رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رجل الحضارة الجديدة الذى ينتظره كوكب الأرض


حين تطالب المرأة بحقوق وحريات النساء، وبإلغاء جميع أشكال التفرقة بينهن، وبين الرجال، يبدو الأمر عاديًا ومتوقعًا، فهى تدافع عن بنات جنسها، وتمارس ما يؤكد صدق النظرية- تدعمها حركة التاريخ- والقائلة بأن كل فئة مقهورة، عليها أن تتبنى قضيتها، وتحرر نفسها.
فكما فى الموت، لا أحد يمكنه أن يكون بديلًا عن أحد، كذلك فى معركة الحرية الإنسانية، لا أحد يمكنه أن ينوب عن أحد، وهنا تكمن عظمة الحرية، فهى لا تذهب إلا لمن- فى كبرياء- يدفع ثمنها، ويخوض- دون وجل- معتركها الصعب.
أما حين يطالب الرجل، بحقوق وحريات النساء، وبإلغاء جميع أشكال التفرقة بينهن وبين الرجال، ويمارس هذا الموقف فى جميع تصرفاته، فالأمر ليس عاديًا وليس متوقعًا، أكثر من ذلك قد يعتبره البعض، إن لم يكن الأغلبية، موقفًا ضد «الرجولة».
هذا الرجل الذى يخذل المعتاد، هو رجل «الحضارة» سوى النفس والعقل والوجدان، أو لنطلق عليه لقب الرجل المستنير.
إن ندرة رجل الحضارة، لا شك، تساعد فى ترسيخ دونية وتبعية المرأة، والمؤسف أن عددًا لا بأس به من النساء، يكرس هذا الوضع باستسلامهن وطاعتهن واستعذابهن سلطة الرجال، بسبب عدم الوعى أو الوعى الزائف.
نحن لا نبالغ، إذا قلنا إن دور الرجل المستنير فى مجتمعاتنا، بشكل خاص، قد يكون أشد تأثيرًا، من دور المرأة المستنيرة، وذلك لأسباب ثلاثة رئيسية، وإن كانت كلها راجعة إلى أصل واحد، ألا وهو سيادة الرجل.
أولها: أن الفكر الذكورى معتاد على احترام منطق الرجل، والإصغاء إليه بجدية أكثر من احترامه، وإصغائه لمنطق المرأة، حتى لو كان يضرب فى الجذور التى أقامت هذا الفكر وأرست دعائمه.
وثانيها: ونظرًا لأن الحريات المسموحة للرجل فى النقد والتعبير والحركة أكبر، فإن فكره المستنير يجد بالتالى منافذ أوسع وقنوات أرحب، للتداول وإثبات الحجة عن تلك المتاحة للمرأة المستنيرة.
ثالثها: ولأن العلاقة السائدة بين الجنسين تأخذ فيها المرأة مكان التابع لفكر ورأى ومنطق ومصالح الرجل، فإن وجود رجل مستنير معناه تبعية المرأة لفكر ورأى ومنطق ومصالح العقل المستنير.
نحن بالطبع، لا نؤيد تبعية المرأة، سواء فى حالة الرجل المستنير، أو غير المستنير، لكننا نشير إلى أهمية وخطورة استنارة الرجل فى مجتمعات تمثل فيها طاعة النساء للرجال المرتكز الأساسى، وعنوان الفضيلة الكبرى بالنسبة للنساء.
إن استنارة الرجل تبدأ بأن يعى أن دفاعه عن حقوق وحريات المرأة، هو دفاع عن حقوقه وحرياته هو أيضًا، هو يدرك أن فى العلاقة غير المتكافئة، يفقد كل من «الأعلى» و«الأدنى» حريته وإنسانيته.
وهو يستطيع أن يفضح الزيف والتضليل فى كلمات مثل: الجنس الأقوى أو الأعلى والجنس الأضعف أو الأدنى، فالأقوى أو الأعلى لا يستبيح ولا يبرر الظلم الواقع على الطرف الآخر، تحت أى مسمى مضلل، مثل الطبيعة أو العرف أو التقاليد الموروثة.
الرجل المستنير يفكر فى الحرية دون تجزئة ودون ازدواجية المقاييس، حرية الوطن لديه حرية كل البشر، هو لا يضع سلم أولويات، فلا يقول إن حرية الأرض أهم من حرية الناس أو أن نحرر هذه الفئة أو لا، ثم يأتى تحرير الفئات الأخرى فى مرحلة لاحقة، هو لا يفصل بين أن يحتل عدو خارجى أرض الوطن وبين أن يقع الناس تحت احتلال العادات والأفكار البالية، الرجل المستنير يرى- وهذه حقيقة- أن الانتصار على عدو خارجى أسهل من الانتصار على التقاليد المتعصبة الموروثة، بل إنه يرى صعوبة اقتحام عدو خارجى، طالما أن الجبهة الداخلية صلبة والصلابة لها طريق واحد هو سيادة المساواة والعدالة بين كل الناس دون تمييز.
