رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوار بين جيلين «2-3».. المغربي صلاح بوسريف يحاور الشاعر الشاب عز الدين بوركة

عز الدين بوركة وصلاح
عز الدين بوركة وصلاح بوسريف

في “حوار بين جيلين”، تواصل "الدستور" الحوار بين الشاعر والناقد الأكاديمي المغربي صلاح بوسريف،  مع الناقد التشكيلي الشاب عز الدين بوركة، والذي يعد أحد أبرز الأصوات الشعرية والنقدية الشابة، قدم عبر رحلته  مع الشعرأعمال منها "حزين بسعادة"، و"ولاعة ديوجين"ـ، إلى جانب العديد من الدراسات والكتابات النقدية في مجال الفن التشكيلي منها كتابه "الفن التشكيلي في المغرب من البدء إلى الحساسية".

في الحلقة الفائتة تحدث الناقد والشاعر الشاب عز الدين بوركة عن تجربته وعن  تأثر جيله بجيل شعراء الثمانينات وعلى رأسهم الشاعر والناقد صلاح بوسريف كونه أحد المؤسسين على الانفتاح على قصيدة النثر، ولفت بوركة إلى أن الشعر منفتح على الفلسفة كونهما يحملان نفس الهم في طرح أسئتلهم عن الوجود، ويرى أن الشعر لا يبحث عن كتابة منطقية ولا يستهدف تقديم الحقيقة جاهزة، وإلى نص الحوار.. 

 

ــ الشِّعْر ليس هو أن نقرأ، الشِّعر هو أن نتمثَّل ما نقرؤه، بل الشِّعْر هو تجربة تتشابك فيها معارف وعلوم وفنون ولغات وتجارب، وذائقة شعرية، إذن. كيف تتصور، معي، فهمك وفهم من معك من الشُّعراء للمعارف والفنون، وللذائقة التي شرط من شروط الالتذاذ في الشعر والكتابة عموماً، وهذا شرط قديم، موجود في كل الثقافات والفنون. دعنا نُسمِّي الذائقة الموهبة؟

جميل قول الذائقة الموهبة، فالموهبة هي صنعة بتعبير بورخيس، والشعر صنعة، لهذا تحدث العرب القدامى عن "فن الشعر"، ومن تعاريف الفن: الصنعة. وهو عينه ما نجده في الأصل اللغوي اللاتيني للفن المرتبط بالحرفة والصنعة والمهارة والتقنية، فأن تكتب لا بد أن تكون مهاريا أن تبدع تقنيا في ما تكتبه. لا أقصد المعنى الحرفي لكلمة حِرفة، أي أن يغدو الكاتب مجرد حِرفيّ يجتر نصه ومصطلحاته، بل عليه أن يغني معجمه ومعارفه وأفكاره وأساليبه: مهاراته، بمطالعة ميادين مغايرة وخارج اللغة والشعر (بما فيها الفنية والفكرية)، وهنا تتكون الذائقة من حيث امتلاكها لخاصية بلاسيكية ومرنة، يمكن تشكيلها عبر الزمن وتطويرها وصقلها.

بالتالي، فلابد أن ينفتح الشاعر على ميادين الفن والمعارف الأخرى، لا أن يظل تائها في دوامة اللغة فحسب، ومقتصرا على مقروئية شعرية فقط. لا بد أن يجعل عينه تقرأ وأذنه ترى، وهذا ملاحظ في تجربة شعراء عالميين كبار استطاعوا أن يمزجوا بين اهتمامهم الشعري والفني، ولنا في بودلير خير مثال، الذي وضع نظريات فنية. فالاهتمام بميدان اشتغال وحيد لا يمكن أن يخلق نصوصا "كونية".. فالنص الكوني هو الذي يجد لنفسه إسقاطات واستعمالات في ميادين متعددة.. وللأسف قليلون هم شعراءنا العرب الذين يهتمون بميادين فنية خارج دائرة اشتغالهم اللغوي والشعري. لهذا لا بد أن ننفتح، إلى جانب الفكر والسوسيولوجيا والفلسفة، على التشكيل والمعمار والسينما والرقص والموسيقى وفنون الجسد الأخرى.

ـــ التشكيل والمعمار والسينما والرقص والموسيقى، بأي معنى يمكن أن نستدخلها في الشِّعر، هل هي شرط شعري، أو إبداعي بالضرورة؟

نحن في زمن موسوم بإلغاء الحدود والفواصل وإزاحة كل الحواجز لصالح التماهي والتشابك والتداخل، وبالتالي احتل اللاتجنيس محل التجنيس، وتم استبدال القاعدة باللاقاعدة، وتم تعويض التفسير بالتأويل وألغي المعنى من الإبداع مقابل التشظي، لهذا بتت الحقول الفنية متداخلة في ما بينها في لعبة لغوية وإبداعية وفنية واحدة، تحمل عنوان "التجريب" والتجريب الدائم، ما يجعل من النص الواحد مضاعف التأويل ولانهائي المعاني، مفتوحا على كل القراءات.

