صبري أبو الفتوح: «السي آي إيه» أحيت جماعة الإخوان لتقويض المشروع التحرري
أحمد صبري أبو الفتوح، صاحب ملحمة السراسوة، محام تألق في عالم الرواية، يفتح خزائن أسراره للدستور، يحدثنا عن المحاماة والأدب، الجوائز، علاقة الشرق بالغرب التي تناولها في روايته الأخيرة “حكايات من جنازة بوتشي”.
يتطرق “أبو الفتوح” أيضا للشخصية المصرية، والخيال الأدبي في ظل ما يعيشه العالم من أوبئة وحروب وعنف مجتمعي.
ــ ما بين المحاماة والأدب، أيهما تجد نفسك أكثر؟
العمل القضائى بشكل عام، سواء كان القاضى فيه جالسا أو واقفا أعنى سواء كان قاضيا يجلس على المنصة أو واقفا وأعنى الدفاع الذى اصطلح على تسميته بالقضاء الواقف، العمل القضائى من الأعمال المفيدة والمحفزة للإبداع الأدبى، بالطبع لمن هو صاحب موهبة، كافكا كان محاميا، فالدكتور محمد حسين هيكل كان محاميا، ويحيى حقى وتوفيق الحكيم عملا فى النيابة والآن هناك لفيف من رجال القانون يكتبون أعمالا جيدة، ومارست العمل القضائى بنوعيه الجالس والواقف، ولا تنافس بين المحاماة والأدب فى داخلى، إن شئت أن تطلقى عليه مسمى حقيقيا فليكن التكامل، نعم، المحاماة - التخصص الجنائى بالذات - أمارسها بروح وعقل الأديب، ونظرته الشاملة، وحسه الإنسانى، والأدب أكتبه مسلحا بخبرات عميقة عن النفس البشرية والسلوك الإنسانى، النفس فى أعقد حالاتها، فى أزمتها الوجودية، والسلوك الإنسانى الخارج عن القانون، والذى نطلق عليه وصف الجريمة، فى الحقيقة أنا أجد نفسى فى المجالين وكلاهما يكمل الآخر ويعمق أثره
ــ روايتك الأخيرة ”حكايات من جنازة بوتشي“ تبدو ملامح علاقة الشرق بالغرب من خلال بطلها الدكتور جاك شهاب الدين وزوجته جويندلين. فهل مازالت هذه العلاقة مع الآخر والنظرة إليه غامضة ؟
أعتقد أن المسألة أصبحت أكثر تعقيدا من ذى قبل، فقبل ستة عقود أو سبعة كانت مشكلات العلاقة بين الشرق والغرب واضحة ومعروفة، فالغرب استطاع مبكرا أن يفلت من ربقة التسلط باسم الدين، وابتدع العلمانية ليفصل بين هذا التسلط وبين الحياة فى مناحيها الاجتماعية بشكل عام، الفكرية والسياسية والاقتصادية، وكذلك فى مفهوم التساوى فى الحقوق وكفالة الحريات بكافة أنواعها، ونتج عن هذا الانعتاق من ربقة التدين بمعناه التسلطى أن توسع المفكرون فى مفهوم الحرية والفردانية، حتى وصلوا إلى ذرى صادمة للشرق، ألا وهى حرية الإنسان فى معتقده وفى جسده، وبعد الانتصار الساحق للرأسمالية وسيادة الليبرالية الجديدة ومن ثم العولمة حدث خلط كبير أدى إلى زيادة التوتر بين المعسكرين، صحيح أن هناك شعوبا شرقية ربما تكون قد خرجت من مفهوم الشرق بمعناه التاريخى، كاليابان وكوريا الجنوبية مثلا، لكن الشرق فى مواجهة كوارث العولمة ونتائجها تمحور حول معتقداته دفاعا عن نفسه، وتمحور المسلمون حول معتقداتهم وراحوا ينشرونها باستخدام العنف، بحجة منع انزلاق شعوبهم إلى الهاوية، وللأسف فإن الغرب الغير مخلص لفكرة العولمة؛ والذى لا يراها إلا طريقا جديدا للاستعمار وفرض السيادة ونهب الخيرات كان له أكبر الأثر فى خلق وتزكية تيارات التطرف الدينى والعنف باسم الدين هذه حتى لا تستطيع شعوب الشرق - ومنها الشعب العربى بالتحديد - أن يكتشف هويته الحقيقية بعيدا عن التطرف من جهة والانسحاق باسم العولمة من جهة أخرى، نعم، العلاقة مع الغرب لا تزال متوترة، بل هى الآن أكثر توترا، ونظرة الشرق العربى بالذات إلى الغرب يشوبها الآن التوجس والخوف.
