سواء فى هندسة البناء والنحت والرسم.
ظل الأدب والفن فى تلك المنزلة إلى القرن الرابع، إلا أنهما فقدا عندئذ قوة الإبداع والبداهة، فكان الرسامون والنحاتون قاصرين على نسخ التماثيل القديمة، وصار الشعراء يحتذون هوميرس وأمثاله. غير أن الفلسفة لبثت تتألق فى سماء مجدها مع: الرواقيين، والأبيقوريين، والمشَّائين، والمرتابين، وأنصار الأفلاطونية الجديدة. كذلك كانت علوم التاريخ واللغة فى ازدهار.
أخضع اللاتين اليونان فأعطاهم هؤلاء مدنيتهم الفريدة، وباحتكاك الفكرين لطف الفكر اللاتينى وسما سموًا عظيمًا، ثم انشطر العالم الرومانى إلى شطرين: عاصمة أحدهما روما، وعاصمة الآخر بيزنطية، وقد زاد الاختلاف الدينى فى هذا التباعد: فمن الناحية الواحدة اليونان وتلاميذهم السلاف، ومن الناحية الأخرى اللاتين وتلاميذهم الجرمان والإنجلوقلتيين، ولم تتلاشَ اللغة اليونانية تمامًا بعد سقوط بيزنطية، بل ظل شعب الأقاليم يتكلم خلال القرون الوسطى لغة اصطلاحية مشتقة من اليونانية القديمة، ومن تلك اللغة الاصطلاحية اسْتُخْرِجَت اليونانية الحديثة.
أما اليونانية القديمة فقد دخلت فى عِدَاد اللغات الميتة منذ زمن طويل، ولا يعنى اليوم بدرسها إلا بعض العلماء، ويدرس مبادئها بعض الطلبة فى الجامعات الكبرى. وقد قل الذين يجيدونها بين الأكليروس اليونانى على استعمالها فى الطقوس الدينية.
عند اللاتين
يبتدئ التاريخ الرومانى بدور هو أقرب إلى الأساطير المبتدعة منه إلى الحقائق التاريخية الراهنة، ويخمن المؤرخون تتابع ملوك سبعة، ملكوا فى خلاله من عام ٧٥٤ إلى عام ٥١٠ قبل الميلاد، وفى ٥١٠ أعلنت الجمهورية فى روما، وقد أدى ذلك بالأمة إلى إيجاد نظامات جديدة كالقنصلية والتشريع، وإضافتها إلى ما كان عندها من نظامات سابقة كطبقة الأشراف وامتيازاتها، وجمعية المقاطعات، ومجلس الشيوخ... إلخ، وعقب الانقلاب منازعة طويلة بين الأشراف والعوام لم تنتهِ إلا بفتح أبواب التشريع للشعب.
ولما اتحدت كلمة روما وملكت أمرها فى الداخل، كبرت مطامعها فى الاستيلاء على أنحاء جديدة، ففتحت جميع جهات إيطاليا، وزحفت إلى الشرق فهدمت قرطاجنة العظيمة، وحولت بلاد الإغريق إلى إقليم لاتينى، غير أنها رحبت بالنفوذ الفكرى من هؤلاء الإغريق الذين كان سيفها قد غزاهم. ولما عادت المنازعات الداخلية تُبلبل أحوال الجمهورية، تولى أكتافيوس إدارة شئون الدولة، فأصبح سيد العالم القديم، ونُوْدِىَ به إمبراطورًا باسم «أغسطس» يجمع فى يده كل اقتدار وسلطة وتشريع.
ثم انتقل الصولجان إلى القياصرة، ورغم ما تخلل أيام حكمهم من ثورات عسكرية فقد أصبحت روما بعد إخضاع الإغريق عاصمة الشرق والغرب فسُمِّيَتْ «سيدة العالم»، وتكاد تنحصر عظمتها الخطيرة فى القرون الأولى من عهد الإمبراطورية، لأنها كانت حقًا عاصمة العالم، إذ كانت دماغه المُفكِّر، وقلبه الخافق، ويده العاملة. وليس من مدينة أخرى، حتى ولا أنطاكية والإسكندرية لتقوى على منافستها وادعاء ما لها من الشأن والفخار.
