عزيزتى المستعجلة على الجواز.. نتقابل فى محكمة الأسرة
المكان.. النادى الرياضى أو الاستاد أو الساحة الشعبية، الزمان.. من الساعة الثانية ظهرًا حتى الخامسة مساءً، الحدث.. تنفيذ حكم برؤية أب لطفله، تأتى الفتاة العشرينية المطلقة، وبصحبتها الطفل المسكين الذى جنت عليه رعونة وحماقة لم يكن مسئولا عنهما، يرى الأب طفله من بعيد، يأتى إليه فرحًا حاملًا كيسًا من الحلوى أو اللعب، يتبادل نظرات الاحتقار مع طليقته ويأخذ طفله فى جانب النادى، وهنا تشرد الفتاة بنظرها قليلًا وتغوص فى ذكريات مؤلمة، تتذكر كيف كان مشروع حياتها الأول هو أن يتم خطبتها، كل دعواتها فى الصلاة أن يرحمها الله من عذاب السنجلة، تتحرق لأن تلبس... تلك الدبلة والمحبس، وبدأت فى العمل والسهر على حلمها، تحفزها الأم يوميًا بنصائح جادة.
كلما تعود الفتاة من مدرستها أو جامعتها دون أن تزف لأمها خبر أن هناك من يريد طرق بابها تنظر لها الأم شذرًا، تتذكر المطلقة كافة ذكرياتها وذكريات صديقاتها اللاتى تزوجن، ثم ترافقن جميعًا فى الرحلة الحتمية لمحكمة الأسرة، تتذكر تلك التى وقع أحدهم فى غرامها، وبادلته شعورًا متبادلًا، ولكن متطلبات الزواج التى يفرضها الأهل لن تتحقق إلا بمعجزة، وكل حسب تطلعه وثقافته، لاسيما لو كانت الفتاة ريفية من قرية يسافر أهلها إلى الخارج ليعملوا فى غسيل الأطباق وتنظيف الأرضيات، ليعود الشاب فاتحًا قريته، حاملًا إمكانياته على كتفه، مخترقًا بها جدار أى بيت فى القرية، ويبدأ المهدى المنتظر فى الاختيار، يريدها بضة بيضاء بطة رشيقة ذات عين عسلية، وشعر زاحف على الأرض، يريدها متعلمة، ولم يسبق لأحد أن تحدث معها، يريدها "فرز أول"، لأنه سيدفع المطلوب وأكثر، وإذا كانت من المدينة، واهتدى لها أحدهم بصورة من صورها ذاهبًا ليجلس على صالونهم المدهب، حاملًا معه علبة جاتوه ستقيّم الأم مدى كرمه من عدد قطعها وجودة طعمها، سيتحمل العريس المنتظر ذلك المشهد التمثيلى المصطنع الذى يُظهر الأب وكأنه قائد المنزل والمسئول عن المشهد، فى حين تنظر الأم من بعيد بنظرات تقطر شذرًا ولم لا فمفاتيح اللعبة كلها فى يدها، وكلما كانت حالة العريس متواضعة زادت نظرات الحنق والشذر، وكلما كانت الحالة مرتفعة زاد حب الأم لعريس ابنتها المنتظر.
ويبدأ العمل الجاد على المشروع القومى لكل عروس جديدة وهو النيش، ذلك الدولاب الأثير، قدس أقداس منزل الزوجية وقبلته ومذبحه المقدس، كئوس الواين والشمبانيا التى لن تمسها حتى قطرة عرقسوس، تبدأ الأمهات فى العمل على تجهيز نيش بناتهن منذ ولادتهن، عشرات الأنواع من الكئوس والأطباق، حتى يتم تأسيس الصنم المقدس، وهو الصنم الذى تتعاون فيه كل نساء الحى والعائلة فى رصه كفسيفسياء بديعة، وما إن يتم غلقه فلن يتم فتحه أبدًا إلا ساعة الطلاق وتسليم الأثاث أمام قسم أول.
والنيش هو أحد أصنام العصور الوسطى، ففتاة النيش هى الفتاة السطحية المتوسطة فى كل شىء، الضحلة فكريًا، طالما فرحت بالنيش وحرصت على اقتنائه ستصير أنموذجًا للنمطية والرتابة والملل، وهى التى قد تتسامح فى خيانة زوجها لها ولكنها لا تتسامح فى استخدام براد الشاء الصينى، أو كأس الشمبانيا، أو أطقم الخشاف.
