رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جون ميدلى يتصدى لنهب الفقراء



«نهب الفقراء».. واحد من أهم الكتب الجديرة بإلقاء الضوء عليها، لأنها تمس حياة البلدان النامية بشكل مباشر، وإمكانيات تطورها الاقتصادى فى ظل الشركات عابرة القوميات وسيطرتها على مراكز وحركة الاقتصاد العالمى.. الكتاب ترجمة بدر الرفاعى، أما المؤلف فهو الاقتصادى البريطانى البارز جون ميدلى، الذى عمل فى بداية حياته بإحدى الشركات عابرة القوميات لمدة عشر سنوات، تفرّغ بعدها للأبحاث والدراسات الاقتصادية، فتابع نشاط الشركات عابرة القوميات على مدى نصف القرن، وخلال ذلك نشر تسعة كتب فى قضايا التنمية، علاوة على نشاطه الصحفى الذى امتد إلى صحف كبرى، منها «فاينانشيال تايمز» و«أوبزرفر» وغيرهما.
ومع أننا جميعًا نسمع عن الشركات عابرة القوميات، أو متعددة الجنسيات، لكن تصورنا عن واقع وقوة تلك الشركات ضئيل مقارنة بدورها الحقيقى، فهى تنشط فى مجالات لا تنتهى، يأتى فى مقدمتها الغذاء والزراعة والغابات وصيد الأسماك وإمدادات المياه والصحة والتعدين والتصنيع والطاقة والسياحة والملابس والسلع الخفيفة.
ويبلغ عدد تلك الشركات حاليًا نحو ٧٨ ألف شركة، يتركز معظمها فى أمريكا ودول الاتحاد الأوروبى، وتستحوذ على ثلثى التجارة العالمية، كما أنها تسيطر على ثلثى صادرات العالم من السلع والخدمات، وتغطى استثماراتها بلدان العالم كله، ويعود جزء من قوة تلك الشركات إلى تفوقها التكنولوجى وقدرتها على إنجاز المشاريع على أحدث مستوى، مما يقضى على قدرة الشركات المحلية على المنافسة.
ومن هنا يصبح منطقيًا ومفهومًا تأكيد جون ميدلى على أن تلك الشركات تتمتع بقوة تفوق قوة الحكومات فى بعض الأحيان.. من ناحية أخرى فإن تلك القوة الاقتصادية المهولة قد تلقت، مع العولمة، دفعة كبيرة حين قام معظم البلاد بتحرير اقتصاداته وإلغاء الحواجز الجمركية والتخلى عن سياسة ضبط الأسعار وأشكال الدعم وغيرها من العوائق التى صدّت توسع تلك القوة الاقتصادية فيما مضى. الأكثر من ذلك أن معظم البلدان صارت تتسابق من أجل «توفير مناخ موات للاستثمار»، أى فتح الطريق تمامًا أمام تلك القوة الاقتصادية.. ويلاحظ جون ميدلى أن تلك الشركات تتجه بصورة متزايدة إلى الدول النامية هناك، حيث تكون أجور العاملين وتكلفة العمل أقل بكثير منها فى الغرب، كما لا توجد نقابات عمالية للدفاع عن حقوق العاملين، وفى الوقت نفسه فإن معظم تلك الدول لا يهتم بالحفاظ على البيئة، علمًا بأن نشاط تلك الشركات من أكبر مصادر الانبعاث الحرارى.. لهذا يقول جون ميدلى إن الأفارقة على حق حين يتساءلون: «لماذا نحن أغنياء بهذا القدر ومع ذلك ما زلنا فقراء؟»، ذلك أن دول العالم الثالث من أغنى البلدان، من حيث الثروات الطبيعية، وأفقرها من حيث مستوى المعيشة.. وتؤكد إحصائيات الأمم المتحدة أن هناك نحو مليار ونصف المليار إنسان فقراء فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، تشكل النساء والبنات سبعين بالمائة من أعدادهم، بينما تبلغ ثروة ثلاثة من أغنى أغنياء العالم ما يُعادل الناتج المحلى لأفقر ٤٨ دولة! وفى ظل تلك القوة الاقتصادية الغاشمة يموت من الجوع سنويًا نحو ١٨ مليون إنسان، ويُهلك سوء التغذية ستة ملايين طفل سنويًا.
ويتناول جون ميدلى بالتفصيل قضية الدواء فى ظل هيمنة تلك الشركات، فيقول إن تقرير منظمة الصحة العالمية فى ٢٠٠٧ قد أشار بالفعل إلى أن العالم سيواجه بصورة متزايدة الأوبئة والأمراض، إلا أن ثلث البشرية، أى نحو مليارى إنسان، لا يسعهم الحصول على الدواء، لأن حفنة من شركات الأدوية العملاقة تتحكم فى سعر الدواء، مثل شركة «فايزر»، و«جونسون آند جونسون» وغيرهما، هذا بينما تعادل قيمة شركات الأدوية الخمس الكبرى مجتمعة ضعف إجمالى الناتج المحلى لكل بلاد إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى! فقط خمس شركات.. ويؤكد جون ميدلى بمرارة أن الأدوية «ليست منتجًا عاديًا، ومن الواجب إحاطتها بمبادئ أكثر أخلاقية عن غيرها من المنتجات».. لكن القوة الاقتصادية عابرة القوميات لا تأبه بشىء، وهى مثل العاصفة تحطم فى طريقها كل القيم الإنسانية من أجل المزيد من الربح بغض النظر عن أى شىء.