رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل خورشيد يكتب: الليلة الأخيرة.. ماذا قال النسوة عن «غزال البر»؟


تعددت الروايات، والحقيقة الواحدة، أن الجملة الأصيلة، تعيش للأبد، إلى أن يتوقف النسل، فلا يكون سلف ليرث.

عبر أثير الإذاعة خرج صوت شادية يصرخ عام 1966، وهي تقول: «قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. أحسن حبيب القلب صابح ماشي».

الروايات تعددت حول من هو "حبيب القلب"، أو المقصود في الأغنية الأصلية "غزال البر"، الرواية الأكثر قوة وواقعية، والتي أوردها الشاعر والكاتب الصحفي محمد العسيري في كتابه "100 سنة غنا"، أنه إبراهيم ناصف الورداني، والذي اغتال رئيس وزراء مصر وقتها (1910)، بطرس غالي، لتعاونه مع الإنجليز، وإلى جانب عدد من الملفات السيئة في مسيرة الأخير منها رئاسته لمحاكمة المصريين في دنشواي، كان ظهور وثيقة لمشروع تمديد امتياز شركة قناة السويس 40 عاما إضافية من 1968م إلى 2008م.

هناك رواية أخرى، تتعلق أيضًا بالإنجليز، فقيل إن مطلع الأغنية، وهو الشيء الوحيد المتبقي منها والذي تناقل عبر الزمن كانت تقوله الأمهات لوداع أبنائهن الذين سخرهم الإنجليز لحفر قناة السويس.

وسواء كان هذا أو ذاك، فإن الأغنية كانت تمثل نوعا من العديد والنواح الشعبي، وهي لها قصة طويلة، حتى وصلت للنسخة الأخيرة التي نرددها نحن، والتي غنتها الفنانة شادية ولحنها بليغ حمدي، وكتبها مجدي نجيب.

الحقيقة الواحدة هنا هي تلك العبارة: "قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لاحسن غزال البر صابح ماشي".

لا أحد يعرف من كتبها، ولا من نقلها، لا يوجد توثيق لها، وكما يوضح "العسيري" في كتابه، فهناك العديد من الأغنيات والعبارات التي نرددها مثل "وحوي يا وحوي إياحة"، يكون لها أصول قديمة، وتظل تتناقل عبر الزمن، وفي أحيان كثيرة لا نعرف من صاحبها. يمكن فقط أن نقول إن المصريين فعلوا ذلك، لكن من هم تحديدا لا نعرف.

ما يهمني هنا سد فجوة، وضع صورة لليلة القاتمة، التي سبقت رحيل "غزال البر" إلى هذا المصير المظلم، الذي لن يعود منه مرة أخرى، كف تودع من تحب جبرا، ليس هناك سوى النواح، ربما تواسي الكلمات النفس!

أتصور تلك الليلة.. جلس نسوة من أهل "اللي ماشي"، تربعن على الأرض في دائرة، لا حول لهن ولا قوة، الدموع تتسابق إلى التراب، من سيدفن أولا؟!

قلن:
- هيروح الواد..
- غزال البر.. واحد مفيش منه تاني
- ماشي.. مش هيجي تاني
- صابح ماشي
- الولا ماشي.. في عز الشمس
- واحنا في الصيف
- وعين الشمس حامية
- قولوها ما تحماشي
- الولا ماشي
- قولوا لعين الشمس ما تحماشي لاحسن غزال البر صابح ماشي
- قولوا لعين الشمس ما تحماشي لاحسن غزال البر صابح ماشي

كلهن بدأن يرددن ويعددن، ويبكين، كانت الكلمات ترج قلب الأطفال قبل الرجال، كانت الرمال تقفز لتخفي "غزال البر" عن عيون الصيادين، صاروا يرددونها حتى أصبحت تتناقل مع الحكايات من جيل لجيل.

وكحال التراث الشعبي، يفتقد لمسألة التوثيق، وعندما يحين الوقت، يكون متأخرا، الكلمات تناثرت وتحورت وتحولت، ولكن يبقى الصدق ويعيش.

«قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. لاحسن غزال البر صابح ماشي».. كانت المذهب الذي استهل به أكثر من ملحن وكاتب رحلة حمل عاتق استكمال النص.

بدأت الرحلة، وكما يذكر "العسيري" في كتابه، من أمينة شخلع، والتي كانت من عوالم شارع محمد علي، وأخذت الكلمات لطابع عاطفي، بعيدا عن القصد، ولكن لم يبق من الأمر سوى الخبر نفسه، أما اللحن والغنوة فقد فقدت.