وهو ما يجعلنا نتحدث عن معمار النص والصورة الشعرية والبعد البصري في الكتابة الشعرية وموسيقى النص الداخلية وإيقاعه، وغيرها من المفاهيم التي نستقدمها من حقول خارج ميدان الشعر. ما يجعلها تغدو شرطا للكتابة المعاصرة، ليس بالمعنى القاعدي بل الإبداعي، أي على المبدع/الشاعر أن ينوع أساليبه وأن يخلق تداخلات من خارج اشتغاله اللغوي، فلم يعد الشعر هو ذلك البيان والبلاغة، بل إنه تجربة ذاتية للشاعر تجاه نفسه والعالم وما كوّنه من معارف ورؤى وما رآه من صور وأعمال فنية، وهو ما يجعل الشعر متحرك إلى الأمام مفتوح على المستقبل، شأنه شأن ميادين أخرى فنية مثل فن الفيديو الذي يستدرج أساليب متعددة لخلق منجز بصري فني.

وهنا يمكنني أن أتحدث عن فن أداء الشعر أو البرفورمانس، من أجل الخروج بالشعر من انغلاق الكتب والصفحات القابلة للطي إلى الشارع والمرئي والبصري، ليعود إلى أغورا العالم.

ـــ تتكلم عن البرفورمانس في إلقاء الشِّعر، وأنت هنا، تُغَيِّب المكتوب، لتعوضه بالشفاهي والاستعراضي، ويصبح الشعر خارج سياقه، وهذا، شئنا أم أبينا، هو المسرح عينه، أي كأننا بهذا البرفورمانس، نعود إلى ماضٍ، الشعر استثمره في الكتابة ليخرج من بنية الشفاهة والفرجة والإلقاء التي كانت عند العرب في سوق المربد وذي المجاز؟

مع الأزمة التي حصلت في القرن الماضي على مستوى الفكر والفنون والأساليب الإبداعية، والتي قادت إلى ميلاد براديغم جديد، برز نوع جديد من الشعر لا يهتم بالكيفية التي كُتب فيها، بل يهتم بالطريقة التي سيخرج عبرها إلى العالم المرئي، إذ ونحن نعيش في عصر موسوم بـ"عصر الصورة"، كان ولابد أن يجد الشعر لنفسه مخرجا مرئيا. وهذا ما سيتاح له عبر الجسد، جسد الشاعر أو غيره، ذلك ضمن ما يسمى بـ"شعرية الأداء" (شعر-أداء) Poésie-performance  أو "شعر-حركة" poésie-action أو بالمسمى الرائج "شعرية الجسد"، وهو ممارسة معاصرة، تتقاطع مع فن الأداء وفن "القراءة الأدائية " lecture performée، والتي تعتمد على قراءة النصوص الشعرية أو الأدبية في فضاء عام أمام الجمهور عبر أداء النص واستعراضه جسديا، لا بالمعنى تمثيله، لكنها تستعين بتقنيات المسرح والخشبة، إلا أن الشعر أو النص الأدبي يكون له الحيز الأهم.

وجدت هذه التيارات والأساليب الشعرية-الأدائية أصولها أول مرة في حركات الاستعراض والحدوثية Happening في منتصف القرن العشرين. وخاصة بأمريكا ضمن ما سميّ بـ"الكلمة المنطوقة" Spoken word لحركة بيت Beat المشهورة، والمسماة أيضا بـ"الشعر المقروء". كل هذا نتاج الحركة البصرية والتغير الفني اللذيْن طرأ عليهما تطور ملحوظ داخل كل الفنون، دفعا الشعراء إلى البحث عن أساليب معاصرة تقرّب الشعر أكثر إلى الجمهور الذي كان قد بدأ بهجرانه لصالح ما هو "بصري".