وأصبحت النصرانية فى عهد قسطنطين «٣٠٦- ٣٣٧» دين روما الرسمى، وقد أخَّر حزم ذاك الإمبراطور، زمنًا، سقوط المدينة العظيمة، لكن الذين خلفوه هبطوا بها إلى دركات التقهقر والإهمال، فما مرت فترة حتى ثلمت أسوارها حرابُ الهاجمين واندكت جدرانها أمام غارات الفاتحين.
اللغة اللاتينية كاليونانية شعبة من شعب اللغات الهندية الأوروبية، وهى التى تكلمها جنود اللاتين والمستعمرون من الرومان، فحملوها إلى جميع أنحاء الدولة، ونشروها فى كل بلد فتحته جيوشهم، فتولدت منها اللغات اللاتينية الجديدة Néo latines كالفرنساوية، والبرفنسالية، والإسبانية، والبرتوغالية، والإيطالية، والرومانشية (واللادينية)، والرومانية Roumain. ويظن علماء اللغات أن هناك وسيطًا بين اللاتينية الأصلية واللغات الحديثة المشتقة منها، وهى اللغة الرومانية Langue romane المحضة، وهى شديدة الشبه بالفرنساوية والبروفنسالية.
سبق القول أن روما قبل أن تتأثر بالمدنية الإغريقية لم تكن على شىء من الآداب، إذ يتعذر إطلاق هذا الاسم على بعض الأناشيد الدينية، والنكات المبتذلة، وفن الإيماء أو التخييل Pantomime الذى كان يَطْرَب له اللاتين طربًا شديدًا.
على أن اختلاطهم باليونان بثَّ فيهم الميل إلى الاقتباس والاستيحاء والرغبة فى إيجاد الآداب الكتابية، فكان الشعر اللاتينى فى بادئ الأمر يحتذى الشعر اليونانى فى الأساليب والموضوعات، أو يكتفى بنقله إلى اللاتينية معنى ومبنى.
وكان المؤرخون أول الناثرين، وأشهرهم كاتو الرقيب الذى وضع تاريخ أمهات المدن الإيطالية، ووضع آخرون تواريخ عامة أو خاصة فى الشعوب اللاتينية، وهم فى الغالب يَتَحَدُّون مؤرخى الإغريق فى سياق الكلام وتصنيف الفصول وتبويب التآليف، وقد ظلت البلاغة اللاتينية على جفوة وحوشية مدة طويلة، فما إن استوحت الإغريق، حتى انقلبت فنًا مرنًا جزلًا استمر يصقل ويتكامل بفعل بيانهم، وكان نظام روما السياسى ملائمًا لفن الخطابة، إذ كانت أساليب الكلام متوافرة للمحامين والمتشرعين.
ولقد كانت بلاد اليونان مدرسة روما، لأن شبان اللاتين العازمين على الاشتغال بالمحاماة واعتلاء المنابر كانوا يقصدون إلى مدارس اليونان الكبرى لإتمام دروسهم وتثقيف مواهبهم، كما أن كثيرين من الإغريق كانوا يدرسون فى روما فن الخطابة والإلقاء. وتدل كتابات العهد المدعو «بعهد أغسطس» (أى آخر قرون الجمهورية) على أن المؤلفين كانوا مطلعين على أشهر مصنفات الإغريق من شعر ونثر، وأنهم يقلدونهم صراحًا، وفى مقدمتهم شيشرون العظيم تلميذ اليونان فى الخطابة والكتابة والفلسفة جميعًا، ومثله المؤرخون والشعراء على وجه خاص.
لكنَّ هذا لا يعنى أن الآداب اللاتينية حاشية معلقة على هامش الآداب اليونانية، بل كان لها طابعها الخاص، لأنها كانت أكثر من تلك امتزاجًا بالأحوال العمومية وأظهر لشئون الأمة، ذلك أن معظم الكُتَّاب من خطباء ومؤرخين وفلاسفة قاموا بأدوار سياسية، فكان لعلمهم وآرائهم وخبرتهم أثر فعال فى مصالح الدولة، وكفى أن يذكر منهم: شيشرون، وقيصر، وماركس أوريليوس، وتاشيتوس، وپلينوس الأول، وپلينوس الثانى، ليثبت لنا ما تقدم، ولما كانت الآداب اللاتينية ذات اتصال بالحركة السياسية كان اللاتين جاهلين اتباع الفن لذاته، الأمر الذى كان رائد اليونان فى معظم آدابهم وفنونهم.
