محمد أبو الفضل: حفلات الإنشاد والسير الشعبية أثرت كثيرًا في شخصيتي.. وهذه تفاصيل علاقتي بأمل دنقل والأبنودي (حوار)
حالة من الترحيب والتهليل بعد فوز الدكتور محمد أبو الفضل بدران الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة بجائزة الدولة التقديرية في الآداب، وهو القرار الذي صادف فرحة كبيرة في نفوس المتابعين للثقافة المصرية لما لبدران من باع كبير في الأدب والنقد..
“الدستور” توجهت للدكتور محمد أبوالفضل بدران والذي تحدث عن نشأته وتأثير السّير الشعبية والتصوف في نفسه، وكيف كانا رافدين مهمين له بعد ذلك؟ كما تطرق لرؤيته للتراث الشعبي وغير ذلك..
كيف ترى فوزك بالتقديرية وما الذي تمثله لك في هذه الفترة من حياتك؟
الجائزة تمثل تكريم الدولة المصرية التي أفخر بها كواحد من أبنائها، وهذا شرف وحافز كبير جدًا أيضًا لإكمال مسيرة الأدب والنقد والعلم، لأن المرء دائما ما يشق طريقه في التعليم إلى آخر الدرب، هذا من جانب والجانب الآخر هو أنني أرى أنها تمثل جيلًا كاملًا، هذا الجيل كان جديرًا بالتقدير، ولذلك أنا أمنح هذه الجائزة الى كل أبناء جيلي وأساتذتي الذين أرى أنهم أحق بها مني.
هناك رافدان لأهل الجنوب هما الصوفية وحفلات الإنشاد والسير الشعبية.. كيف ترى هذا وما تأثيرهما عليك؟
هل تتخيل أننا كنا محظوظين بعدم دخول الكهرباء في قريتنا في أيام الطفولة وليس معنى ذلك أنني أدعو الى عدم وجود الكهرباء، ولكني مازلت أتذكر عندما جلسنا في "الملقة" وهو تعريف لميدان القرية كما نطلق عليه، هو ميدان مهم جدًا وملتقى الناس في القرية عقب صلاة العصر وفي المساء أيضًا، كانوا عصرا يلعبون السِّيجة التي أسميتُها "شطرنج المصريين"، هذه اللعبة تتكون من مربعات رأسية وأفقية متساوية، بينما يتخذ كل طرف فيها إما من الطوب اللبِن أو الأحجار أو الطوب الأحمر المحروق أدوات لعب وتتحول هذه السيجة إلى مباراة حامية الوطيس، يجلس الجميع حولها ونجد الحوارات المصاحبة لهذه اللعبة التي تقوم على قدر كبير من الذكاء ومنازلة ومراوغة الخصم، الجمهور فيها ينقسم إلى قسمين مع كلا اللاعبين، ويتخلل اللعبَ أحاديث وأدوار شعرية تشكو من الزمن وفراق الأحبة ولها حُكّام وقواعد صارمة؛ أما في الليل فتكون الجلسات في المندرة على أضواء "الكلوب" أو لمبة نمرة عشرة حين يتحلق الرجال ويتحدثون في الأنساب والفقه والأدب والطرائف ولا تخلو الجلسات من مطارحات شعرية بالفصحى والعامية، هذه الروافد مهمة جدا لكنْ هناك رافدان أساسيان كما تفضلت وقلت سأحكي لك عنهما.
الرافد الأول هو التصوف، الذي أرى أن العالم في حاجة إلى أن تسود روح التصوف وتسري في أوصاله التي يبست بالمادية والأنانية والأثرة ولماذا التصوف لأنه كما أراه هو الذي سيحاول أن يقضي على التطرف وعلى التشدد وكراهية الآخر وأنه سيصل بنا إلى ما قاله ابن عربي: "لقد صار قلبي قابلًا كل صورة" في هذا الشطر من البيت الشهير نجد حلا لهذا الجانب المفتقَر في المادية العصرية التي نعيشها - هذا القلب الذي يتقبل الغني والفقير والصديق والآخر والذين يناصبونك كل أنواع الحسد والحقد، لكن هذا القلب يترفع عن مجاراتهم في العداوة؛، العالم كله الآن يقرأ "جلال الدين الرومي" ربما كانت أشعاره هي الأكثر تداولا على محركات البحث في العالم الذي يبحث عن "ابن عربي" وعن أشعار "ابن الفارض" والسهروردي ويونس إيمره والبرعي وجاد أبوغاي وحافظ شيرازي ، ومن خلال هؤلاء يفلح الانسان المعاصر في التخلص من الأزمات النفسية".