ويبدأ العد التنازلى لليلة المنتظرة، وهنا تجند الأم لابنتها نصف نساء الأرض لتجهيز العروس لليلة الزفاف، وهنا يتم إعادة تدوير العروس مرة أخرة، يعمل الجميع على سلخ جلد الفتاة المسكينة، فهذه تجلو، وتلك تزيل الحواجب، وأخرى تسكب كميات هائلة من سائل الأوكسجين على شعر الفتاة البائسة، فهى عروس، ولا بد أن تنافس فى مظهرها عرائس المولد.
تجهز الأم ابنتها بكل ملابس الإغراء الممكنة التى لن تستخدم سوى النزر اليسير منها قبل أن يوزعها طليقها القادم وزوجها الحالى على أقاربه بعد الطلاق ليميتها كمدًا، تنظر الفتاة المسكينة لكل هذه الملابس لتغوص فى عالمها الخاص، تتخيل جنتها الحلوة التى انتظرتها وعفت نفسها لأجل تلك الليلة، وبطبيعة الحال لن تنسى الأم أن تضع تلك القماشة البيضاء فى درج مجاور لفراش غرفة النوم أو ساحة النزال، حتى يكون برهانًا على شرف ابنتها، ورغم كل ما لحق بالعالم من تطور، إلا أن ذلك المنديل هو الطقس الأول والأهم الذى لن يتنازل عنه أى من الطرفين.
وفى يوم كتب الكتاب، وهو اليوم الفارق، تطير العروس فرحًا وتسارع إلى صفحتها على فيسبوك لتصور إبهامها ملاصقًا لإبهام زوجها وفى أعلى الإبهام تضع الدبلة، وأسفل الدبلة بقايا حبر أزرق، لتعلن أنه قد تم عقد قرانها، ترفع الفتاة هذه الصورة على فيسبوك فقط لتكيد صديقاتها اللواتى لم يتزوجن حتى الآن، وتبدأ عاصفة التهانى بين الصديقات المكلومات، وصولًا لطباعة تيشرتات تقطر دمًا من قلوب الصديقات طبعن عليها جملة "صاحبة العروسة"، تنظر الفتاة لكل هذه الكرنفالات كأميرة، لا كملكة، ستذهب لتصوير جلسة تصويرها كنجمة سينمائية، الآن نسيت كل أيام القبح والحواجب الثقيلة ورائحة العرق التى يستغيث منها سكان الأرض، لمن الفرح اليوم، لمن العرس اليوم، لمن البهجة اليوم؟!!!
وتتجهز العروس لزفافها، وكل عروس حسب قيمتها ومقدرة زوجها تكون مساحة القاعة، والطعام الذى سيتم توزيعه، من ستكتفى بمياه غازية، ومن سيقدرها أكثر سيوزع كانزات، والمحب الصادق سيوزع ساندويتش كفتة وحتة جاتوه، أما الراجل المحترم اللى شارى بجد حيوزع وجبة فى علبة، والملك زوج الملكة الذى سيحيا معها فى حياة سعيدة وردية بيضاء سيختار لها قاعة بخدمة الأوبن بوفيه، ستدعو الفتاة كل الأقارب، ستدعو العدو قبل الصديق ليرى إنجازها الأعظم، ستراهم وهم يتهافتون على الجمبرى، حتى إن أحدهم سيخبئ بعضا منه فى جيب بدلته المستأجرة، سترى ابتسامات الحسرة فى عين صديقاتها اللاتى سيتحسرن على قدَرهن البائس، وعلى العريس "المُز"، الذى ساقه قدر عجيب لهذه الفتاة متواضعة الجمال، سيفلت من إحدى صديقاتها بوست على فيسبوك بمعنى أن القبيحات فقط هن أصحاب الحظ، والمخدة مبتشيلش اتنين حلوين.
وهكذا تدخل الفتاة حياتها الزوجية، مبهورة برائحة الأثاث الجديد، وعطر الزوج الذى يفوح فى أرجاء المنزل، والطعام السهل الذى ينهال من كل أقارب العروسين، ساخنًا وطيبًا ولذيذًا ومجانيًا، وكأنها الجنة، طعام وعطور وملابس جديدة، وفراش وثير، ومشاعر ثائرة، وشهوات متحققة، ونفس راضية، فضلًا عما يعرف بالنقطة، وهى عادة مصرية أصيلة، تلك العادة التى عبّر عنها الفنان محمد سعد فى فيلم "اللمبى" بالكراسة الصفراء، وهو ما سيضمن استقرارًا ماديًا وحياة بذخ مجانية لعدة أيام أو عدة شهور حسب وضع الزوجين الاجتماعى.