فن اللاتين كآدابهم منقول عن الفن الإغريقى، إلا أنهما يختلفان فى أن الأول يُقلِّد الثانى بلا أمانة، ثم يخلطه بصنوف فنية أخرى، فيحرمه قالبه المجرد وبساطته الأنيقة. والزخارف القليلة التى كان يستعملها الإغريق بمنتهى التحفظ كان الرومان يغدقونها على أبنيتهم وصروحهم بلا حساب، بيد أن الآثار الرومانية إذا كانت دون الآثار اليونانية دقة وسذاجة، فهى لا تعدم عظمة وجلالًا يلقيان التهيب فى نفوس الناظرين.
وامتاز فن النحت فى روما بما لم يكن ليعنى به الإغريق كثيرًا، وهو تماثيل الأحياء، لأن من عادات الرومان قبل اتصالهم باليونان أنهم كانوا يحفظون فى منازلهم صور آبائهم وجدودهم، وكانت تلك الصور والتماثيل تصنع من الشمع أو الخشب، ثم تحسنت بانتعاش الفن فصارت تحفر فى الرخام. والرغبة فى التزلف إلى القياصرة وتملق الكبراء كانت تؤدى إلى الاهتمام بتماثيلهم ووضعها فى الأبنية العمومية وصروح الحكومة، ومن هنا تعدد التماثيل اللاتينية والباعث على إتقانها.
أما فى غير ذلك فقد قال الشاعر اللاتينى: «إن بلاد الإغريق المغلوبة أغارت على قاهرها» فاكتسحته فى دورها».
عند العرب
سقطت روما العظيمة، فتساءل العالم أى شعب قُدِّرَ له أن يحمل مصباح الحضارة باعثًا بأشعته إلى القارات الثلاث؟ فإذا بحركة جديدة تنشأ فى أرض بعيدة بين قوم جهلت أسماءهم سجلات التاريخ.
قضت مدنية الإغريق طفولتها فى حضن المدنية الفينيقية، ثم دفع اليونان الآسيويين عنهم فنَمَّت مدنيتهم وترعرعت فى أرض خصيبة، جميلة الموقع، معتدلة الهواء، عذبة الماء، ثم نسخ اللاتين مدنية الإغريق مكيِّفيها فى قالب يلائم سليقتهم، ويتمشى مع روح لغتهم، وقد كانت بلادهم فى منطقة تُسَهِّل لأهلها الانطلاق إلى الخارج وبسط سلطانهم على ما حولهم.
ولكن كيف تكونت المدنية العربية، وهى التى انبثق نورها الأول فى شبه الجزيرة، حيث تستعر الرمضاء ليل نهار؟
نعم، إن بعض الجهات الساحلية مثل: اليمن، والحجاز، وحضرموت كثيرة الخصب تنتج البن، والقطن، واللبان، والمُرَّ، والندَّ، والبلح، والموز، والمشمش، والحنطة، والذرة، والعدس، وقصب السكر، وشجر النارجيل «جوز الهند»، وأنواع الطيوب العربية على اختلافها. غير أنها بعيدة عن أوساط التمدن والعمران، بعيدة عن تأثير الإغريق ونفوذ الرومان، فأى سِرٍّ أوجد تلك الحضارة التى انتشرت بسرعة لم تظفر بها حضارة، فعبرت من قارة إلى قارة تحمل عزَّ العرب، باسطة تمدنهم على آسيا، وإفريقيا، وبعض أوروبا، جالبة ثروة، وعلمًا، وانتعاشًا، حيثما نشر القوم أعلامهم؟
تنتمى اللغة العربية إلى طائفة اللغات السامية، وهى ثالث فروع أصلية ثلاثة: الآرامية والكنعانية والعربية. فالآرامية تشمل الكلدانية والسريانية والآشورية «الميتة منذ زمن طويل»، وهى لغة عامية يقال إن السيد المسيح كان يخاطب بها تلاميذه. وتتكون الكنعانية من العبرانية والفينيقية. فالعبرانية لغة اليهود المقدسة، ومع أنها تختلف اليوم كثيرًا عن العبرانية الأصلية، فإنها ما زالت مستعملة عندهم فى الطقوس الدينية، ولهجة من الفينيقية «وهى البونيقية» استعملت مدة طويلة فى قرطاجنة وعلى شواطئ إسبانيا، ولها بالعبرانية قرابة لفظية شديدة.