الرجل المستنير، بالتالى، لا يملك إلا أن يندهش، حين يذكر أصحاب دعوات الحرية، كلمات، مثل «العدالة الاجتماعية»، قاصدين بها مجال الصراع بين الفقراء الذكور والأغنياء الذكور، أما جبهة التضامن الجامعة بين الفقراء الذكور مع الأغنياء الذكور، ضد فقراء النساء وأغنياء النساء مستبعدة تمامًا، ويندهش أيضًا حين يتكلم الجميع عن الديمقراطية فى المجتمع، ولا أحد يتكلم عن الديمقراطية بين الجنسين، فى البيت، فى الأسرة، التى تعتبر نواة المجتمع الأولى إذا سلمت سلم المجتمع الكبير بأسره.
الرجل المستنير، فى محاولة دائمة لفهم، لماذا لا يرضى الرجال باستكانة أوطانهم، ويرضون باستكانة نسائهم؟ ولماذا فى نضالهم عبر التاريخ يهبون لكسر سلطة الحكام، وهم أنفسهم يمارسون ويبررون سلطاتهم على النساء؟ ولماذا تمنح كلمة «لا» الشرف والزهو للرجل الذى يقولها فى مواجهة حاكم ظالم، بينما هى سبب للتأنيب واللوم والاتهام إذا قالتها امرأة فى مواجهة رجل ظالم؟
الرجل المستنير يرى أن التحدى الحقيقى ليس فى الوقوف ضد الفروق الطبقية، التى يتحدث عنها الجميع حتى فى أشد المجتمعات طبقية، لكنه فى الربط العضوى الدائم بين التحيز الطبقى ضد الفقراء، والتحيز الذكورى ضد النساء، التحدى الحقيقى هو الدخول بعمق، فيما لا يزال يعتبر من المحظورات الفكرية ولا يزال غير مفهوم ومثيرًا لحفيظة كثيرين، ألا وهو كسر سلطة الرجال على جميع المستويات، وفى جميع مناحى الحياة.
إن مقياس التقدم الحقيقى عند الرجل المستنير ليس فى انتشار الأجهزة والتقنيات العلمية المعقدة، وليس فى إدارة حياة البشر بالأزرار، إن التقدم الحقيقى لهو فى الفكر الذى يشغل الأجهزة وفى العقلية التى تحرك الأزرار.
ليس الرجل المتقدم هو من يستطيع إخضاع «أحدث» المكتشفات، ولكنه الرجل الذى يستطيع إخضاع أقدم نزعات التملك والعنصرية والسيطرة على الأرض والنفوذ والناس، ليس الرجل المتقدم هو منْ يستطيع التعامل مع جهاز كمبيوتر، ولكنه الرجل الذى يستطيع التعامل مع امرأة ند له أو أكثر تفوقًا عنه، دون حساسية أو عقد أو شعور بأن «رجولته» قد خدشت.
الرجل المستنير هو بالضرورة متمرد على مفاهيم الرجولة التى ترى أن الرجل رجل بقدر ما يتميز عن المرأة وبقدر ما يكون وصيًا ورقيبًا على أخلاقها وسلوكها ومسار حياتها، هو يرفض أن يكون إحكام القبضة على النساء، هو المرجع الأكبر والوحيد لمعنى «الرجولة»، فى حين أن رجولته لا تحرك ساكنًا فى مواجهة الظلم الاجتماعى أو التفسيرات الخاطئة للدين أو انتهاك الفن أو اغتصاب البيئة.
الرجل المستنير يرى الرجولة عونًا للمرأة على التفتح والتفوق والانطلاق، هو رجل ليس بقدر ما يخلق من ممنوعات ومحظورات، ولكن بقدر ما يفتح من النوافذ المغلقة، هو رجل بقدر ما يستطيع تحمل امرأة لا تتبعه ولا تطيعه.
الرجل المستنير يدرك أن علاقته بامرأة خاضعة مسلوبة الفكر والإرادة أمر لا يشرفه ولا يميزه، لكن ما يميزه وما يشرفه هو علاقته بامرأة حرة تستطيع أن تضيف إليه بفكرها الواعى وشخصيتها المستقلة، امرأة تحافظ على إنسانيته، بالوقوف ضده، إذا حاول فرض سيطرته، وهذا شرط لارتقاء وتوازن الرجل وشرط لارتقاء وتوازن الحياة.