حوار بين جيلين (3/3)
صلاح بوسريف يحاور الشاعر والناقد الشاب عز الدين بوركة
في “حوار بين جيلين”، تواصل "الدستور" الحوار بين الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي صلاح بوسريف،مع الناقد التشكيلي الشاب عز الدين بوركة الذي يعد أحد أبرز الأصوات الشعرية والنقدية الشابة قدم عبر رحلته مع الشعرأعمال منها "حزين بسعادة"، و"ولاعة ديوجين"، بجانب العديد من الدراسات والكتابات النقدية في مجال الفن التشكيلي منها كتابه "الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية".
في الحلقتين السابقتين تحدث الناقد الشاب عز الدين بوركة عن تجربته وعن تأثر جيله بجيل شعراء الثمانينات وعلى رأسهم الشاعر والناقد صلاح بوسريف كونه أحد المؤسسين على الانفتاح على قصيدة النثر، ولفت بوركة إلى أن الشعر منفتح على الفلسفة كونهما يحملان نفس الهم في طرح أسئتلهم عن الوجود.
يرى أن الشعر لا يبحث عن كتابة منطقية ولا يستهدف تقديم الحقيقة جاهزة،وأكد على ان ينفتح الشاعر على ميادين الفن والمعارف الأخرى، لا أن يظل تائها في دوامة اللغة فحسب، ومقتصرا على مقروئية شعرية فقط، وإلى نص الحوار.
ـــ في الشِّعر، توجد الألوان والأصوات والروائح والصور والرموز والملء والإفراغ، وهذا ما أعمل مثلاً، على وضعه في سياق تجربتي، كيف تتمثل هذه العناصر في قراءاتك، وفي ما تكتبه، أو ما ترى أنه يتفق مع ما تتصوره كأفق شعري جمالي؟
الشعر هبة الوجود، إنه مَلكة خاصة بالجنس البشري على هذا الكوكب، ولا أظن أن باقي الكائنات الأخرى التي تمتلك لغة تمتلك مَلكة الشعر، لأنه مرتبط بالخيال وهذا الأخير خاصية بشرية بامتياز. وبالتالي، فكل ما يحيط بالإنسان يدخل في عملية نسج خياله، كما في تكوين تجربته الوجودية.. والشعر نتاج لهما معا. وأما الألوان والأصوات والروائح والصور والرموز والملء والفراغ، ليست خاصية جوهرية في الأشياء.. بل إنها صفات يختلقها الإنسان لتصنيف الأشياء ومعرفتها ووصفها.. لهذا أراها مفاهيم ومرادفات والعناصر تغني البناء الشعري وتقوّمه، لأنه تعطي للنص كتلة وشكلا وملما وشعورا وتقربه من القارئ الذي يحاول جاهدا أن يجسد المقروء ليتفاعل معها..
وبما أن النص الشعري بناء ومعمار، فلابد من عناصر ملموسة، كتلك التي ذكرت حتى يتمكن من الوقوف وامتلاك خواص وجودية وعناصر تصنيفية تقوّمه وتجعله قابلا للتشخيص. نوع من مقولات أرسطوية إن أردنا القول. والأفق الشعري مفتوح على كل التصنيفات و"المقولات" والعناصر الممكنة التي من شأنها أن تغني البناء وأن تنعش الخيال.
ـــ ما تسميه بـ «قصيدة النثر»، وهذه تسمية ناتجة عن ترجمة خاطئة في الأساس، هل أنت فعلاً مقتنع بالمفهوم في ذاته؟
قد يبدو لك كم أنا حذر جدًا عند استعمالي لتسمية "قصيدة النثر"، فأردفها بـ"نص شعري"، أو أكتفي بهذا المسمى الأخير للإشارة إلى المنجز والمكتوب شعرا... أي نعم لا يغيب عندي توظيف تسمية "قصيدة النثر" كثيرا، لكن حتى أوضح ما أتحدث عنه في ظل الاستعمال الرائج للتسمية.. أحيانا أوظف تسمية "ما بعد القصيدة"، كما تستعملها في تنظيراتك، لكن أحبذ أن آخذ هذه التسمية إلى حقل النص الخارج عن حدود اللغة، فأستعين به لوصف النصوص المجسدة أو المرئية وغيرها المنتمية للكتابة المعاصرة.. ما بعد الحداثية.
