أحمد صبرى أبو الفتوح: الجميع يكتبون الرواية الموهوبين وقليلو الموهبة (حوار)
أحمد صبري أبو الفتوح، الروائي الكبير في الجزء الثاني من حواره لــ “الدستور”، يقدم شهادته للتاريخ حول الكثير من القضايا الساخنة على الساحة الثقافية المصرية والعربية.
فمن أزمة النقد وهل هي موجودة بالفعل وحقيقية، مرورا بموضات الكتابة، وانتشار ورواج الرواية التاريخية، وحول دخول الكثيرين إلي مجال كتابة الرواية، وأسباب جاذبيتها. يكشف صاحب “ملحمة السراسوة”، و"تاريخ آخر للحزن"، و"أجندة سيد الأهل"، و"برسكال"، رؤيته لأهم قضايا الساحة الثقافية.
ــ موت نجيب محفوظ قلب موازين الأدب
ــ هناك أزمة نقد حادة وهو ما خلق حالة من الاجتراء على الكتابة
ــ بعد رحيل "محفوظ" تصور النقاد أن بأيديهم سلطات المنع والمنح
ــ الكتابة ليست موضة يخترعها مصممو الأزياء بل هى انعكاس للمجتمع وروحه
ــ هل تعاني الساحة الثقافية المصرية من أزمة نقد خاصة مع زيادة المنتج الأدبي؟
* هذه شهادة للتاريخ، البعض من الكتاب عندما تضيق به الحال يتجه بضيقه إلى شيخنا طيب الذكر الأستاذ نجيب محفوظ، كأنه هو من يقف فى طريق صعودهم، ووصل الأمر إلى أن أحد الكتاب الذين يكتبون كتابة لا أعتبرها نصا فى الرواية ولا في أقسام الأدب المعتبرة قارن بين نفسه وبين نجيب محفوظ، وانتصر لنفسه، وهناك كاتب ثان يصب جام غضبه ليل نهار على الرجل، وهناك غيره وغيره وغيره، وهى حملة ليست ممنهجة فى الحقيقة، ولكنها لا تثير إلا حمية قليلى الموهبة، الذين يؤذيهم رؤية الجبل الأشم فيدركون أنه لن يمكنهم أبدا ارتقاءه، وأسهل ما يفعلونه بعقولهم القاصرة ومواهبهم الضعيفة هو أن يحاولوا إزاحة الجبل، ينطحون الصخر، ليس معنى هذا أن أدب نجيب محفوظ محصن ضد الانتقاد، حاشا وكلا، فالكاتب الحي بأدبه يظل دائما عرضة لإعادة التقييم والقراءة ما بقى حيا، ولكن الاجتراء والعيب شىء، وإعادة التقييم شىء آخر.
وأنا أقدم بهذا القول لأقول إن موت نجيب محفوظ قلب موازين الأدب، الطبيعي أن النقد يتبع الإبداع، يقرأه ويفسره ويرده إلى أصله ومصادر رؤيته ويبين مناطق الجمال فيه ومناطق الضعف وغيرها، فى وجود نجيب محفوظ كان النقاد مهما علا قدرهم يتبعون إبداعه، ليست تبعية قيمية، ولكن تبعية منطقية تراتبية، فنقد الأدب لا يمكن أن يمارس دوره بدون وجود الأدب، ولهذا كان الإبداع ومحفوظ على قيد الحياة هو القاطرة التى تجر من خلفها النقد ومختلف الفنون الأخرى كالترجمة والمسرح والسينما والدراما التليفزيونية والإذاعية وغيرها، كان نجيب محفوظ بقدره المهيب وعبقريته الفريدة ودوره الرائد فى تطوير الرواية العربية لتلحق بركب الرواية الغربية هو القاطرة، والنقاد يعملون على أدبه ويستخرجون منه الطرائق المستحدثة فى السرد والواقعية التى ابتدعها ابتداعا ليطلعنا على روح الشعب الجبارة.
بعد رحيل نجيب محفوظ تأله بعض النقاد، ووصل بهم الغرور إلى درجة أنهم تصوروا أن بأيديهم سلطات المنع والمنح، يكتب عن الكاتب فلان فيرفعه للسماء ويتجاهل الكاتب علان ويحارب ظهوره ووجوده ويحاصر فنه فيخسف به الأرض، هذا فضلا عن أن هؤلاء النقاد الكبار منهم من كان يرعى مؤسسة الفساد الثقافى حتى آخر نفس فى عمره ومنهم من لا يزال يدب فى الأرض إفسادا للذائقة بالجرى وراء التغريب والتشويه الثقافى باعتبار أن تيارات ما بعد الحداثة بما تعنيه من نسف كل الأنساق التى نعرفها عن الأدب العظيم والدخول فى تيارات تتعامل مع اللغة لا باعتبارها وسيلة لتوصيل المعنى ولكن كهدف فى حدا ذاته وإنكار كل القيم السائدة أو المستقرة أو المتعارف عليها، بدعاوى التشظى والتفكيك وغيرها من الأباطيل التى تمسخ الأدب بشكل عام والرواية بشكل خاص.
