رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حجر أساس

أحمد خالد داود
أحمد خالد داود

إلى الكلب الذى عشت طفولتى برفقته

كعادته، كل يوم، منذ أن تولى حراسة تلك الأرض الشاسعة. يقطع مسافات طويلة سيرًا على قدميه. يمشى، ويتبعه كلبه النحيل. ما إن يصل إلى الحى الرئيس، حتى يترك هاتفه فى المقهى، عند بلدياته، ليقوم بشحنه، ثم يذهب إلى السوق، ليشترى الخبز، وطعام اليوم، وما يحتاجه من السكر والشاى يتجول بصحبة كلبه الملازم له كظله. ثم يعود ليأخذ هاتفه. على أحد جانبى الطريق، يتصل بزوجته، ويخبرها بقرب قدومه، ثم يجرى اتصالات متقطعة ببناته المتزوجات يطمئن عليهن، واحدة، واحدة.

فى بداية طريق العودة يجلس قليلًا مقربًا الكلب منه. يمسك برغيف الخبز الطازج، ويطعمه للكلب قائلًا: تصبيرة لحد أمّا نوصل. ثم يربت على عنق الكلب الذى يهز ذيله فى ود بالغ، يلتهم الكلب الخبز، بعينين شاكرتين، ويبدأ فى السير خلف «عم عبدالحق» وذيله يرقص، أحيانًا، يسير بمحاذاته، أو يتقدم عليه قليلًا، ثم يرجع مرة أخرى إلى موقعه الأول يتشمم الأرض، أحيانًا، ثم يرفع عنقه مندفعًا فى اتجاه صاحبه، له لون الصحراء التى يمشون فيها، وهيئته تشبه الكلب الذى ظهر فى رسومات المصريين القدماء، يقطع عم عبدالحق الهِوّ والصمت المحيط بهما:

- ما كملتلكش: لما ما فلحتش فى المدرسة، راح أبويا مجوزنى بدرى، وقال لى: يالا، بقى شوف حالك بس أنا خرجت منها وأنا بعرف أفك الخط برضه. ابتديت أشتغل، أضرب عصايتى وأجرى وراها، أول ما اشتغلت كان مع مقاول هدد. كانت فىّ صحة وعافية، زى التور. نشتغل من صباحية ربنا، لحد أمّا الشمس تغيب وأوقات، نكمل شغل بالليل كمان الله يرحمه ويسامحه بقى، المقاول كان مفهمنا إننا وإحنا بنهد ف البيوت القديمة، ممكن نلاقى مساخيط مدفونة، أو نلاقى «رقبة جمل» جوه الحيطان، مليانة جنيهات دهب، وما كانش عايز حد من أصحاب البيت يعرف، فيخلينا نشتغل بالليل، وكان عندنا أمل إن الحظ ممكن يضحك لنا بس الغلب عارف ناسه!

يصلان إلى حجرة خشبية، تقف منتصبة فى صحراء ممتدة، أسلاك شائكة تحيط بمساحة لا حصر لها، ولافتات كبيرة مكتوب عليها «ممنوع الاقتراب والتصوير» يجلس عم عبدالحق خارج الحجرة بعد أن يشعل النار فى بعض كِسارة الخشب، يضع الكنكة النحاس بجوار اللهب، ويبدأ فى تناول الطعام والكلب باسط ذراعيه أمامه.

- فى ليبيا، اشتغلت كل حاجة، بنّا، ومبيض محارة- نقاش- كهربائى- سباك، عملت فلوس حلوة بس الغربة مرة أوى يا صاحبى. لما رجعت لقيت بنتى الكبيرة دخلت المدرسة. قلت أروح أطمن عليها لقيتها قاعدة على الأرض، كنت اتعلمت النجارة من واحد أكبر منى فعملت عشر دكك للفصل، الشباب حلو برضه خللى بالك حزنت على أبويا جامد. بس، أم البنات قالت لى: «موسى مش أعز من ربه، وكفاياك غربة بقى بناتك كل يوم بتكبر عن الأول» قلت لنفسى: «يا واد غربتك ف بلدك أحسن برضه من غربتك بره».

انتصب الكلب واقفًا وهو يحرك أذنيه، نظر عم عبدالحق حيث نظر الكلب، فوجد سيارة نصف نقل فى طريقها إليه، زمجر الكلب، لكن عم عبدالحق بدأ يهدئه قائلًا:

- ده الأستاذ زكى ما أنت عارفه يا صاحبى.

نزل الأستاذ زكى من السيارة ومعه ثلاثة عمال أمرهم بأن يفرغوا الصندوق الخلفى للسيارة.

- إزيك يا عم عبدالحق.

- نحمده يا بيه.

- دول ألف طوبة وأسمنت وبراميل ميه، والرمل طبعًًا ما فيش أكتر منه «خللى بالك من الرخامة، يا ابنى» مخاطبًا أحد العمال.

- دول لإيه يا بيه؟

- اعمل حسابك، بكرة العشة بتاعتك ماتبقاش موجودة عشان الوزير جاى، فُكّها وبعد كده انصبها تانى.

أخرج الأستاذ زكى هاتفه بينما هرش عم عبدالحق مؤخرة رأسه ثم تحدث إليه، برجاء:

- بنتى ولدت ولد.

- ألف مبروك.

- بس الواد نزل عيان، ومحتاج يقعد فى الحضانة ييجى شهر.

- ألف سلامة عليه.