نعيش اليوم في أزمة تسمية عربية لهذه الكتابة الشعرية الجديدة، قد يرى البعض بأن التسمية أمر ثانوي، لكنه عندي أساسي لأنه يفتح أبواب التحديد الجنيالوجي والجينيريكي، بتعبير نتالي إينيك، للمنجز. تربكني تسمية "قصيدة" لأنها تعيدنا إلى جينريك ما قبل الحداثة، إلى العمودي وغيره.. بينما الشعر فوق كل تخندق صوتي وتفعيلاتي وعروضي: الشعر فوق العروض.. والشاعر يتجاوز كل المحددات الكتابية المعطى والمقدمة باعتبارها إقامة دائمة للإبداع في جنس معين.
يجب أن يمتلك الشاعر بناءه الخاص في الكتابة، لا يمنع هذا أن يكون متأثرا بتجارب معينة، لكن لا أن يجترها ويعيد تأليف صورها ومجازاتها ويضع صنعتها في قوالبه.. فعلى الشاعر أن يصنع أدواته الخاصة وأن يبتكر لغته، وأن يخرج متمردا على القول السابق. إلا فيصير مجرد صوت مقلد لأصوات أخرى. الكتابة مثل صناعة الحلي لكل شاعر سره وأدواته لتذويب معادنه وتشكيل أشكاله غير المطروحة في الأسواق. أي نعم المعاني موجودة أينما ألقينا النظر، لكن الإبداعية في طريقة العرض.. لا أعني هنا "الأصالة" بالمعنى التقليداني، فلا معنى لهذا المفهوم في الكتابة والإبداع المعاصريْن.. فنحن نكتب نصا على نص، ونكتب رؤية على رؤية لنخلق طبقات جيولوجيا.. فكل الأساليب متاحة للكل ولكن الشاعر هو ذلك القادر على خلق الدهشة من أبسط الصور وأوضح التعابير. وهنا تكمن الخصوصية.
ـــ ما الذي يعنيه البناء فيما تكتبه أو تفكر فيه؟
لا أظن أنه يوجد عمل فني وشعري دون بناء، النص هو معمار، وحتى حينما يُنقل الشعر إلى الاشتغال الأدائي فهو بالضرورة ينتقل إلى بناء بصري وجسدي ولغوي (له معماره المتميز).. والبناء الشعري يمثل جوهر الكتابة الشعرية، بل العملية الفنية ككل. لا أظن أن منجزا ارتجاليا مهما كان، لم يفكر مبدعه في شكل بنائي له -ولو بعفوية. والبناء الفني يتميز على نحو شامل بالكلية والتحول والتحكم الذاتي في وحدات هذا البناء، كما يقول جان بياجيه.
البناء هنا ليس بنيويا بل بنائيا، أي ليس خاضعا لعملية بنيوية متحكمة فيه من البدء إلى النهاية، فالنص الشعر منذور للانسقية والتشظي، خاصة المعاصر منه، وغير خاضع لمفهوم الوحدة العضوية بمعناها الكلاسكي... إنه نص شذري مفتوح. متجاوز النظرة التقليدية للقصيدة التي توحد بين الشكل والمضمون وتحيل الدال على المدلول. ما يجعل النص الشعري المعاصر خاضعا لتجربة الشاعر الداخلية، لا تتحكم فيها أي محددات خارجية. وبالتالي، لا منطق في الكتابة الشعرية المعاصرة، بل إنها بناء جدلي متشابك ومعقد له منافذ ومخارج وأبواب متعددة، يجعل من النص الواحد متاهة، بالتعبير البورخيسي.