أما العربية فتشمل العربية الفصحى ولهجات مختلفة تكلمتها القبائل القاطنة فى جنوب بلاد العرب وبلاد الحبشة وغيرها، وهى اللغة التى فازت بالبقاء، على حين أخواتها وبنات عمها طُوِيْنَ فى عالم النسيان منذ أمد مديد.
ظلت العربية منزوية إلى أواسط القرن السادس، فبرزت بغتة تتمتع بقوة بالغة أشدها، فما عرف لها التاريخ أدوار الطفولة والنمو، وذلك لا ينفى أنها قد تكونت فى زمن بعيد القدم، أو أنها قد تكون شعبة من لغة سامية سابقة فُقِدَت فى مجاهل التاريخ، لأن بعض خصائصها اللغوية «كجمع التكسير مثلًا» يميزها عن العبرية والآرامية، فيجعلها أشمل منهما للمعانى وأوفى للأغراض، ومن ذا الذى لم يسمع بغِنَاها فى المفردات والمرادفات؟ ذاك الغنى الذى يعد عجيبًا إذا ما قوبل بفقر اللغات السامية الأخرى.
بدت العربية فى القرن السادس لتكون لسان الحضارة الجديدة، فانطلقت من شبه الجزيرة تنقل إلى الأمصار القصية مفرداتها ومميزاتها، وجابت الأقطار ناشرة لهجاتها المختلفات من أطراف جزر الهند إلى أواسط القارة الإفريقية.
لم تقمْ سطوة العرب فى أيام مجدهم وعزيز الذكر المحفوظ لهم على فوزهم الحربى فحسب، بل الخلافة العربية مدينة بعظمتها للآداب والعلوم أكثر منها لمضاء السيف وتَعَدُّد الفتوحات.
ففى القرون السبعة الأولى التى بدأت بالدعوة إلى الإسلام والهجرة من المدينة «عام ٦٢٢ للميلاد»، وامتدت إلى القرن الثالث عشر، يشهد المؤرخون لمَدَنِيَّة من أعظم المَدَنِيَّات التى عُنِىَ بإثباتها تاريخ الآداب، فيها كان الشعراء والأدباء والعلماء والمؤرخون والفلكيون على اختلاف طبقاتهم ونحلهم يتسابقون إلى أصقاع أظلها العلم العربى، فصارت وجهة الطالب وكعبة الباحث. كانوا يذكرون حث النبى على طلب العلم، وقوله: إن الذى يسير فى سبيل طلبه إنما هو مسهل أمامه طريق الجنة. يذكرون ذلك فيتقاطرون من كل الأمصار من المغرب الأقصى والهند وجاوه والقوقاز وتركستان، فيقطعون البحار الواسعة، ويطوون الجبال والوهاد وراء القوافل الكبرى ووجهتهم المساجد الشهيرة فى مكة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة، لأن الجامع لم يكن مكان الصلاة فقط، بل كان «ومازال فى أكثر البلاد الإسلامية» مُلْتَقى العلماء ومجمع المتباحثين ومدرسة المتعلمين، فتقوم ثَمَّت المناظرات فى الموضوعات السياسية واللغوية والدينية.
لماذا تبقى العربية حية؟
مَن هو المنبه إلى تكوين هذه المَدَنِيَّة القومية؟
هو فتى كان بالأمس يقصد الشام فى عِير قريش للتجارة، وهو اليوم محمد النبى العربى ورسول المسلمين.
أما مصدر تلك الحضارة فهو القرآن.