هنالك طقس بعد العصر يبدأ في "الملقة" عندما يأتي أصحاب الطريقة الرفاعية، هؤلاء المريدون يأتون ومع كل منهم سيف أو خنجر، وعلى دقات الدفوف وقرع الطبول يبدأ الذكر أو الرقص الصوفي الرفاعي في "الملقة" على أصوات المنشدين وكنا نحن كأطفال نجري وراءهم ونلتف حولهم:" الله حيْ.. الله حيْ" وبعد أن يشتد قرع الطبول نفاجأ بواحد يبارز الآخر بالسيف ثم يضع سيفه يشق به خده الأيمن ليخرج من خده الأيسر في مشهد صرخت فيه عندما رأيته أول مرة، لكن الكبار حاولوا أن يهدئوني ويطمئنوا أقراني وقالوا:" انتظروا لا تخافوا" واشتد قرع الطبول لكي نفاجأ بأن هذا الرجل يُخرج لسانه ثم يُمسكُ خنجرا يثقب به لسانه في مشهد لا أستطيع أن أنساه ما حييت، بعد عشر دقائق نفاجأ بأنه يُخرج الخنجر والسيف دون نقطة دم واحدة.
تخيل هذا المشهد بكل ما فيه من قوة وبكل ما فيه من خيال ودراما، كيف يكون وقعه على ذلك الطفل الذي كنتُه؟، كان لدينا أربع طرق صوفية منتشرة في هذه الفترة "الخلوتية والشاذلية والرفاعية والأحمدية"، "الطريقة الخلوتية" وهي تنسب للشيخ أحمد الطيب الحساني جد فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر، وكان الناس يصطفون فيها أمام المنشدين الذين سمعت منهم أعذب الأصوات وأنقاها، في ألحان لا يمكن أن تكون بمحض الصدفة، وكأنهم علماء لغة وأدب وموسيقى وأداء، ومن العجب أن كل القصائد هي قصائد لغة عربية فصيحة، وهؤلاء بعضهم لا يجيد القراءة والكتابة لكنه كان ينشد أبيات "الرومي" و"ابن عربي" و"ابن الفارض" وكأنه الخليل بن أحمد فصاحةً وبلاغة ولذلك حفظت معظم هذه الأشعار قبيل معرفتي بالقراءة والكتابة، كنا نسمع المنشدين كأطفال وهم يقولون:
" سلَبتْ ليلى منّي العقلا
قلتُ يا ليلى ارحمي القتْلي
إنني هائمْ ،ولكِ خادمْ
أيها اللائمْ، خلّني مهلا
طفتُ بالأعتابْ، ولزمتُ البابْ
قلتُ للبوابْ: أَرٍني ليلى
قال لي يا صاحْ، مَهرُها الأرواحْ
كم متيمْ راحْ، في هوى ليلى."
تخيل كيف يكون وقْعُ هذا الأداء من كبار المنشدين الذين نرى فيهم هذا الجمال الروحي، ولذلك قد تعجب عندما ترى المنشدين يؤدون حركات صعبة جدا لكنها متناسقة ومتوازية ومتوازنة في آن واحد، كان هذا لدى "الطريقة الخلوتية"، في المقابل هناك "الطريقة الأحمدية" وكما قلت "الرفاعية" و"الشاذلية" ولكل من هؤلاء منشدون يتفوق بعضهم على بعض في الأداء الصوتي والحركي، ولذلك كان بعضهم يميل لتوظيف العامية في الشعر أيضا ولذلك كان هؤلاء وأولئك لهم كل هذا الجمال ولهم كل هذا الوقع على نفوسنا نحن الأطفال الذين نفاجأ بهذه الأجسام النورانية وهي ترقص في حلقات الذكر وكأنها تسمو لكي تطوف مع المنشدين لتحلق بعيدا عن هذه الأرض ثم يذهبون نحو الفضاء.
" وما نحن إلا كالكتابة في الهوا/ سطور خيالٍ والحروفُ ضمائرُ"
عندما نأتي للسير الشعبية قهي حقيقة مجسمة في صعيد مصر من خلال عازفي الربابة الذين كانوا يذهبون للحقول ولا سيما "قليع الفول" و"الحلبة" وحصيد القمح والشعير، ويأخذ المزارعون أو العمال استراحة مع هذا المنشد "القوّال" الذي يحكي مشهدًا وغالبًا ما تكون المشاهد التي ينشدها بناء على طلب الجمهور، أي أن يطلب منه أحدهم موقف الزناتي مع أبو زيد الهلالي، أو ماذا قالت الجازية مثلا، وهكذا..