ــ تطرقت في حكايات من جنازة بوتشي إلي تغير الشخصية المصرية وميلها إلي التشدد، كيف السبيل لإصلاح ما فسد في الشخصية؟
* سبب تغير الشخصية المصرية المؤامرة، بمسمى آخر الخيانة، فمنذ أحست مصر بهويتها فى ثورة عرابى ثم بلورة هذه الهوية فى ثورة 19 والانطلاق نحو مفهوم تحررى متصاعد لمفهوم الوطنية وختاما بثورة 23 يوليو التى هى أرقى مراحل الثورة الوطنية تبلور مشروع وطنى تحررى تقدمى انتظم كل فئات المجتمع وجوانبه، وكذلك اكتشاف حدود الأمن القومى المصرى وعلاقة مصر بمحيطها العربى والإسلامى والإفريقى وصولا إلى تكامل النظرة نحو العالم أجمع، ونحن فى خضم هذا الطريق المتصاعد إذا بالثورة المضادة تنكفئ على كل ذلك، وتقضى على استقلال القرار الوطنى، بقبول التبعية للغرب وللولايات المتحدة بالتحديد، وفى نفس الوقت إحياء جماعة الأخوان بتحريض من السى آى إيه لتقويض المشروع التحررى التقدمى، كذلك فتح الباب أمام الفكر الوهابى السلفى ليعيث فسادا فى ربوع مصر وفى عقلها الذى كان فى طريقه إلى تمام الرشد، هذه المؤامرة أدت إلى تغير الشخصية المصرية وجعلها متشددة وليس فقط تميل إلى التشدد، غلق كل منافذ الحياة أمام التطرف، وطرد الفكر السلفى الوهابى من ربوع الوطن، وتطهير مؤسسات الدولة والثقافة والاقتصاد والتعليم والقضاء من هذا الفكر، وإطلاق يد المثقفين الوطنيين فى مهمة تشكيل العقل من جديد، وكذلك كفالة الحريات الأساسية التى لا يمكن لمجتمع أن يرقى بدونها، كحرية الفكر والاعتقاد وحرية القول وحرية التنظيم وحرية الانتقاد وحرية التنقل، وغيرها من الحريات الاجتماعية والسياسية، وكذلك كفالة الحد الأدنى من الحقوق الاجتماعية والسياسية، لأن مناخ الحرية وكفالة الحقوق الأساسية هو السبيل الوحيد لنجاح أى إصلاح لما تقولين إنه فساد فى الشخصية المصرية.
ــ ما بين حروب عالمية وأوبئة وعنف مجتمعي يعيش العالم، في رأيك كيف يؤثر هذا علي المبدع وإنتاجه ؟
* السنوات القليلة الأخيرة حملت ولا تزال تحمل كل آثار الحرب التى تخوضها الرأسمالية العالمية للحفاظ على هيمنتها على العالم ومنع صعود أية قوى قد تنازعها هذه الهيمنة، كصعود روسيا والصين والهند مثلا، وأنا لا أستبعد، بل أرجح أن يكون وباء كورونا جزءا من هذه الحرب فالكثير من المؤشرات تقول إن هذا الفيروس اللعين من إنتاج المعامل الأمريكية، وقد حصدت شركات صنع الدواء الأمريكية من وراء هذا الوباء مئات المليارات حصيلة بيع الأدوية واللقاحات، وحتى من قبل أن تندلع الحرب بين روسيا وأوكرانيا قسمت الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها القطب الوحيد المهيمن العالم إلى قسمين، أمريكا وأوروبا والمتحالفون معهم فى جانب، وروسيا والصين ومن لا يعترف بالقطبية الواحدة لأمريكا أو تتعارض مصالحه معها فى جانب، ونتيجة لهذا انساقت أوروبا وراء أمريكا فى عدم الاعتراف باللقاحات الروسية والصينية ومنع كل من لا يلقح باللقاحات الأمريكية من دخول أوروبا الغربية وأمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلاندا وغيرها من البلاد المتحالفة مع أمريكا، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترض كثيرا عن نتائج هذه التفرقة فأشعلت الحرب فى أوكرانيا، وها هى تحاول أن تشعل الحرب فى تايوان، وأنا على يقين من أنها ستخرج من حرب العقوبات والحروب الدموية الأخرى خاسرة، وهذا ليس له فى تقديرى إلا توصيف واحد، وهو أن العالم الذى نعيشه الآن، أقصد عالم النيوليبرالية والرأسمالية الفجة الفاجرة والعولمة بمعناها الغربى، هذا العالم فقد خجله، فقد حياءه، فقد إنسانيته، وهذا هو التحدى أمام أى مبدع حقيقى، نعم، فكما قال صديقى الشاعر الكبير سمير الأمير مؤخرا، يستطيع الشاعر الموهوب أن يكتب قصيدة رائعة فى الوردة، لكنها لن تعد كذلك لأنه وهو يكتبها تعامى عن الجرائم ضد الإنسانية التى تحدث فى فلسطين المحتلة وفى غيرها من البلدان التى دمرتها وتدمرها المؤامرة، وكذلك المبدع الروائى، إن لم يلتفت إلى فجاجة العالم وانعدام خجله وخلل بنيته فإنه لن يبدع رواية فذة، أعتقد أن فى المآسى التى نعيشها الآن كل ما يكفى لإبداع أدب عظيم، وستكون عظمته أكثر فى تعبيره عن الآلام والأحزان والمظالم التى توشك أن تعم وجه الأرض، ولا أستبعد أبدا أن يرى الكاتب الحقيقى النور يظهر فى نهاية النفق.
