رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«خبيئة المرحاض».. كيف أبدع أثرياء المصريين فى إخفاء أموالهم؟

شأنهم شأن كل البشر، يميل المصريون إلى اكتناز المال وحبسه، ويسعدون إذا تراكم أكثر وأكثر.. وأشق شىء على النفس الإنسانية أن تعطى مما تملك من مال. والله تعالى يقول فى كتابه الكريم «وأحضرت الأنفس الشح»، فما بالك إذا جاء من يأخذ هذا المال قهرًا أو قسرًا.. مؤكد أن صاحب المال يقاوم فى هذه الحالة بكل ما أوتى من قوة حتى يحول بين ماله والأيدى التى تمتد إليه.

منذ عصر المماليك، ثم عصر العثمانيين كان أصحاب المال فى مرمى نظر من يجلسون على كراسى الولاية، فأقرب شىء كان يرد على ذهن الولاة والأمراء عند الحاجة إلى المال أن يجمعوه من الرعية، خصوصًا الأثرياء من أفرادها، كذلك فكر السلطان قطز وهو يجهز لمواجهة التتار، وفكر السلطان الغورى وهو يجهز لمواجهة الترك، ومحمد على وهو يواجه الوهابيين.

فى مواجهة هذا الطمع الممنهج من جانب الولاة والأمراء فى مال الأعيان والتجار، وحتى فى مال بعضهم البعض، إذ كان يطمع كل أمير مملوكى فيما يحوز غيره، ابتكر المصريون طرقًا متنوعة فى إخفاء ما يملكون من أموال. وعبارة أخفى ماله «تحت البلاطة» لم تزل تحمل دلالة على حرص المصريين على تخبئة أموالهم، حتى لو اقتضى ذلك منهم فى بعض الأحوال الظهور فى صورة الفقراء البؤساء حتى لا تمتد إليهم الأعين الطامعة.

أسباب عديدة أخرى كانت تدفع المصريين إلى إخفاء الأموال، صغر حجمها أو كبر، بل وإخفاء غيرها مما يعتبرونه نعمًا من الله تعالى بها عليهم، مثل الأولاد والمتاع وحتى البهائم، من بينها: الخوف من الحسد وطلب الستر وما إلى ذلك، حتى أصبحت لازمة شعبية رغم اختفاء السبب أحيانًا.

لكن الحيل التى اتبعها المصريون فى إخفاء مالهم عن عين السلطة أمر، والحيلة الفريدة من نوعها التى ابتدعها المعلم «فلتوس» أمر آخر. وقد حكى حكايته «ميكل ونتر» فى كتابه «مصر تحت الحكم العثمانى» الذى ترجمه إبراهيم محمد إبراهيم وراجعه عبدالرحمن عبدالله الشيخ.

كان ذلك فى عصر الوالى محمد على باشا، وتحديدًا فى العام ١٨١٣، حين كانت الحرب بين جيش الوالى والوهابيين فى نجد والدرعية وغيرهما من أنحاء الحجاز قد انطلقت. 

فى بداية الحرب لم يكن لجيش محمد على، بقيادة ولده طوسون باشا، اليد العليا فى المعركة، بل كانت للوهابيين، وأرهقت الخسائر والمدد المطلوب لدعم القوات المصرية هناك ميزانية الدولة، فلجأ محمد على إلى أسلوبه المعتاد والموروث عن عصر المماليك فى الحصول على المال، فانطلق إلى الرعية يفتش فى جيوب أغنيائها وفقرائها.

كان هناك أغنياء ورجال مال متعددون فى مصر فى ذلك الوقت، وأغلبهم كان من التجار والأعيان، من بينهم قطاع لا بأس به من الأقباط، وقد تعود محمد على كلما احتاج أن يفرض على أبناء هذه الطائفة مبلغًا مقطوعًا من المال يتقاسم دفعه كبار رجال المال، ويسهم كل فرد منهم فيه بنصيب، حتى يكتمل المطلوب من قبل الوالى.

فى ذلك الوقت طلب الوالى من القبط العاملين فى المجال المالى فى مصر دفع ١٨ ألف كيس، كان نصيب «فلتوس» فيها ١٢٠٠ كيس. كان المبلغ كبيرًا يليق بـ«فلتوس» الذى كان أيضًا ماليًا كبيرًا، لكنه كان مثل كل المصريين من أصحاب المال يدّعى الفقر من أجل صرف الأعين الطامعة عنه سواء أعين السلطة، أو حتى أعين الأهالى.