وتبدأ أيام العسل فى توديع منزل الزوجية، آثار زينة العروس قد مُحيت، ورائحة الزوج قد تبدلت، وجسده الرياضى بدأ فى التلاشى ليسمح بظهور كرش صغير وأجناب متسللة، سيراها من تزوجها لأجل زينتها وهى مستيقظة صباحًا، وستراه وهو بطقمه الداخلى طيلة الوقت، لا تفارق عيناه شاشة هاتفه المحمول، تبدأ الثلاجة فى الفراغ لتفوح منها رائحة الخبز الجاف وبقايا جبن متجمد لا يصلح للطعام، تبدأ ثروات الكراسة الصفراء فى التلاشى، يضطر الزوج للذهاب لعمله مرة أخرى إن كان يعمل أصلًا، تبدأ الفتاة التى ما زالت تحتفظ بطراوة جلوتها فى دخول المطبخ وتنظيف الحمام وغسيل الملابس.
تتطور الحياة سريعًا، بعد أن تهدأ الشهوات، ويصير الفراش الوثير خشنًا، وتبدأ الحياة الحقيقية، وهنا يتطلب البيت أشخاصًا مؤهلين نفسيًا، أشخاصًا قادرين على تحمل مسئولية المشاركة والقيادة الآمنة لدفة منزل وحياة وأسرة واستقرار، ساعتها تجد الفتاة نفسها أمام مسئولية لم تتدرب عليها، وحياة لم تختبرها، وبعد أن يعود الزوج للمنزل لن يجد سوى عروس الحلاوة فارغة، سيحاول النقاش معها ولكنها لن تصمد فهى محفوظة فى متحف، لم تتدرب سوى على نتف الحاجب وصبغ الشعر، لم تقرأ، ولم تقرر، لم تختَر الشريك المناسب، فقط اختارت من استطاع أن يدفع، اختارت من اشترى الكانز والوجبة ذات الكرتونة المغلقة.
ويبدأ العمل على مشروع آخر، فالرجل الذى يريد أن يعلن فحولته للجميع لن يهدأ له بال حتى تمتد بطن زوجته أشبارًا عديدة، ليسير بجوارها فى الشارع فخورًا بما اقترفت يداه، فهو الفحل والعنتيل والإله بس المقدس، أطفال ينجبون أطفالًا، دون وعى ولا قدرة مادية، أو ذهنية، تبدأ الحياة فى التحول للون الرمادى، طعم الأشياء يزداد مرارة، تحن الفتاة لبيت أبيها، ففراشه الآن أدفأ، ويبدأ الشاب فى الضجر من تلك الحياة بعد أن استنزفا كل مخزون البوس والأحضان ولم يجدا السعادة.
وكل زيجة فاشلة ونصيبها، بعضهم من يصمد عامًا وبعضهم يصمد عامين، فضلًا عن آخرين لا يصمدون سوى شهر أو شهرين، وهنا تظهر الأم مرة أخرى، ويعيد الأب تمثيل دور الذكورة مرة أخرى، وتبدأ رحلة الغضب كما أسماها المصطلح المصرى، وتبدأ مشاوير مكاتب المحاماة ومحكمة الأسرة، وصولًا لأن تبريه إبراءً، وساعاتها لا تصمد شبكة، ولا قائمة أثاث، ولا مساحة قاعة فرح، ولا فخامة كروت زفاف تحولت حتى صارت كشاهد قبر.
الزمان.. الساعة الخامسة، تستفيق الفتاة من غفوتها، مدة الرؤية انتهت، يبصقون على بعضهما البعض من بعيد، تأخذ الطفل، تنظر فى جيبها لا تجد ما يكفيها لآخر الشهر، حياتها كالحة مملة حزينة، إما أن تتزوج ذلك الأرمل الخمسينى لتصير خادمة له، أو تعود لطليقها لتصير خادمة له، أو تتذكر مستقبلها البائس الذى جنت عليه يداها.
تنظر من بعيد لصديقتها التى تحتضن زوجها الذى تزوجته بعد أن نضجت وتعلمت وأدركت، وقرأت وسافرت واستقلت ماديًا، تتذكر كيف أرادت الكيد لصديقتها هذه وقت أن تزوجت باكرًا، تتذكر ذلك الشاب المكافح الذى أراد الزواج منها ورفضته لأنه لم يستطع أن يبرهن لها عن حبه بالشبكة والقاعة وعدد قطع الجاتوه، تعود مرة أخرى إلى بيت أبيها مهزومة، مكسورة، لم يتبق لها من حطام الحياة سوى نيشها المقدس، وبعض كئوس الواين وصوانى البيريكس التى لم تفقد عذريتها، كما حدث لصاحبتها التى فقدت حياتها ومستقبلها.