وعلى خلاف "القراءة الأدائية" التي تعتمد على أداء النص المكتوب الذي ليس بالضرورة مكتوب مسبقا لاستعراضه وأدائه، فـ"الشعرية الأدائية" أو "شعر-أداء" يعتمد على لعبِ بشكل جزئي، ضمن براديغم كتابي معاصر، نصٍ شعريٍّ تم كتابته خصيصا لأدائه في حضور الجمهور. لهذا يمكن أن نفكر في تقسيم الحركة المعاصرة للشعر إلى ثلاثة فئات كبرى: 1) قراءة الشعر والتي كانت يمكن اعتبارها شكلا تقليديا فرديا؛ 2) مسرحة الشعر بمعنى عرض مسرحي أدائي للشعر مع ممثلين؛ 3) الشعر-أداء، ويقع هذا الأخير في فضاء متعدد التخصصات، في توتر وتداخل بين الاتجاهات الفنية المختلفة، خاصة مع فن الأداء وتطوراته في حقل الفنون التشكيلية والبصرية، في كل من الشعر الصوتي La poésie sonore (ظهر سنة 1958، وهو ممارسة شعرية تهتم بالشعر مسموعا لا مكتوبا)، وشعر الحركة، وتنوعات الفن الطلائعي كدادا والمستقبلية والسريالية وفلوكسوس والحروفية والحدوثية، وكل ذلك ضمن ثقافة مضادة.

ونحن نلمس هذا التحول في تجربة مليشيا الثقافة العراقية نموذجا، وقد سبق وقمت رفقة الشاعرة البنامية كورينا رويدا بوريرو والفنان التشكيلي المغربي رشيد باخوز بعرض أدائي شعري بمدينة الدار البيضاء، وقد قام في الوقت عينه الشاعر والتشكيلي فؤاد الشردودي ببرفورمانس بمدينة الرباط، ما يعني أن شعراء عرب باتوا منفتحين على هذا الاشتغال الجديد الذي يتكئ على اللاقاعدة والجسد والصورة واللغة في الآن معا.

ـــ كيف تنظر إلى العلاقة بين الشِّعر والفكر، والخيال، كيف تستدرجه إلى ما تكتبه، إذا لم ما تكتبه يتوخَّى، فقط، هذا البرفورمانس الفروجوي الاحتفالي. أنبه هنا إلى بيانات الاحتفالية عند عبد الكريم برشيد، فهي تسير في هذا السياق. أرجو أن تكون اطلعتَ عليها؟

كتابة عبد الكريم برشيد تنتمي إلى المسرح والمسرحة، أي جعل النص مؤطرا بآليات الكتابة والاشتغال المسرحي، ولا أنكر عنها الجدة والأهمية، بينما البرفومانس كما أوضحت في الجواب السابق هو مفتوح على كل احتمالات الجسد، فنحن لا نكتب إلا أجسادنا ولو كتبنا عن العالم الخارجي، لأن هذا الأخير لا يتعرف إلينا وعلينا إلا باعتبارنا أجسدنا ونحن لا نبادره الاعتراف إلا باعتباره أجسادا.

سبق وتحدث عن أن العلاقة بين الشعر والفكر علاقة غير قابلة للانفصال، ولو أن لكل حقل طريقة اشتغاله وأساليبه، وإن تبدو أحيانا عن البعض مثل نيتشه ملتبسة. عموما فكل من الشعر والفكر يستندان على الخيال والمخيلة والتخييل، باعتبارهم ثالوثا لتصور العالم وتشخيص المجرد من أجل وضعه وتوضيحه، وأما البرفومانس فليس اشتغالا فرجويا احتفاليا بل إنه تجسيد، عملية فنية معاصرة تعتمد على اللغوي والجسدي، بحضور متفاوت حسبما تستدعي الضرورة الفنية، أي قول "النص" بطريقة مغايرة لا تستطيع اللغة وحدها التعبير عنها.. فحينما استعصى على اللوحة قول كل ما يريد الفنان قوله تم ابتكار أساليب تعبيرية مثل البرفومانس يمكنها أن تتيح للفنان أن يجعل من جسد ساحة لتجسيد اللامرئي والعصي على الرسم، وهو ما فتح إمكانية لاستدراج المتلقي، وعينه ما يحدث على مستوى البرفورمانس الشعري، ليصير صانعا وفاعلا في العملية الإبداعية بشكل تفاعلي يلغي الحدود الفاصلة بين النص وقارئه/مشاهده، أو بتعبير مارسيل دوشان فالمنجز يصنعه المشاهد، وهو ما يمكننا من إعطاء النص/المنجز الواحد "أرواحا" متعددة تنبع من التأويل المضاعف واللانهائي، كما تفعل مارينا أبراموفيتش في أعمالها الفنية، وهنا تتشابك وتتداخل مخيلة المبدع مع مخيلة المتلقي لنسج النص/المنجز بطرق مختلفة عند كل عملية أداء جديدة، فلا نكون أمام نص منغلق القراءة بل مفتوح على الدوام وقابل لامتلاك "أرواح" لانهائية، إن الشعر موجود في كل مكان، حتى داخل طحانة الفواكه.. علينا فقط البحث عنه وإظهاره، هنا تكمن "المهارة".