رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرقص فرحا.. وسيناريو التحولات المجتمعية!


من واقع رصدي للتحولات السلوكية في المجتمع المصري؛ وما طرأ عليها من شوائب تضر بجماليات اللوحة الرائعة لهذا المجتمع الذي اتسم واتشح منذ فجر التاريخ بعباءة الحب الخضراء الجميلة، فمن واقع هذا الرصد تمنيت ألا أكون كاتبة مقال صحفي يأخذ طريقه إلى أعمدة الصحف السيَّارة، وربما لاتتم قراءته بالكيفية التي أردت بها إيصال معلوماتي إلى القاريء، ولكني تمنيت أن أكون "كاتبة سيناريو" يرصد بعضًا من هذه التحولات، ليكون السيناريو ــ بلغة السينما ـ كالآتي :
* نهار خارجي /ردهة مستشفى :
طبيب يرقص فرحًا لانتصاره العلمي بتمام شفاء مرضاه من "فيروس كورونا" الذي يجتاح جنبات محافظته في وسط الدلتا .. بل يجتاح جنبات الكرة الأرضية بأسرها !
* نهار خارجي/ردهة المستشفى نفسه
طاقم التمريض يشاركون الطبيب في نشوة هذا الفرح .. وترتفع الكاميرات لتوثيق هذا المشهد الإنساني الفريد .. للنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لبث الطمأنينة في النفوس المرتعبة من الوباء .
* مساء داخلي/مجموعة من الصائدين في الماء العكر ..
والحديث يدور عن ضرورة معاقبة هذا "المارق" الذي أهان مهنة الطب والطبيب والبشرية جمعاء من وجهة نظرهم القاصرة، نافخين في "كير" الفتنة وتعكير صفو المجتمع بترَّهاتهم التي ماأنزل الله بها من سلطان !
* نهار داخلي/مكتب السيد المحافظ
ينادي المحافظ على مدير مكتبه وطاقم السكرتارية لإصدار قرار فوري بإقالة هذا "الطبيب الراقص المارق"، من منصبه كمدير لهذا المستشفى؛ لا لشيء إلا لمجرد إرضاء وترضية عناصر المتربصين بقصف فرحة البشر على أرض الوطن .
* نهار خارجي/الشارع المصري
كالعادة .. انقسام الآراء حول مؤيد ومعارض لقرار إقالة "الطبيب" والغالبية ـ بالطبع ـ تعارض هذا القرار المُجحف الذي ينتصر لشرذمة اعتادت الصيد في "ماءٍ " هم الذين قاموا بتعكيره !
* نهار داخلي/مكتب المحافظ
مرة أخرى السيد المحافظ ـ في عجالة ـ يقوم باستدعاء مدير مكتبه وطاقم السكرتارية؛ لإصدار قرار جديد بإلغاء "الإقالة" بشرطٍ جائر وهو عدم العودة إلى منصبه !! ليه ؟ لست أدري !
بل إنني أتخيل أن هذا الصحافي الذي نقل الخبر إلى سطور جريدته موثقًا بالصورة الرائعة؛ رقص طربًا لمعايشته هذه اللحظة الفارقة النقية للصفاء الروحي لدى الراقصين فرحًا للانتصار على معضلة الداء والوباء !

وإلى هنا تنتهي لقطات السيناريو ..لنحاول تحليل تلك المشاهد السريعة؛ على ضوء النظرة الإنسانية العلمية المحايدة، التي تستوجبها الظروف القاسية الراهنة التي يمر بها الوطن كجزء لايتجزأ من هذا العالم !

فالرجل " الطبيب الإنسان" قام بالتعبير العفوي التلقائي عن فرحته بانتصار جهوده وجهود زملائه بالعلم في مواجهة الوباء؛ والاطمئنان على تمام شفاء مرضاه الذين ضربهم "الفيروس" اللعين؛ وعادوا مرة أخرى ـ بإرادة الله وسطوة العلم ـ إلى الحياة !

ولم يكن الطبيب يرقص فرحًا لتنفيذ رغبة في الانتقام أو الدهاء كرقصة "سالومي الأخيرة" وبإيعاز من والدتها "هيروديا" في الاحتفال بعيد ميلاد الحاكم الجليل "أنتيباس" زوج أمها المبهور بجمال "سالومي" والطامع فيها وفي جسدها الرشيق وهي ابنة السادسة عشر من العمر؛ تلك الرقصة التي أطاحت برأس "يوحنا المعمدان" انتقامًا لرفضه لحبها وتقربها منه ! ولا رقَصَ هذا "الطبيب" حُزنًا " كرقصة "زوربا" الشهيرة مع صديقه ـ كالطير يرقصُ مذبوحًا من الألم ـ بعد انهيار حلمهما وعدم نجاح مشروعهما بمنجم الفحم الذي طالما اشتاقا إلى خروجه للنور! ولم يرقص "الطبيب الإنسان" رقصة " الإغاظة والكيد" كرقصة الفلاحات في ريف بلادنا؛ اللائي يرقصن في ليلة العُرس رقصة الانتصار للشرف والعفة لعروستهن التي طالتها بالنميمة ألسن الحاقدين والحاقدات؛ فيرقصن على دقات "الدربكة" مترنمين بالغناء على الإيقاع : قولوا لأبوها إن كان جعان .. يتعشى !!


وبالضرورة الحتمية .. كان لابد من وقفة للرصد والتأمل والتحليل لتلك الوقائع المستجدة على نسيج المجتمع المصري في الوقت الحالي؛ وبخاصة في ظل الضغوط الحياتية المواكبة لمراحل التحولات السياسية والإقتصادية، فالرقص يفصح للجسد عن خفته وحريته، وهي حرية الحركة والإيقاع للتعبير الفُجائي عمَّا يجيش بالصدرفي لحظات الفرح والحُزن؛ فيخرج الراقص عن نطاق الجاذبية المعتادة للجسم وماديته، بل حار العلماء في تفسيرظاهرة الرقص ليظل سرًا يُجهد العقول في الوصول إلى مغزاه وفض ألغازه .

ولست هنا بصدد الدفاع عن موقف هذا الطبيب الإنسان؛ ولا عن رجع الصدى في الشارع المصري لهذا السلوك إيجابًا وسلبًا، ولكنني أرصد ظاهرة تنامت داخل المجتمع بمختلف الأشكال والتصرفات والسلوكيات فيما يطلقون عليه لفظ "التنمّر" الذي تناولته بقلمي في العديد من مقالاتي السابقة، وحرصي على دوام التنبيه بتلافي ردود الأفعال الناجمة عنه داخل نفوس المجتمع المصري والإنساني بوجهٍ عام . فالطبيب كفيلٌ بالرد على منتقديه؛ تسانده الأغلبية العظمى لمختلف الشرائح الواعية بمقدرات الوطن والإنسان التي يتكون منها المجتمع المصري .

دعونا نعيش لحظات الرقي الإنساني في أبهى صوره؛ طالما جاء في ظل عدم خدش الحياء العام؛ أو الإيحاءات التي تداعب الغرائز لمجتمع تغلفه القيم الإنسانية الرفيعة منذ نشأة التاريخ، وسيظل متمسكًا بتلك العروة الوثقى .. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها !

* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون