د. محمد الباز يكتب: دبلوماسية الأعصاب الهادئة.. كيف تنتصر مصر فى معاركها دون خسائر؟
كان يمكن للدولة المصرية بعد ٣٠ يونيو أن تسلك الطريق السهل فى إدارة معاركها.
كان يمكنها أن تخلق حالة من التعبئة الشعبوية الصاخبة خلفها فى معاركها التى أحاطت بحدودنا الأربعة، وهى كثيرة ومتشعبة ومعقدة.
كان يمكنها أن تؤجل كل شىء وأى شىء، لا تسلك طريق التنمية، ولا تلتفت لاحتياجاتنا فى البناء، ولا تبادر بالإصلاح الشامل اقتصاديًا واجتماعيًا، بحجة أن الأولوية للحرب ضد الإرهاب ومواجهة القوى والأجهزة التى تهدد الأمن القومى، وساعتها كانت الدولة ستعلى من شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» دون أن يراجعها أو يعاتبها أحد.
كان يمكنها أيضًا أن تتفاعل مع المراهقة السياسية التى ذهب إليها البعض، وتستجيب للدخول فى حروب مباشرة، بل كان يمكنها أن تتورط فى معارك خارج الحدود.
شىء من هذا لم يحدث، ليس لأن الدولة المصرية غير قادرة عليه.. لكن لأنها لم تكن راغبة فيه.
وهنا يمكننا أن نمسك بالملمح الأساسى فى فلسفة الدولة المصرية الجديدة، وهى الفلسفة التى أطلقت عليها مبكرًا جدًا «دبلوماسية الأعصاب الهادئة».
لو جربت وحاولت رسم خريطة للمعارك التى فرضت على الدولة المصرية منذ ٣٠ يونيو، ستجدها معارك وجودية، معارك لا وجود فيها للمناطق الرمادية، فإما أن نكون أو لا نكون.
كانت لدى خصوم الدولة المصرية وأعدائها، فى الداخل والخارج، فلسفة لمستها مبكرًا أيضًا، وهى فلسفة «الاستفزاز المطلق».. فقد عمدوا من خلال قنواتهم المخابراتية ومنصاتهم الإعلامية إلى استفزاز الدولة المصرية ومسئوليها بالحد الأقصى من الاستفزاز، علهم يُخرجون الدولة المصرية عن سياقها الذى صنعته لنفسها بحكمة وروية وهدوء شديد.
حافظت الدولة المصرية على هدوء أعصابها، لم تنجح كل محاولات استفزازها والتجاوز فى حق مسئوليها، سياسيًا وشخصيًا، فى دفعها إلى سلوك عصبى أو منفلت، بل التزمت مصر الرسمية فى مواجهة حملات التشويه والسفالات والانحطاط بالصمت التام، فلم ترد، ولم تعلق، بل لم يأت على لسانها اسم أحد ممن كانوا يتعمدون جر شكل مصر.
التعبير دقيق رغم شعبيته، ورغم أنه لا يليق بدول مفروض أنها كبيرة، فقد كانت هناك محاولات كثيرة لجر شكل مصر بشكل علنى وسافر.. وسافل أيضًا.
بعد أن ترسم خريطة المعارك، حاول أن تقف ولو وقوفًا عابرًا على النتائج.
اسأل نفسك مثلًا ماذا فعلنا فى ليبيا؟
بتصريح واحد «سرت والجفرة خط أحمر»، انقلبت الخريطة السياسية، وتحولت المعارك إلى المسار الذى حددته مصر من البداية.
لم تنتصر مصر بتصريح إنشائى أجوف، فقد كان التصريح انعكاسًا لقوة على الأرض، ولو شعر الخصوم بأن التصريح كان إنشائيًا لما استجابوا وتراجعوا.
اسأل نفسك ماذا فعلنا فى تركيا وقطر؟
لا يمكن أن يمسك أحد على مصر تصريحًا واحدًا منفلتًا، أو لفظًا، مجرد لفظ فيه تجاوز فى حق أحد، لكن فى النهاية استطعنا أن ندفع المعاندين جميعًا إلى طلب الرضا والوصال، وعندما جاءوا إلى مائدة طلب الصلح وضعت مصر شروطها التى لن تتنازل عنها أبدًا.
اسأل نفسك ما الذى فعلناه مع الإدارة الأمريكية الجديدة؟
لم نعرض أنفسنا عليها، لم نطلب ودها، كل ما فعلناه أننا أثبتنا عمليًا من خلال موقفنا فى غزة أن مفاتيح الشرق الأوسط كلها فى مصر، وليست فى أى عاصمة أخرى، ولأن الحل كان عندنا، فقد رأينا الخطوط المفتوحة بين البيت الأبيض وقصر الاتحادية على مدار الأيام الماضية، وما فيها من مباحثات وتشاور ونقاش حول قضايا المنطقة.
مصر الجديدة قررت ألا تخسر، بعد سنوات قضتها فى فوضى واضطراب، استطاعت أن تلملم شتاتها، وتستعيد قوتها، وتبث الروح فى مؤسساتها، ثم تواجه الجميع، وهو ما حدث، وليس لمن يسألون عما ستفعله مصر فى سد النهضة إلا أن يراجعوا ما فعلناه فى كل الملفات الخارجية.
يبدو من بعيد أن مصر صامتة، لا تقوم بما يجب عليها فى أزمة وجودية أخرى، لكن من يعرفون ما يدور خلف أبواب الغرف المغلقة، يثقون فى أننا كما انتصرنا فى معاركنا الخارجية بدبلوماسيتنا الهادئة الواثقة، سننتصر فى هذه المعركة أيضًا.
وإن غدًا لناظره قريب.