حكاية «البقاء لله».. محاولات الحركات الإسلامية لتغيير العقل الجمعى والسيطرة على منابعه
في تشريحه وتفسيره لبعض الظواهر الاجتماعية، التي ظهرت في المجتمع المصري خلال العقود الأربعة الماضية، قال الدكتور سعيد المصري، الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة، خلال تدوينة له عبر حسابه الشخصي بفيسبوك: حكاية « البقاء لله» البقية في حياتك، حياتك الباقية، عبارتان شائعتان في الثقافة الشعبية يتم تداولهما في الحداد عند تلقي العزاء.
وتابع "المصري": ولأن الدين حاضر بقوة عند الموت، فإن كل المتدينين يستهجنون استخدام هذا النوع من العبارات، ولهذا لم تعد هذه الصيغة التقليدية مستخدمة في كثير من المجتمعات العربية، خاصة في ظل انتشار المد الديني بقوة تحت تأثير الحركات الإسلامية، وحلت محل العبارات الشعبية المتداولة عبارات أخري دينية من قبيل: "البقاء لله "، و"عظم الله أجركم"، و"مأجورين".. إلخ على اعتبار أن البقاء لله وحده، وكما يقول المتدينون الإسلاميون إن تعبير «البقية في حياتك» ينطوي على شرك بالله!
وأوضح أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب بجامعة القاهرة: "ومن يتأمل رؤية العالم لدى كثير من الناس على اختلاف مواقفهم من الدين سوف يجد أن رؤاهم للحياة تنطوي على ثلاثة جوانب يشتركون فيها وهي: أولًا: أنهم يدركون حقيقة الموت وحتميته في الحياة، ثانيًا: أنهم يخشون من الموت صراحة أو ضمنًا مهما صرحوا بغير ذلك، ثالثًا أنهم يتمنون، في قرارة أنفسهم البقاء، ويتطلعون إلى أن تستمر بهم رحلة الحياة أطول فترة ممكنة إلى حين، مع يقينهم بأن الحياة مهما طالت فإنها سوف تنتهي.
وأضاف أن هذا يفسر سعي كثير من الناس في حياتهم إلى الخلود الرمزي بأن تظل ذكرى الميت حاضرة لا تموت مع الزمن، وهذا واضح في معاني العزوة والعائلية والقبلية والمجد الشخصي والشهرة حتى بعد موت الشخص وفناء جسده، ومن ثم فإن كلمة البقاء في ثقافتنا الشعبية لا تعني الأبدية - كما فهمها الإسلاميون، وإنما تعني طول أمد الحياة، على اعتبار أن الحياة ما هي إلا بقاء لمدد محددة تختلف من شخص لآخر، وحين نحيا فإننا ننعم بقدر أو نصيب من البقاء، وأن التطلع الى مزيد من الحياة يعني تمني أن يمتد بنا العمر لفترة أطول من الزمن، وهذا ما تنطوي عليه عبارة «البقية في حياتك» باعتبارها دعاء وأمنية للشخص بأن يطيل الله في عمره، وأن يعوضه عما فقد من عزيز عليه بأن ينعم عليه بالحياة فيما تبقى له من عمر؛ ونظرًا لأن قواعد التبادل الاجتماعي في الحياة اليومية تستوجب على الشخص الذي يتلقى التحية أو الهدية أو الدعاء أو العزاء بأن يرد بأحسن منها لكي تستمر وتتعمق الروابط الاجتماعية، فإن الذي يتلقى العزاء يرد على المعزي له بأفضل عبارات التعزية بالقول: «حياتك الباقية» بمعنى أنه يتمنى أن يحظى الشخص المعزي بنعمة البقاء، أي طول العمر.
ولفت أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية سعيد المصري إلى أنه: لقد تغيرت عبارات التعزية التقليدية وأصبحت ذات طابع إسلامي، واستغرقت عملية محو هذه العبارات التقليدية من التراث الشعبي قرابة ثلاثة عقود من الزمن دون أن تغير كثيرًا من رؤي العالم لدى كثير من الناس.
وأشار إلى أن التغير الذي حدث يبرهن على أن صراع الحركات الإسلامية في تغيير المجتمع لم يكن قاصرًا على تغيير القاموس اللغوي في ذاته بقدر ما كان يستهدف تغيير العقل الجمعي بالسيطرة على منابعه داخل الذاكرة الجمعية، وتم ذلك في إطار سعي الحركات الإسلامية الدؤوب لاستعادة ما يطلق عليه «المجتمع الإسلامي المتخيل» الذي كان سائدًا في عصر النبوة.
والمثير للتأمل أن الحركات الإسلامية التي بدأ نموها في السبعينيات من القرن الماضي انحسرت الآن وتقلص وجودها في المجال العام إلي حد كبير، ومع ذلك بقي تأثيرها في قلب المؤسسات الدينية الرسمية، بحيث اذا أردت تقديم واجب العزاء لأحد شيوخ الأزهر أو الأوقاف أو الإفتاء وقلت له: «البقية في حياتك يا شيخنا» سوف يرد عليك غاضبًا بامتعاض: « البقاء والدوام لله يا أخي في الله».