رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل لنا أن نخاف مثلهم؟


مع بدء موسم الانتخابات الأمريكية، وسباق الرئاسة الذى انطلق منذ أسابيع، فأعاد للأذهان بعضًا مما جرى فى العام ٢٠١٦، حيث جرى خلال تلك الجولة التى تولى وفق نتائجها دونالد ترامب مقعد الرئاسة، العديد من الوقائع ذات الصلة بمواقع التواصل الاجتماعى، مما استلزم تحقيقات لم تفضِ إلى إجراءات أو قرارات محددة، ربما ليس سوى دفع غرامات مالية قامت شركة «فيسبوك» بسدادها، حين قررت المفوضية الفيدرالية للتجارة فى الولايات المتحدة، فرض غرامة بقيمة خمسة مليارات دولار على شركة «فيسبوك» لتسوية قضية انتهاك خصوصية بيانات مستخدمى موقع التواصل الاجتماعى الشهير.
فقد قامت المفوضية حينئذ بالتحقيق حول استخدام شركة «كمبريدج أناليتيكا» للاستشارات السياسية، بيانات «٨٧ مليون مستخدم» على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» دون موافقتهم، واستندت فى قرارها إلى أن هذا السلوك من قبل الموقع والشركة يعد انتهاكًا للاتفاقية المبرمة فى ٢٠١١، التى تنص قواعدها على ضرورة إخطار المستخدمين والحصول على «موافقتهم»، حال مشاركة بياناتهم مع طرف ثالث. يبقى لتنشيط الذاكرة أن شركة «كمبريدج أناليتيكا» هى شركة استشارات سياسية بريطانية، تمكنت حينها من الوصول إلى بيانات الملايين من مستخدمى «فيسبوك»، حيث يعتقد أن بعضها استخدم للتأثير نفسيًا على الناخبين فى الولايات المتحدة، عبر استهدافهم بمواد من شأنها مساعدة دونالد ترامب فى حملته الانتخابية فى ٢٠١٦. وقد تمكنت الشركة البريطانية من الحصول على البيانات؛ عبر تطبيق يطلب الإجابة عن بعض الأسئلة عبر الإنترنت، وخلاله كان يدعو مستخدمى موقع التواصل الاجتماعى لاكتشاف نوع شخصيتهم، وكما كان شائعًا فى ذلك الوقت أنها لم تكن مصممة للحصول على بيانات المستخدمين فقط، لكن يمكنها الوصول لبيانات أصدقائهم أيضًا!
مؤخرًا وبتجدد ذاكرة تلك الأحداث، مع بدء ماراثون الانتخابات الأمريكية ٢٠٢٠، نشرت جريدة «الجارديان» البريطانية مقالًا تحليليًا شديد الأهمية، كتبته «كارول كادوالادر» المراسلة والكاتبة فى الأوبزرفر، تحت عنوان: «إذا لم تكن خائفًا من فيسبوك، فأنت لم تنتبه». وفيه تؤكد أن أمريكا وفيسبوك صارا شيئًا واحدًا، وتصف العالم فى ٢٠١٦ بأنه كان «بريئًا» بأكثر مما ينبغى أمام اعتقاد، أن وسائل التواصل الاجتماعى تربطنا، وأن الاتصالات حينها كانت جيدة، فهذه التكنولوجيا تعادل التقدم، والتقدم طوال الوقت يعد أفضل. فى حين يبدو العالم وقد تعرض لـ«جائحة» وسائل التواصل الاجتماعى، وهى حالة عدوى واسعة أصابت الخطاب العام ودمرت الأنظمة الانتخابية بصمت وبشكل غير مرئى، هذا وفق رؤية الكاتبة التى تجيب عن سؤال: ما إذا كان متوقعًا لهذا الأمر أن يتكرر، بإجابة بالطبع سيتكرر ما جرى فى ٢٠١٦، طالما أن هناك استخدامًا من قبل دولة أجنبية معادية للفيسبوك، لتقويض الانتخابات الأمريكية دون أن يحاسب أى شخص أو شركة أو دولة، باعتبار فرض الغرامة هو مسار إفلات من العقاب ليس إلا.
