«فتيات الأرصفة».. تفاصيل وحكايات عن الرقص المصري في قاهرة المعز
قص الكاتب المصري بيجاد سلامة في كتابه "الرقص بين أهل الدين وأهل السياسة" حكايات عن الرقص المصري، وسرد قصة الرقص في قاهرة المعز.
يقول بيجاد سلامة: "لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن القاهرة أحفل بلد فى الشرق الأوسط بالطرب والملاهى والترويح عن النفس، فقاهرة الفاطميين كانت تلهو وتطرب، وقاهرة الأيوبيين كانت تلهو وتطرب، وقاهرة المماليك كانت تلهو وتطرب حتى قاهرة العثمانيين كانت تلهو وتطرب، فإن طبائع أهل هذا البلد غالب عليها حب التنفيس عن القلب والترويح عن النفس، فأهله ظرفاء فلاسفة ضاحكون دائمًا، وقد حدث أن نابليون حين دخل القاهرة أبصر فى طريقه مائة عرس تذخر بالطبول والمزامير، فعجب القائد الفرنسي وقال: «عجبت لهذا البلد الذى لا يعزف الحزن أبدًا».
ويواصل: "فأهل القاهرة مرحون، يعجبهم السهر والسماع واللهو والاختلاف إلى دور اللهو، والمتنزهات فى كل العصور ويحبون الشراب والسماع والاحتفاء بزفافهم وختان صبيانهم وتوديع بعضهم بعضًا عند ذهابهم إلى حجهم وعند عودتهم منه كما يحب المسلمون منهم تعظيم نبيهم وصلحائهم فى ليال صاخبة آونة، وقورة آونة أخرى تضطرب بالطبل وبالزمر وتسكن بالقرآن وتلاوته.
ويضيف: "كانت حانات القاهرة فى أيام الفاطميين والأيوبيين والمماليك تقع فى أطرافها على النيل مثل «طموه والجيزة وناهيا»، وطرة أيضًا كانت ضاحية تقع فيها بعض معاصر الخمر وحاناتها، وفى قلب القاهرة كانت هناك «حارة الروم وحارة النصارى وقنطرة الوز وبركة الأزبكية» وكانت هذه الحانات يديرها غالبًا غير المسلمين من الأقباط واليهود وطالما بعث الخلفاء والسلاطين بالأوامر لغلق هذه المعاصر وتلك الحانات، وكثيرًا ما كانوا يبعثون بالشرطة لدهم هذه الأماكن وكسر آنية الخمر وسوق السكارى إلى دور الحاكم ليعاقبوا هناك بإقامة الحدود عليهم ولكن هذا لم يقعد قط بأصحاب المعاصر والحانات عن إعادتها بل كانوا يعيدونها ثانية لاستقبال المجان واللاهين والمتنزهين.
وينوه سلامة بأن القاهرة كان بها كثير من الحانات لارتياد السكارى والمتبطلين فقد حدث أن أحد القضاة ظفر بسكير، فلما أراد إقامة الحد عليه أنكر الرجل علمه عن الخمر شيئًا حتى أماكن حاناتها تجاهلها فلما عدد القاضى له أسماء حانات القاهرة وكانت تبلغ العشرين حانة قال الرجل: أصلح الله القاضى إنه أعلم منى بالحانات فهو أولى بالحد.
ويؤكد: "وكانت تقام على خليج أمير المؤمنين والخليج الناصرى، أمكنة يرتادها القاهريون ليسمروا فيها ويتنادرون كما كانوا يرتادون بركة الأزبكية حيث حديقة الأزبكية الآن تشمل بعضًا منها بعد أن ردمت كلها وكانت هذه البركة تتغذى من الخليج الناصرى وكذلك بركة الحبش ومكانها فى طريق المعادى وبركة الفيل ومكانها قريب من السيدة زينب، وكانت هذه البرك تضطرب بأصحاب اللهو البريء وغير البريء.
ويواصل: فكان إذا فاض النيل اجتمع أهل القاهرة حول هذه البرك، كما كانوا يجتمعون حول خليجى أمير المؤمنين والناصرى ومعهم طعامهم وشرابهم وأدوات لهوهم من عيدان وأرقاق وطبول فيلهون ويغنون ويطربون، وكان الأغنياء منهم يمتطون صهوات جيادهم ويجوبون هذه الأماكن متنزهين وكان المماليك ينزلون فى مقاه على بركة الأزبكية لتدخين الحشيش وشرب الخمر، وكان حى بولاق خاصة يعج ببؤر تدخين الحشيش، وظلت هذه البؤر تمتد من كوبرى بولاق إلى جمعية الإسعاف حتى أوائل القرن العشرين.