دخل جباة الوالى فى مفاوضات مع «فلتوس»، أخذ الرجل يردد فيها أنه كبير طاعن فى السن ولا يملك من حطام الدنيا شيئًا، لكن الجباة لم يقنعهم هذا الكلام، فأخذوا يضغطون عليه، فبدأ الرجل فى مساومتهم، وعرض عليهم أن يدفع ٢٠٠ كيس وفقط، وربط رأسه على ذلك، فأرسل الجباة بنتائج المفاوضات إلى الوالى، فاستدعاه الأخير إلى حضرته، وتهدده وتوعده، لكن «فلتوس» ثبت على موقفه فى عدم دفع أكثر من ٢٠٠ كيس، فما كان من الوالى إلا أن حكم عليه بالجلد ٥٠٠ جلدة.

سقط المسكين الذى أهلكته السنون فى قبضة الجلاد، فأمطر ظهره بقسوة، لكنه واجه المحنة بصلابة وثبات، وتحمل فى صبر، لكن هيهات ألا تترك هذه المحنة أثرها فيه. ظهر «فلتوس» بعد العقوبة مهدمًا تائهًا زائغًا موجوعًا متألمًا، لكنه أصر على أنه لا يستطيع أن يدفع سوى ٢٠٠ كيس، هى كل ما يملك.

صدّق الوالى محمد على «فلتوس»، إذ لم يتصور أن الرجل يكذب بعد أن ثبت أمام ٥٠٠ جلدة جعلته نصف ميت، وأراد أن يأخذ منه الـ٢٠٠ كيس ويصرفه، لكن ولده إبراهيم باشا تدخل فى الأمر وقال لوالده إنه متأكد أن الرجل يملك مالًا أكثر بكثير من هذا المبلغ، وأنه يصر على إخفائه. ونتيجة لذلك تقرر جلد «فلتوس» ٣٠٠ جلدة أخرى بدأت تنزل على ظهره إلى أن أصبح حطامًا، بعدها أقر الرجل بأنه يملك المال، وأنه سوف يقدم الـ١٢٠٠ كيس المطلوبة منه، وسوف يدل على خبيئته المالية ويدفع.

منح الوالى أسبوعين لـ«فلتوس» حتى يستشفى ويستطيع المشى. وبعد مرورهما جاءت فرقة الجباية وقادها «فلتوس» إلى المكان الذى يخفى فيه ماله، سار بهم من حارة إلى حارة، ومن شارع إلى شارع، حتى وصل إلى «مرحاض» دخله «فلتوس» ومن ورائه الفرقة، ثم أشار إلى حجر وطلب من العمال رفعه، ففعلوا، فوجدوا أسفل منه حفرة على شكل ممر يرقد بها صندوقان حديديان، قام الجباة بفتحهما فوجدوا فيهما ٢٠٠٠ كيس، فأخذ الجباة منها الـ١٢٠٠ كيس المطلوبة، وتركوا له الباقى «٨٠٠ كيس».

كانت قد مرت ثلاثة أشهر، حين أعلن أن «فلتوس» قد وافاه الأجل ومات. يقول صاحب كتاب «مصر تحت الحكم العثمانى» أنه لم يمت من الجلد بل مات حزنًا وكمدًا على الـ١٢٠٠ كيس التى دفعها قهرًا وقسرًا. كان الجباة بالطبع يعلمون أن هناك ٨٠٠ كيس بقية ثروته ما زالت ترقد فى قاع المرحاض.

هرولت فرقة الجباية بأوامر من الوالى حتى وصلت إلى المرحاض، أمروا العمال برفع الحجر، ثم نظروا فى الحفرة فإذا هى خاوية على عروشها، اختفا الصندقان الحديديان واختفى المال، أمر محمد على بالتفتيش عن المال فى كل مكان لكن الجباة لم يصلوا إلى شىء.

ومات فلتوس دون أن يعرف أحد كيف تحرك إلى المكان وكيف نقل ما تبقى من ثروته منه وأين أخفاها؟