إن وهم ريادة النقد للواقع الأدبى هو السبب فيما نحن فيه، حتى لكأن النقاد هم من يضعون شروط الكتابة ومناهجها وعلى الأدباء أن يتبعوا هذه الشروط حتى يعترف بهم من قبل هؤلاء، وقد امتهن النقد الأدبى كل عاطل وجاء من صفوف الدرس فى الجامعات من يحصى الأفعال ويعدها ويحصى الكلمات ويعتبر أن هذا من النقد، نعم يا عزيزتى، هناك أزمة نقد حادة، وهو ما خلق حالة من الاجتراء على الكتابة بشكل عام وعلى كتابة الرواية على نحو خاص، ففى النهاية ليست هنالك مرجعية يرجع إليها للقول بأن هذا فن روائى أو قصصى أو سردى بشكل عام أم لا، فكتب الجميع الرواية، وكل من مر بأحداث ولو كانت شائهة يكتبها على إنها رواية، كأن الرواية ليست فنا وعلما له تاريخه وتطوره وقواعده وقوانينه، وأنا بصدد إعداد كتاب عن هذا أسميته محنة الرواية وأدعو الله أن أتمكن من إنجازه، لكننى أتحفظ، فلا يزال هناك نقاد كبار يهتمون بالأدب العظيم والأدب الجيد ويحاولون أن ينقوا الساحة من ضجيج الافتعال الأدبى، وأضرب مثلا بالناقد الكبير الدكتور يسرى عبد الله والشاعرة الكبيرة والناقدة وأيضا الروائية الدكتورة فاطمة قنديل، وطبعا غيرهما كثيرون وأعتذر عن عدم ذكرهم جميعا .
ــ شهد العقدان الأخيران من الألفية الثانية انتشارا ورواجا ملحوظا لفن الرواية. هل تري أن الرواية صارت ديوان العرب المعاصر؟
* الرواية ليست منتشرة فقط ورائجة فى المنطقة العربية، إنها كذلك فى العالم كله، ولا أريد أن يفهم أحد خطأ أننى أهاجم أحدا بعينه، لكنه منذ كتب أمبرتو إيكو إسم الوردة وألح النقاد على أنها هى النموذج للرواية الجديدة واتهام كل من لم يستسغها بالجهل أو بنقص الذائقة، وكذلك ما كتب ميلان كونديرا الذى كتب كتابا عظيما عن فن الرواية لكن رواياته ليست بالقدر الذى يكتبونه عنها، وما تبعها وسبقها من أعمال توضع لقراءتها خرائط ونصائح لقراءة العمل كرواية لعبة الحجلة مثلا، بأن تبدأ بالفصل 23 مثلا ثم يتلوه الفصل 4 وهكذا، منذ فعل هؤلاء الباحثون هذا وهم ليسوا كتاب رواية فى الأساس.
وأنا أعتبر أن الرواية فى محنة، وأن الفن الروائى يتعرض لمؤامرة كبيرة للعبث به كما حدث للمسرح، الذى ما أن انساقوا وراء التجريب فيه حتى خربوه تخريبا، الرواية يا سيدتى هى ديوان العالم المعاصر، إنها تتحمل أن يكون ضمن نسيجها الشعر والحوار والمشهديات وحتى المقال، ربما لهذا هى الآن الفن الأبرز فى الكتابة الأدبية، وأنا أقرك على أن الألفية الثالثة شهدت ولا تزال تشهد انفجارا فى كتابة الرواية، يكتبها الموهوبون وقليلو الموهبة، وإذا كان المعيار هو الجوائز، فهؤلاء المديوكرز يعرفون كيف يحصلون عليها، كما قال صديقى الكاتب الكبير، الذى يريد جائزة لا ينام، يتصل بهذا وذاك ويستعين بهذا وذاك حتى يفوز بها، إن المشاجرة الفضيحة التى واكبت الإعلان عن جائزة البوكر هذا العام تقطع بأن الهوان قد وصل إلى أقصى درجاته.
ـ ما رأيك في "موضة" القراءة والكتابة٬ بمعنى في فترة ما سادت وانتشرت روايات الرعب٬ وفي فترة لاحقة ظهرت الروايات التاريخية بكثافة٬ هل توقفت عند هذه الظاهرة وكيف تحللها؟
* الرواية انعكاس للحالة المجتمعية بكل مكوناتها، وهى إن لم تعبر عن هذا أو تتناوله لا تستحق أن تسمى رواية، روايات الرعب تقليد لمنتج غربى كان ولا يزال موجودا، ليس لأنه سائد، ولكن لأنه نوع من الكتابة لم ينقرض، وله قراؤه، ولكنه ليس أدبا كبيرا، وهو كمسلسلات الصابون مرهون بوقته، لا يبقى منه كعيون للأدب إلا النذر اليسير، أما الرواية التاريخية فأنا لا أعرف ما تقصدين، هل تقصدين الرواية التاريخية بمعناها القديم، أى الكتابة عن حادثات وشخصيات تاريخية، أم تقصدين استلهام التاريخ فى الكتابة كأن يكتب الروائى عملا يجرى فى فترات تاريخية سابقة، أم تقصدين كتابة الروايات التى تتبع تاريخ أسرة معينة أو جماعة بعينها، كما فى الخماسية الروائية "ملحمة السراسوة"، على كل فإن استلهام التاريخ فى الكتابة الروائية كان ولا يزال له أسبابه، ففى الفترة التى تخلت فيها مصر عن سياسة الاستقلال الوطني وتبعت الولايات المتحدة الأمريكية حدثت هزة كبيرة انعكست فى صورة ضياع أو شحوب الهوية لدى قطاعات كبيرة من الشعب، ولأن الأدب مرآة مجتمعه كتب الروائيون مستلهمين التاريخ، كأنهم يعيدون التأكيد على الهوية، فالكتابة ليست موضة يخترعها مصممو الأزياء، بل هى انعكاس للمجتمع وروحه وقلقه وافتقاره إلى ثوابت يعيد بها يقينه إلى هويته.