يبدأ المنشد وكأن السرة الهلالية حاضرة في ذهنه وأمام عينيه لكي يلقي المشهد بكل تمثيل وكأنه يحدث الآن، ولذلك تفاجأ بان بعض السميعة ينتفضون وقوفًا عندما يحدث وكأن السيف قد هوى على رأسه وليس رأس الضحية في السيرة وهو يمثل بتنغيم صوتي وبعزف الرباب الذي له أنين كأن الربابة تبكي على هذا الرأس الذي سيقطع من خلال بيت شعري في السيرة الهلالية، يصرخ الجميع عندما يقول
صرخ الزناتي وقال آخْ
يا تونس تِعبتِ معايا
مفضلش ولا خِل ولا أخ
في الحرب يسند ورايا.
السيرة تتشكل من خلال هؤلاء الذين يمشون في الأسواق، أذكر أنه كان لدينا سوق الثلاثاء في مدينة قفط بمحافظة قنا، ولأنني أنتمي لقرية العويضات، فقد كنا جميعنا نذهب مع الآباء والأعمام إلى السوق لكي نشتري احتياجاتنا للبيت في الأسبوع المقبل، ومن ضمن هذه المشاهد نستمع لعازفي الرباب في السوق حينها كنتُ اقف مشدوها أمام فنان يبيع اللوحات، وهذه اللوحات كانت لوحات لا ينكن أن نتصورها الآن، لوحة تمثل سيدنا ابراهيم عليه السلام وهو يهمّ بذبح اسماعيل عليه السلام وهناك ملَك ينزل وفي يده كبش، هذه الصورة طلبتُ من ابي رحمه الله ان نشتريها واشتريناها وعلقناها مع صورة اخرى، ايضا لرحلة المعراج، وحتى الآن أقول كيف كان الجمهور متسامحا وهو يصور هذه المشاهد، ومنها مشهد سيدنا يوسف وزليخا، كانت هذه الصور تباع على ما اتذكر بقرش أو قرشين للصورة، وهي ملونة أو ان يكتب لك هذا الرجل اسمك بخط جميل لأنه كان خطاطا وأيضًا بقرشين او قرش لا اتذكر لكن في المندرة او المضيفة الخاصة ببيتنا كانت هناك لوحات لسيدنا ابراهيم وسيدنا اسماعيل ورحلة المعراج النبوية ولسيدنا يوسف عليه السلام، هذه اللوحات موجودة وكنت مشدوها بها وأثّرت كثيرا في مخيلتي حتى اليوم.
الكثير من التراث الشعبي مدفون مثل النميم والعديد والسير الشعبية وغيرها وهناك محاولات كثيرة من قصور الثقافة وأشخاص للبحث خلف هذا التراث وجمعه.. كيف يرى بدران هذا وما هي توصياته في هذا الصدد؟
بالتأكيد سعيد بما قام به الأبنودي في جمع السيرة لعم جابر ابو حسين وهذا جهد كان احرى بجامعاتنا ان تقوم هذا الدور وكان يحتاج لفريق عمل، وسعيد بما قام به الشاعر درويش الأسيوطي والشاعر كرم الأبنودي لجمع الثراث الشفهي وما قام به الشاعر مسعود شومان لجمع التراث الشفهي الحدودي من البشارية والعبابدة وغيرهم وهذا التراث كنز مخبوء وأنا أشرف على رسائل جامعية تقوم بهذا الجمع وسوف تنشر قريبا، اتمنى من جامعاتنا ان تشكل فِرق بحث حتى نجمع هذا التراث الذي كاد أن يندثر.
