«الذوق مخرجش من مصر».. خَرَجت روحه قبل الرحيل
لم تحتمل خُطى الرجل أن تُغادر موطنه، ولم تقو قدماه على الرحيل من مصر التي ذاب عشقًا فيها، وكرسّ حياته بحثًا عن السلام لأهلها.
هُنا عاش مُحبًا ومحبوبًا وخادمًا لأهلها، وهُنا انتشرت الروح في كل شِبر منها، فلم يقو الجسد أن يرحل دونها، وسقط مُفارقًا الدنيا على باب الفتوح في القاهرة الفاطمية.. «الذوق مخرجش من مصر».
مقام صغير يحمل اللون الأزرق، على باب الفتوح، كَتبَ نهاية كفاح الرجل من أجل الخير، وبداية سيرة تخطت حدودها الجُغرافية التي دارت فيها، لتتناقلها الأجيال، بمن فيهم من لا يعرفون عنه سوى جملة باتت ترتبط ببطل عاش هُنا، وأصبحت تُقال لمن يُسيء لغيره، بأن «الذوق لم يخرج من مصر»، في عتاب لأي خطأ كان يتصدى له الرجل الساعي للخير دومًا بين الناس، والحفاظ على ثوابت المجتمع.
على بُعد أمتار من بداية باب الفتوح، وفي جِهة اليمين للمُغادر أسوار القاهرة الفاطمية، يرقد جسد الرجل في ثرى سقط فيها مُفارقًا الحياة، في حين كان يُغادر حزينًا هذا الوطن الذي لم يطِق فُراقه.. فكرّمه أهله بدفنه في مكانه، وصار رمزًا عاشقًا للوطن، كما عاش باحثًا عن الخير بين مواطنيه.
لا يعرف الكثيرون هُنا حكايته بدِقة، من بينهم الرجل الستيني عبدالتواب حامد، الذي يعمل دومًا على العناية بنظافة المكان ضمن نطاق عمله في الشركة التابع لها، لكنه يتحدث بفخر وهو يُفصح عن المشهد الذي يعرفه عن «الذوق».. هو مشهده الأخير في الحياة، حينما فارقها حزينًا على رحيله منها، فدفنوه في نفس المكان ـ يتنهد رجل النظافة وتكسو وجهه ابتسامة وهو ينطق «سيدي حسن الذوق» بتعظيم للرجل.
كثيرون يمرون من هُنا، بعضهم يتوقف فجأة ليقرأ الفاتحة على روح الرجل.. أيادِ تُرفع تزامنًا مع تلاوة آيات القرآن أمام مقامه، وأجساد تقف منصوبة احترامًا للنائم بين الثرى، وأعيُن تتأمل جُدرانه الخضراء كأنها ترى من فيها.. لكن حكايته بالتحديد تاهت تفاصيلها بين روايات عِدة، وإن اتفقت في مضامينها حول دوره في البحث عن دواء لجِراح بني وطنه، وحبه لمصر، وحُزنه عِند الرحيل، ونهايته على أعتابها قبل الخروج، من بينها ما يرويه صهيب عادل، صاحب ورشة قريبة من المقام، بأنه (الذوق) كان عالمًا في الأزهر الشريف، وتعرض للظلم من حاكم مصر، وتوفى عند خروجه منها أمام باب الفتوح.
رواية «صهيب»، تبقى ضمن ثلاث روايات تتحدث عن نشأة الرجل وأصوله، وسبب الرحيل، إحداها تقول إن جذوره مغربية، وكان تاجرًا ناجحًا، وعندما مرِض أراد أبناؤه نقله إلى المغرب للعلاج هُناك على غير رغبته، مات قبل أن يُبارح مصر.. وثالثة تتحدث عن مساعيه في الصلح دومًا بين الناس، وكان الجميع يُقدر كلمته ويُنفذها، غير أن هذه المرة لم يلق منهم استجابة، فحزِن بشدة، وقرر الرحيل.. فمات على بابها.
حسن النحلة، نقيب المرشدين السياحيين، يتحدث هو الآخر عن الروايات الثلاث التي تدور حول الرجل، قائلًا إن الشعب المصري معروفة برُقيه، وأخلاقه، والذوق العالي على مدار التاريخ، مؤكدًا أنها أحد العوامل التي تجعل أي سائح أو مغترب داخل مصر، يشعر بارتياح نفسي، ويُقرر العودة إليها كلما أُتيحت له الفرصة.. مضيفًا لـ«الدستور»: وبالفعل.. الذوق لم يخرج من مصر، وسيبقى فيها مدى الحياة بين هذا الشعب الجميل.