-في ”ملحمة السراسوة“، تتبع لعدة أجيال في عائلة واحدة، فهل تعتبر رصد لتغيرات المجتمع المصري ؟
* الأدب بما يرصده من تغيرات اجتماعية وما يبلوره من تطور اجتماعى هو أحد روافد كتابة التاريخ، لقد اتفق العلماء على الاعتراف بالأدب كمصدر من مصادر التاريخ، ودعينا نعترف أيضا أن الرواية المصرية ومن ثم العربية اختزلت مراحل الرواية فى المائة عام الأخيرة حتى تستطيع أن تواكب الرواية الغربية، فالحداثة التى ظهرت فى أوروبا منذ ثلاثة قرون وتزيد عمرها عندنا لا يتجاوز السبعين او الثمانين سنة، وتطور الرواية بمراحلها المختلفة فى أوروبا استغرق أكثر من أربعة قرون، بينما فى مصر والعالم العربى لم يبلغ مائة سنة، طبعا أنا أتحدث عن الرواية الحديثة، وليس سير الأبطال والكتابات التى تتعلق بالأساطير وغيرها، ونتيجة لهذا الاختزال والاختصار والسباق مع الزمن لم يعرف الأدب العربى الكثير من الروايات الملحمية التى تتحدث عن أجيال متعاقبة وصراعات كبيرة، والسراسوة هى رواية ملحمية عن أجيال متعاقبة انتظمت تاريخ مصر الحديثة، رصدت فى طريقها تغيرات هذا المجتمع وقدمت للقارئ المصرى والعربى شخصيات من لحم ودم هم نتاج كل مرحلة عاشوا فيها، فكروا بمنطقها وعبروا عنها، وأظن أنها نجحت فى أن تكون إضافة فى هذا المجال.
ــ نلت عن رواية ”الخروج“ جائزة ساويرس، كيف تري الجوائز الأدبية؟
* لا أريد أن أتحدث عن محنة الجوائز فى مصر والمنطقة العربية، فالكاتب إذا أراد الفوز بجائزة عليه أن يتنازل عن جزء كبير من اعتباره، إن لم يكن اعتباره كله، وعليه أن ينسى قيمته كمبدع، ويبدأ فى الاتصال بهذا أو ذاك، بعد أن يعس ليعرف أسماء المحكمين، وفى هذه الحالة تفيد جدا حكاية الشلل الأدبية، فهم يساعدون بعضهم البعض فى الوصول إلى الجوائز، فضلا عن تسييس بعض الجوائز أو معظمها، ويا ويلك لو أنك كاتب لا تتبع أيديولوجيا أصحاب الجائزة أو المتحكمين فيها، حتى جائزة البوكر، وقد نصحنى الكاتب الكبير المرحوم خيرى شلبى وأنا فى الخمسين من العمر أن أتقدم لنيل جائزة الدولة التشجيعية، مبررا ذلك بأن طريق نيل جوائز الدولة فى مصر له سلم لا بد من صعوده درجة بعد درجة، فقلت بسذاجة: أتقدم للتشجيعية وأنا فى الخمسين؟ فقال: اركب الطريق حتى تصل، والآن أنا أرى أن أحد أصدقائى من الكتاب قد حصل على كل الجوائز بالتراتب الذى ذكرته لك الآن، نعم، حصلت الرواية الأولى من السراسوة وهى الخروج على جائزة ساويرس الأدبية، بتقدير لم تنله رواية أخرى، ولكن يكفى أن تعلمى أننى برغم كونى من أوائل من نالوا هذه الجائزة لم أدع مرة واحدة لحضور احتفالات الجائزة فى السنوات اللاحقة، من 2010 وحتى الآن، فهل هذا طبيعى؟.