هناك من أجيال الصعيد يحيي الطاهر عبدالله وبهاء طاهر والأبنودي وأمل دنقل.. كيف هي نظرة بدران لهم وما هي تفاصيل لقاءاتك بهم؟
لم ألتقِ بيحيي الطاهر عبدالله لأنه عندما توفي كنتُ صغيرا لكني سعيد أني التقيت بالأبنودي وأمل دنقل وبهاء طاهر وحجاج الباي وغيرهم من الشعراء والأدباء، بهاء طاهر الذي تبرع بأرضه لكي يقام قصر ثقافة والذي كتب "الحب في المنفى"، وهذه الرواية التي أطلق عليها الراحل على الراعي الرواية كاملة الأوصاف، وأنا اتمنى لبهاء طاهر مزيدا من العمر والإبداع، أما الابنودي الصديق الذي عندما أجلس معه دائما ما ابتسم لأنه لمن لا يعرفه ضحوك في أقواله وتعليقاته وهو أول من يضحَك ويُضحِك كل جلسائه وأصدقائه ورأيته فارسا في أمسيته بمعرض الكتاب بالقاهرة وفي معرض الكتاب في ابو ظبي في أمسية شعرية رائعة، ورأيت كيف جاء الأشقاء العرب مسافرين من بلدان مجاورة لكي يستمعوا لشعره، ومن الأشياء التي أفخر بها أني أقمتُ معه مؤتمر شعر العامية بكلية الآداب بقنا عندما كنت عميدا لها، وكان اللواء "صفوت شاكر" محافظا لقنا، وحضر وجعل المؤتمر تحت رعايته وقال الأبنودي في كلمته:" لأول مرة أرى اعترافا اكاديميا بشعر العامية"، لأن هذا المؤتمر جمع كل كبار شعراء العامية وكل نقادها، وفرح كثيرًا وجاء قنا مرة أخرى وكان من الأشياء التي لن أنساها أنه كان حريصًا على أن يزور قبر أمل دنقل، كان متأثًرا جدًا بهذه الوقفة على القبر، أيضًا اجتمع مع شاعر كبير وهو حمدي منصور وهو شقيق عبدالرحيم ولكن حمدي لم يبرح القاهرة وكان من كبار الشعراء مع حجاج الباي شاعر أسوان، الذي قال من شعره
لما الزناتي وقع ودياب طلع سكة
وابو زيد طلع سَكَة
لادهم قعد ع الدكة يتحكّى
ويحك جرح الزمن حكّة ورا حكة
جرح الزمان اتزمن
بكِّت قنانى الدم كام بكة
لون المساقى دمْ
صوت السواقى هَمْ
الجرح لم يتلمْ
واتلمت الضحكة
نزَّتْ في صدري الآه/ صوت الربابة تاه
تاهتْ خطاوي الخلق في السكة
لم يفتحوا عكا
أما أمل دنقل فقد التقيته في القاهرة بداية الثمانينيات وطلبت أن يحدد لي مشرفًا على رسالتي للماجستير فاقترح الدكتور الراحل علي عشري زايد ولكن لم تتح لي هذه الفرصة لأنه لم يكن موجودًا بالقاهرة،، صداقتي للشعراء والأدباء ممتدة وامتدت الى محمد نصر يس ذلك الأديب الرائع والشعراء درويش الاسيوطي وعزت الطيري وعبد الستار سليم ومحمد امين الشيخ وامجد ريان الذي ظل سنوات في مدينة قنا ومحمد عبده القرافي وسيد عبدالعاطي وعبدالله شرف ويس الفيل وعلي جعفر العلاق وأدونيس وعبدالوهاب البياتي وعلي الشلاه وفدوى طوقان والفيتوري وعبدالرزاق عبدالواحد ومحمد ابراهيم أبوسنة وغيرهم من الأدباء والشعراء.
أخيرا ما هو العمل الذي يعكف الدكتور محمد أبو الفضل بدران على كتابته الآن؟
أعكف الآن على إعادة طبع كتابي "النقد الأدبي البيئي" الذي صدر قبل عشرة أعوام وهو أول كتاب باللغة العربية في العالم العربي عن النقد الأدبي البيئي الذي صار مشهورًا بعد ذلك، وهناك كتب كثيرة حديثة تحدثت عن النقد الأدبي البيئي الذي قدمته للقارئ العربي قبل سنوات، وهناك رسائل ماجستير في مصر والمغرب العربي والمشرق العربي وبلاد الخليج العربي هذه الرسائل تعد وتناقش في العالم العربي وكتابي هو الحجة لديهم لأنه اول كتاب في اللغة العربية، وأعكف أيضًا على إصدار ديواني الجديد واتمنى ان ينال اعجاب القراء، بجانب دراسات نقدية تطبيقية حول السرد العربي الروائي والقصصي أتمنى ان انتهي منه في خلال هذا العام ان شاء الله، كما أود إعادة نشر كتابي عن "الخضر في التراث العالمي" الذي صدر عن دار المعارف وكتابي "أدبيات الكرامة الصوفية، دراسة في الشكل والمضمون" الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب، وأسعى لنشر كتابي عن "دور الشعراء في تطور النقد الأدبي" وهناك سيرة ذاتية ستُنشر قريبا.