لقد ذاع القرآن بسرعة لم يظفر بها كتاب قبله ولا بعده، ولم يقصر انتشاره على الشعوب التى نزل بينها وتوافقت تعاليمه ومدركاتها وطبيعتها، بل خضعت له بعدئذ أمم لها من حضارتها السحيقة ما قد كان يُعدُّ كافيًا للتَفَلُّت من سطوته ورفض الإذعان لأحكامه.
ولقد أوجد القرآن دينًا عربيًا، ودولة عربية، وأحكامًا عربية، وآدابًا عربية، صارت كلها أجزاء قومية واحدة ربطت شعوبًا لم تكن العربية لغتها، لذلك قال جماعة من المؤرخين: إن التمدن العربى كان تمدنًا إسلاميًا صرفًا.
والقرآن مصدر جميع العلوم التى عُنِىَ بها المسلمون فى أوج حضارتهم، فلتفسير آياته وسوره وجدت علوم الكلام وعلوم المنطق، ولتفهُّم ما فيه من نظام وتشريع وُجدت علوم الشرع والفقه، ولم تكن غاية المؤرخين الأولين من العرب إلا تحديد وقت نزوله وتدوين الأحاديث النبوية.
ثم أليس الجغرافيون الأوَُل أو علماء المسالك والأمصار، هم الذين مضوا من أقاصى إفريقيا وآسيا لتأدية فريضة الحج، ثم عادوا يصفون رحتلهم وما رأوه فى البلاد البعيدة من الجديد غير المألوف؟ ألم يكن غرض علماء اللغة إيضاح ما غمض من آى القرآن وتطبيق قواعد الصرف والنحو على نصوصه؟ ألم تطلب أرصاد الفلكيين وعمليات الرياضيين لتحديد ساعات الصلاة وتوقيت مواعد الحج والصوم؟ ألم تستدعِ مسائل الوقاية الصحية والنظافة اهتمام الأطباء كما ظلت بعد تحثهم على البحث والتنقيب؟
نعم، لم يهتم العرب فى ذلك الدور بعلم من العلوم إلا لأن آيات القرآن قضت بمعرفته لاجتلاء معنى غامض، أو شرح قول مستغلق. ومذاهب علماء الكلام هى التى نبهت أبحاث الفلاسفة ومناظراتهم، فكانوا بما نقلوا وما أوجدوا أساتذة الفلسفة الحديثة.
سبق القول أن قد اشترك مع العربية لغتان أخريان بكونهما قوميتين نشرتا عقيدة دينية ومذهبًا سياسيًا بين شعوب مختلفة أى: اليونانية واللاتينية، فقد كانت اللاتينية مُستعمَلة من كمبانيا فى إيطاليا الجنوبية إلى الجزر البريطانية، ومن نهر الرين إلى جبل الأطلس. واستعملت اليونانية من أقاصى صقلية إلى شاطئ دجلة والفرات، ومن البحر الأسود إلى تخوم الحبشة. لكن ما أضيقه انتشارًا إذا ما قوبل بانتشار العربية التى امتدت إلى إسبانيا وإفريقيا حتى خط الاستواء، وجنوب آسيا وشمالها إلى ما وراء بلاد التتر! أما اللغة الفصحى فقد استولت على جميع أنحاء الشرق الإسلامى، وإن لم تكن لها الغلبة كلغة كلامية على بعض اللغات فى الشرق والشمال، فقد أوجدت تبديلًا محسوسًا فى الفارسية، والهندية، والهندستانية، والتركية، ولغات إفريقيا، ولهجات التتر. كذلك فى اللغات الحديثة المشتقة من اللاتينية أو المقتبسات منها، كلمات كثيرة ذات أصل عربى.
لقد عُدَّت اليونانية واللاتينية فى صف اللغات الميتة منذ سقوط مدنيتيهما، فما الذى حفظ العربية حيَّة بعد زوال مدنية العرب بقرون سبعة؟
إن الذى كان باعثًا على تكوين المدنية العربية هو الذى ما زال حافظها إلى اليوم: هو القرآن.
لذلك ستظل اللغة العربية حية ما دام الإسلام حيًا، وما دام فى أنحاء المسكونة ثلاثمائة مليون من البشر يضعون يدهم على القرآن حين يقسمون.
من كتاب مى زيادة «بين الجزر والمد»