لم يطل الأمر كثيرا، حتى كانت المحاولة الثانية - ونحن ما زلنا مع كتاب «100 سنة غنا» - على يد الموسيقار إبراهيم رجب، والشاعر عبد الرحمن الأبنودي، وغناها محمد حمام، ولكن كما يقول المؤلف «لم تصل لجمهورها».

كلمات الأبنودي نقول منها:
قولوا لعين الشمس ما تحماشي
إلا غزال البر صابح ماشي
لما تقرب هالة
قولوها رشي الضلة
وآدي ولاد البلد
واقفين ولد ولد
بيودعوا القمر

لم يبعد الأبنودي كثيرا عن الطابع السياسي للأغنية، لم يبعد كثيرا عن مطالبته الكون بأن يكون رحيما مع «اللي ماشي».

مرة أخرى، أحيا المطرب والملحن زكي مراد، وكتب كلماتها الشاعر الغنائي عبدالفتاح مصطفى، ولكن لم تصل هي الأخرى لجمهورها.. وكانت تقول:
قولوا لعين الشمس ما تحماشي
إلا غزال البر صابح ماشي
نادت عزيزة قلنا جايلك يونس
فوق الفرس الأبيض مسافر تونس

واستمرت الكلمات في قطعة "مصطفى - مراد" الفنية، تتنقل بين أكثر من دولة وعلى نفس الموال، ونفس المنطقة التي جاء منها البيت الأول وتناقله اللسان الشعبي.

بعد سنوات حدث الأمر العظيم، حيث جاء ثلاثة أحدهم استرق السمع على النسوة اللائي بكين "غزال البر" وقرأ أفكارهن، وأخذ منها وكتب الكلمات ووثقها، وملحن كشف سر قلوبهن وسمع نبضها، ووضعه في نوتة موسيقية، ومطربة، تملك صوتا يُمثل!

جاء المبدع الأعظم بليغ حمدي، وقرر أن يعيد إحياء الكلمات مع الحفاظ على التيمة، والحالة التي صُبغت بها الصنعة الأولى، وكان أن اختار الشاعر والفنان التشكيلي مجدي نجيب لكتابة كلماتها، وغنتها شادية، وهي الأغنية الأشهر والتي نعرفها حتى الآن:

قولوا لعين الشمس ما تحماشي.. أحسن حبيب القلب صابح ماشي
ماشي حبيبي ماشي ماشي بكره ماشي
يا حمام يا حمام - طير قبله قوام يا حمام- خلي له الشمس حرير يا حمام
ويا ناس لو غاب ياناس خلوه يبعتلي سلام
دي الآه بقولها وهو ما يدراشي وفي بعده طعم الدنيا ما يحلاشي
قولوا لعين الشمس ما تحماشي
لا حنام ايام ولا حتى اشوف احلام
أيام وازاي لو غاب حتفوت الأيام
ويا ناس لو غاب يا ناس خلوه يبعتلي سلام
اه ياناس مطرح خطاويه ما تروح
اسقوه بحنان اسقوه تردوا له الروح
دي الآه بقولها وهو ما يدراشي وفي بعده طعم الدنيا ما يحلاشي
قولوا لعين الشمس ما تحماشي

صوت شادية لم يختلف كثير عن النواح والعديد الذي يمكن للنسوة أن تفعله، جرب أن تغني معها، ستشعر أن الكلمات تخرج من صدرك، ليست فقط مجرد حروف تنطق من الحنجرة، ليست تمثيل، ستشعر أن صوت شادية يبكي على الولد، ستراها تجلس معهن متربعة على الأرض وتضع الرمال على رأسها وتصرخ وتبكي. سترى لحن بليغ يحمل النعش، يقطع حبل المشنقة، يرفس الُمحتل بعيدا، ستراه يقف بصدره العاري في وجه الزمن، يرقص على إيقاع الخطر.

بعد ذلك كانت هناك محاولة أخرى، وهي أيضًا لم تكن شهيرة بنفس القدر الذي حققته التي غنتها شادية، وكانت لـ محمد رشدي، مع مزجها في أغنية "راية النصر" وكانت من ألحان بليغ حمدي، وكلمات محمد عبدالنبي.

الشاهد هنا، أن الكلمة الصادقة تعيش، والموقف الصادق يبقى. إبراهيم الورداني عاش 24 عاما فقط، لم يفعل شيئا يذكر سوى أنه أطلق رصاصاته على صدر المحتل، وإن كان الدرع هو "بطرس غالي".

لم تفعل الأمهات اللائي عددن على رحيل أولادهن شيئا، لم تحاولن التوثيق، لم تفعلن شيء، سوى أنهن نطقن من قلوبهن، فعبرت كلماتهن الزمن.