وكان شارع «بين النهدين» المعروف بالسكة الجديدة اليوم عام 1958م معدًا للبغاء، وكانت نساؤه من الأرمن، ولكنه كان بغاء سريًا غير مصرح به من الدولة فأول من أباح البغاء الرسمى: الفرنسيون، كذلك كان هناك حى يمتلئ بالبغايا ويؤمه الفساق من أهل القاهرة اسمه: «الربع الزيتى»، وقد ذكره بعض الزجالين فقال: «يا ستى وين حبيتى.. قالت فى ربع الزيتى»
وكان فى القاهرة فى القرن الرابع عشر الميلادى: ساحة واسعة فى حى باب اللوق فيها ملاعب للهو البريء كالبهلوانات «السيرك» وللحواة الذين يلعبون بالثعابين ومروضى القرود وخيال الظل وكانت هذه الساحة تقصدها النساء وهن محجبات والأطفال والرجال وقد ظلت عادة هذا اللهو البرىء حتى عصرنا هذا فقد كان سوق العصر فى جوار قلعة صلاح الدين يزخر بمثل هذه الملاهى، كما كانت تقام عند زواج الأمراء والملوك من بيت محمد على ليلهو عندها الشعب فى الساحات العامة.
كان الخلفاء من الفاطميين والسلاطين من الأيوبيين والمماليك يسمرون فى قصورهم، فكانوا يقتنون الجوارى المغنيات والمضحكين من الرجال كانت إذا صليت العشاء يجتمعون فى هذه القصور هم وأصدقاؤهم وندماؤهم وينصبون الأستار التى تجلس خلفها القيان بعيدًا منهن يضربن عليها ويغنين الأصوات المختارة، بأصواتهن الرقيقة بينما تدور الكئوس على هؤلاء السادة المترفين فيشربون ويطربون.
وقد أخذ هذا الضرب من اللهو خلفاء بنى أمية وخلفاء العباسيين عن الفارسيين وتبعهم فى ذلك خلفاء الفاطميين وسلاطين الأيوبيين والمماليك. وقد انتشرت هذه العادة فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فى حفلات الزفاف والختان.
وكان بعض القاهريين يحترفون الغناء والموسيقى فى القرون الوسطى فكانوا يحيون الليالى الخاصة والعامة، ومن هؤلاء «نسب الطبالة» التى ضربت للمستنصر الفاطمى وغنت له فأقطعها حى الفجالة كله.
فيما ظل أغلب لهو القاهريين فى دورهم يجتمعون له ويحتفلون به حتى أواخر القرن التاسع عشر حيث نشأ حى الأزبكية فاندفع الناس إليه، ويعزى السبب فى إنشاء هذا الحى إلى جيش الاحتلال الإنجليزى الذى لابد له أن يلهو، فقامت بعض الدور التى كانت تحتلها نساء أجنبيات ومصريات لمتعة الجيش المحتل ثم أخذت هذه الدور تنتشر وتكثر حتى بلغت المئات وزحمت عدة شوارع منها شارع «كلوت بك، الوسعة، درب عبدالخالق، حارة الكراسى، حارة الجبرونى» فى شارع الجمهورية فيما بعد وشارع التليفزيون أمام ملهى الأوبرا وكان سكان هذا الشارع ومن النساء الأجنبيات وكان يطلق عليهن «فتيات الأرصفة» وذلك لتسكعهن فى الطرقات لجلب الصيد الحرام.
وقتها وعلى الرغم من أن الرقص الشرقى المتقن والغناء الشرقى المتقن كانا فرسى رهان السينما الغنائية المصرية فى عصرها الذهبى الممتد من أوائل أربعينات القرن العشرين حتى أوائل السبعينات. كانا جناحى طائر محلق يرتفعان معًا ويهبطان معًا، وفى كثير من الأحيان لم يقل خصر الراقصة أهمية عن حنجرة المطرب فى نشر الموسيقى لجمهور واسع، وكان الوسط وسيطًا موسيقيًا لا يقل أهمية عن الصوت، ولم تخلُ الكتابات الاستشراقية فى القرن التاسع عشر من وصف واقعى نوعًا ما للغوازى.