ـــ النثر في الشِّعر تجاوزًا.. أطرح عليك السؤال رغم رفضي لتميز اللغة بلغة للشعر ولغة للنثر، كيف تتعامل معه في الشِّعر ؟
أوافقك ضرورة عدم التمييز بين لغة للنثر وأخرى للشعر، فالشاعر يشتغل أولا وأخيرا، وإن أخرج النص من الورق المكتوب إلى الجسد المرئي، على اللغة.. يعاركها ويغلبها وتغلبه ويحاول أن يستخرج منها ما لم تقله بعد.. ففي آخر المطاف نحن كائنات لغوية، استطاعت أن تمتلك الخيال، كما يذهب أهل علم التطور، وهو ما جعلنا نتصور العالم الموجود أمامنا والغائب عنا، ونخرج من دائرة "القردة" إلى الإنسان العاقل.
شخصيا لا أميز بين لغة وأخرى في الكتابة، وحتى "قصيدة النثر" بالاصطلاح المتداول، فهي تحريف للاصطلاح الفرنسي "الشعر المنثور" أو "الشعر بالنثر".. أي كتابة شعرية تبتغي إلغاء الكتابة القديمة حيث يطغى التقطيع العروضي والمقطعي للكلمات.. لصالح لغة متحررة من كل القيود، فتصير الفوارق بين الشعر والنثر شبه لاغية.
لنكن واضحين أكثر، استعملت كلمة "شبه"، لأنه رغم ذلك تظل هناك حدود شُعَيْرِيَة دقيقة، على الشاعر أن يلعب بمحاذاتها بمهارة بهلوان فوق حبل مشدود لا شبكة تحميه من السقوط أرضا وهو يلهو في الأعلى. لهذا كلما استدعت الضرورة للخروج من تلك الكتابة البلورية المكثفة، بتعبير سوزان برنار، وإفساح المجال للغة المنثورة حينما تستدعي الضرورة الشعرية ذلك، أحاذر ألا أسقط في "الحديث" و"الكلام"، أي أن أكتب كما يفعل اللاعب كرة القدم وهو يريح نفسه قبل مراوغة الخصم ومداعبة الكرة من جديد.
ـــ الشعر المغربي اليوم، في اللحظة الراهنة، كيف تراه، وكيف تقرأ ما يقترحه من اختراقات، لا أتكلم عن كل من يكتبون، فالكتابة والنشر شيء، لكن الاختراق هو عمل في الشِّعر، في أفقه الإبداعي الخلاق، الذي هو مجهوله ولا نهائيه في نفس الوقت.
نحن لا نزال في مرحلة تأسيس كما قلت، رغم الانعطافيْن اللذين حدثا في ثمانينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، إذ إن عمر الشعر الحديث في المغرب لم يبلغ عامه المائة بعد.
بالتالي، لا بعد أن نعيش التخبطات والمخاضات وأن نتوقف عند المطبات لنتجاوزها، وأن ندخل في أزمة تلوى أخرى لتخطيها... لهذا فإني أرى أن الشعر الراهن هو أفق ما طمح له كتاب البدايات، لكنه بوابة لأفق أرحب نطل عليه.. هناك أسماء تشق الطريق وأخرى تحفر منذ مدة منعرجات حادة وتجارب تعبّد السبيل وأخرى ترسم الأفق.. وهي تجارب جادة وتؤمن بما تقوم به من "جرائم" في حق اللغة، بالمعنى الإيجابي، وما تقتله من استعارات ومجازات وأقوال مكرسة حد البلادة في شعرنا.. منفتحة على حقول متعددة لاستنبات تجربة طلائعية وطلائعية جديدة همها الآتي.. غير مهتمة بالتصنيفات الكتابية والمسميات النقدية والتحقيبية، لكن على قلتها طبعا.
إنها تقوم بالاختراق كما ذكرتم في السؤال.. اختراق الماضي والحاضر معا. ولأن "التاريخ طُرس ممسوح، والثقافة قابلة للنفاذ في الزمن الماضي، الزمن الحاضر، والزمن المستقبل"، كما يخبرنا إيهاب حسن، فهذه التجارب تعمل على استقراء الماضي وابتكار الحاضر والتطلع إلى المستقبل. نوع من النفاذ ذهابا وإيابا وعدم الإقامة في ما كان أو الوقوف عند ما هو كائن. إلا أنه في الوقت ذاته توجد تجارب اجترارية تكرارية همها الوحيد الكم لا الكيف، الظهور لا الصناعة والإبداع. ووحده التاريخ، بمعية النقد، كفيل بالغربلة.