تنتقل «الجارديان» لتعرض مشهدًا آخر وقع على أراضيها البريطانية، فهى ترى أنه مماثل لما جرى فى الولايات المتحدة، فالحساب الأكبر هناك حتى الآن لم يأتِ بعد. فهى تطرح أن لولا «فيسبوك» لما كان هناك خروج من الاتحاد الأوروبى، بالنظر إلى أن تاريخ الدولة البريطانية المتواصل لما يقارب ١٠٠٠ عام، جرى وضع مساره من قبل شركة أجنبية أثبتت أنها خارجة عن حكم البرلمان، فهى ترى أنه لا يوجد فى بريطانيا من يفهم ذلك، للحد الذى جعل لجنة الأمن والمخابرات تسجل دهشتها من عدم القيام بأى محاولة للتحقيق، فى التدخل الأجنبى فى استفتاء الاتحاد الأوروبى. بل وهناك أيضًا «دومينيك كامينغز» الرجل الذى يجلس فى ١٠ داونينج ستريت بجانب بوريس جونسون، حيث يشغل دومينيك منصب المستشار وهو يعلم الدور الذى لعبه «فيسبوك» فى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. فقد جرى استخدام متعمد للمعلومات المضللة التى استهدفت أفرادًا مجهولين، فى عملية انتخابية لم يسبق لها مثيل من قبل. الكاتبة تؤكد أن المستشار المثير للجدل لا يتحدث عن هذا الآن بالطبع، وعلى الرغم من أن لجنة الاستخبارات لاحظت أن الشركات الإعلامية «تحتفظ بالمفتاح، لكنها تفشل فى أداء دورها»، فالحقيقة كما كشفتها الصحيفة هى أن البريطانيين يعرفون الآن، كيف تم إساءة استخدام النظام الأساسى بشكل منهجى بواسطة حملات المغادرة. كما يعلمون أن الثغرات الموجودة فى القوانين البريطانية تم استغلالها عن عمد، بعد ثبوت أن هذه الإجراءات غير قانونية.
بالعودة إلى الانتخابات الأمريكية التى أعادت إطلاق هذا الحديث، وإخراجه للعلن على هذا النحو، تؤكد الصحيفة بكلمات مباشرة على طريقة السؤال والجواب، هل سيتم استخدام «فيسبوك» لتخريب الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام ٢٠٢٠ ؟ الإجابة نعم. وهل ستتم محاسبة «فيسبوك»؟ بالطبع لا. هل ننظر الآن إلى صدمة نظام ستغير أمريكا إلى الأبد؟ نعم. هذا لأن ترامب إما سيفوز فى هذه الانتخابات باستخدام «فيسبوك» أو سيخسرها بسببه، وكلتا النتيجتين ستتسبب فى كارثة، وهذا ما تجلى فى رفض إفصاح الرئيس ترامب عما إذا كان سيغادر البيت الأبيض إذا خسر الانتخابات أم لا. لكن هذه الأسئلة لم تكن الأخطر فيما تقرره «الجارديان» البريطانية، فهناك ما هو أبعد من ذلك، تضعه باعتباره تحليلًا لعمق الحالة الأمريكية الراهنة، حيث ترى أن فكرة أمريكا ذاتها أصبحت على حافة الهاوية، منذ أن أصبحت الولايات المتحدة و«فيسبوك» غير قابلين للتجزئة، واعتبرت الصحيفة أن ذلك ومعه التطبيقات الأخرى «واتساب» و«انستجرام» هو الآن بمثابة مجرى الدم للحياة والسياسة الأمريكية. كما وصفت هذا الدم بـ«الدم المريض».
الصحيفة البريطانية التى وضعت هذا التحليل المرعب، لديها ولدينا معها آلاف الدلائل على خطورة ما نحن ذاهبون إليه، والأقدام مربوطة بتلك التطبيقات التى صنعت «خوارزمية» «حرية الكلام» دون عواقب، هذا وفق توصيف الصحيفة وليس لنا، لأنها على الأقل وسط مجتمعاتهم وجدوا، أن الأكاذيب تنتشر بسرعة فائقة، والتعبير عن الكراهية يتم بحرية، والمشاركة تجرى بحرية. فضلًا عن التداول الكثيف للكراهية العرقية، والتفوق الأبيض، والنازية الصاعدة، كل هذا صار مع شرايين التطبيقات الذكية ينتشر على نطاق واسع خلسة من وراء الأعين. هذا من التقييمات البريطانية التى لا تصلنا عادة باعتبارها حديثًا داخليًا، يجرى فيما بينهم، لكننا وعن جد آن لنا أن نطرح السؤال: هل لنا أن نخاف مثلهم؟