- البنت نزلت مصر، ولفت بالواد على كل المستشفيات مالقتش مكان للعيل ف أبوالريش ولا مستشفى المنيرة ولا أطفال مصر، كمان قالوا ليها: استنى مكان يفضى أو شوفى له واسطة.

- عايز إيه يا عم عبدالحق؟

- كنت عايز سلفة ويومين أجازة ألف فيهم معاها على مستشفى خصوصى.

- بعد ما الوزير يمشى بكرة، ح نرتبها مع بعض.

حاول الأستاذ زكى الاتصال من هاتفه مرات كثيرة.

- مفيش شبكة هنا، يا بيه.

- كنت عايز أتفق مع البنّا اللى ح ييجى بكرة.

- بنّا؟ طب أبنيهم أنا وآخد أجرة البنّا، بنّا وفاعل كمان.

- تعرف يا راجل يا عجوز؟

- أنا كنت لسه باحكى مع.. آه، أنا اشتغلت بنّا وأعرف أبنى طوب وردى، وابنيه على السيخ كمان.

- ع العموم، الموضوع بسيط دول ألف طوبة ح نيجى ع الضهر نلاقيك خلصت كل حاجة زى ما ح أقولك.

- إحنا وإنت على الله.

- ده الوزير يا عم عبدالحق.

- يا بيه، ماتقلقش كله ح يبقى فى الألسطة.

فى الصباح كان عم عبدالحق قد انتهى من تثبيت الرخامة على الحائط القصير الذى بناه كما وصفه الأستاذ زكى، بدأ فى فك الحجرة الخشبية والكلب يقف إلى جواره فى حماس:

- الاتحاد- النظام- العمل- أهم حاجة النظام خلصنا الأهم، نخش بقى ع المهم.

هز الكلب ذيله، وتمطع وفرد جسمه ثم نظر إلى ذراع عم عبدالحق الذى شمر كمه عاليًا.

- ده أسد أبوزيد الهلالى مدقوق بالوشم وتحت منه اسمى وعنوانى ماحدش عارف حيموت فين، يا صاحبى.

حرك الكلب رأسه فى الاتجاه الآخر، بينما واصل عم عبدالحق الحديث:

- فوتك، فى الكلام: أول ما نزلت مصر قعدت على قهوة مشهورة ف ميدان العتبة. دورت على بلدياتى عشان يشغلونى معاهم. وقفت، شوية فى محل عطارة وبعدين سرحت بعربة ترمس اتلطمت كتير، قصر الكلام افتكرت أن السمسرة حتنقلنى وتغنينى، بس المنحوس منحوس والدنيا يا صاحبى للموعود، مهيش للحسيب.

هاج الكلب وكشر عن أنيابه، عربات كثيرة بأشكال مختلفة، عساكر وضباط، صحفيون ومصورون أظهر الكلب شراسته وبدأ ينبح بصوته العالى غير مبالٍ للكثرة التى تحيط به نهره أحد الضباط، لكن الكلب واصل نباحه، أخرج سلاحه الميرى وهم بقتل الكلب تدخل عم عبدالحق، فى الوقت المناسب بعد صرخة مدوية خرجت من فمه بسرعة الحواة أحضر حبلًا وربط الكلب من عنقه فى غصن جاف دقه فى الرمال على شكل وتد، ظل الكلب يواصل نباحه والضابط يكتم غيظه.

- ح أسكته لك خالص بس وحياة والديك ما تقتله.

شق عم عبدالحق زجاجة مياه فارغة بالعرض بعد أن نزع منها الغطاء ثم حشر أنف الكلب مكان الغطاء وعلق الزجاجة فى عنق الكلب ككمامة لا تخرج له صوتًا.

أخيرًا حضر الوزير بعد طول انتظار أخرج أحد المرافقين صندوقًا معدنيًا به جرائد اليوم وعملات معدنية وأوراق مالية، ثم طلب من الحضور أن يضعوا فى الصندوق ما تيسر من النقود كتذكار للأجيال القادمة، ثبت عم عبدالحق الصندوق فى الفراغ المعد له خلف الرخامة ثم تناول الوزير «المسطرين» وملأه بالمونة من «قصعة» يحملها عم عبدالحق سجل المصورون هذه اللحظة التاريخية بعدساتهم، وسط تصفيق حار من الجميع، غادر الوزير وموكبه فى دقائق معدودة بينما واصل عم عبدالحق رص «المدماك» الأخير وعيناه تلمعان بذكريات وأمنيات قديمة.

سأل الأستاذ زكى وهو يطلق سراح الكلب الذى تدلى لسانه وهو يلهث.

- أجرة النهاردة فين؟

- ح أضيفها على المرتب وكلها يومين وح تقبض.

- طب والأجازة؟

- لما تقبض خد أجازتك.

ظهر الحزن على ملامح وجهه المنقبضة لكنه تمتم:

- كله خير.

فتح الأستاذ باب السيارة وجلس فيها بينما عم عبدالحق يضع براميل المياه الفارغة وما تبقى من أدوات البناء ومواده فى الصندوق الخلفى للعربة.

- يعنى إيه «ماجيك لاند» المكتوبة على الرخامة.

- دى مدينة ملاهى.

- ملاهى؟ مراجيح يعنى؟

- مدينة ملاهى ح تبقى أكبر مدينة ملاهى فى الشرق الأوسط.

حرك رأسه متظاهرًا بالفهم، وبينما كان الكلب يتبول على حجر الأساس المبنى حديثًا شرع عم عبدالحق يعيد نصب حجرته الخشبية بعد أن أخفى ما تبقى من الأسمنت فى الرمال دون أن يراه الأستاذ زكى!