رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد أبوليلة يكتب: تعالوا زورونا.. باى باى


لا أتذكر تحديدًا متى سألت نفسي هذا السؤال، كيف أُميّز الشحاذ مستحق الصدقة من النصاب؟

قد يكون الأمر مرتبطًا بمجيئى القاهرة، وتجربة المترو، لفترةٍ سمحت لى بإدراك وجود شحاذين مُعينين في كل خط، أراهم كل يوم وأسمع أصواتهم، نفس الجمل، بنفس الترتيب.

لا، فقد لاحظت قبل ذلك في قطارات الصعيد شخصًا فارغ اليدين، يتحرك بين العربات ويتحدث مع كل الشحاذين والسرّيحة، ويوجههم ويهينهم أحيانًا.

لم يكن ضخم البنيان، فهو مجرد فتى، يحمل سلطة ما، وفقًا للوائح يبدو أن الجميع ملتزم بها.. قالوا اسمه: سيكابوس.

من حسن حظي أنني كنت شاهدًا على معركة ظهرت فيها الأنياب، اشتبك بائعان، علت الأصوات، جاء الفتى في لحظة وأهان بائع الجلاب وهدده بسكب مياه على بضاعته.. رضخ السرّيح.

حسنًا، يمكن أن أستنتج الآن أن الصورة التي حاولت الحفاظ على جلالها، منذ طفولتي، غير صحيحة، فالشحاذ لا يهيم على وجهه في الشوارع، يطلب النجدة من الله، فيتحول البشر إلى كفوف ربٍ رزاق، بل أصبح موظفًا، في عالم موازٍ، يذهب كل يوم لعمله، ومع مرور الوقت سجد التكرارُ على لسانه للنغم، ربمًا هذه طريقة مضمونة لتسويق منتج.

لا.. أراني قاسيًا، ذات يوم سيمر فقير طعنه القدر في ماله، سيعلن عن حاجته، سيتذلل، ويغني أغنية العوز.. سأمنحه بعض ما في جيبي.

لا.. قد يكون نصابًا محترفًا، فالنصاب روائي متمكن، وممثل بارع، ارتضى المرآة كاميرا سينمائية.. جسّد الشخصية، ثم صفق لنفسه.. ومثل كاتب فاز بمنصب "الأعلى مبيعًا" يستطيع سرقة أعمار قرائه، وبعض ما في جيوبهم.

لا.. قد يكون الشحاذ مجبرًا على ذلك، نعم، فدائمًا هناك من يستطيع إخضاع الأطفال، أو النساء، أو الرجال.. مقابل مبلغ زهيد "شبه ثابت".

"تعالوا زورونا باي باي".. لا أعلم لماذا تذكرت هذا الإعلان، الذي يطارد آذان جيل، من المؤكد أن ذلك لا علاقة له بالمترو والقطارات.

بالطبع لا علاقة، فالأمران مختلفان، هؤلاء أطفال مرضى، من حقهم أن يشتكوا متى شاءوا، وعلينا أن نسمعهم، ونبدي تعاطفًا، حتى وإن لم نتبرع لهم، حتى تكتمل آدميتنا.

ولأنهم أطفال، لن نشك في نياتهم، فإن طلب منى رجل صحيح الجسد أموالًا، قد أقول له: ابحث عن عمل.
لكن أعرافنا وأدياننا أمرتنا بمساعدة المحتاجين، وكلمة مساعدة تكون مجدية إن ارتبطت بذكر المال، وهناك الكثير من المستشفيات ودور الرعاية - للإنسان والحيوان - تحتاج إلى تبرعات.

حسنًا، تبرع أحدهم- فضلًا عن المال- بتأسيس مستشفى أو دار رعاية أو توفير طعام للمحتاجين، وطلب المال في سبيل ذلك، ومن المؤكد أن هذه المؤسسة تحتاج إلى موظفين أو أطباء، ستخصص لهم مرتبات بالفعل، وسنحتاج إلى محاسب يستطيع تنظيم أمور شركة.

للوصول إلى هذه المرحلة، من المفترض أن صاحب المبادرة أو المؤسسة أو الشركة، نجح في جمع تبرعات لتحقيق إنسانيته وإنسانيتنا، لعلاج المرضى، وإطعام الفقراء.. واحتاج في سبيل ذلك لأن يعلن فكرته للناس، ولم يجد أفضل من الأطفال كي يقوموا بهذه المهمة.

للمرضى حق، ولذوي الإعاقة حق، وللأيتام حق، وعلينا جميعًا أن نعترف بهذه الحقوق، ونطالب بها.
ولكن أعتقد أن أحدهم لن يكون سعيدًا وهو يطلب المال معلنًا عن حاجته، وأتخيل حياة طفل نجى من مرض ما، أصبح مطاردًا بذكرى موثقة فى إعلان عن عجزه وعوزه، يقول للجميع: نعم أنا من حفظت كلمات ورددتها بشكل عاطفى، لتتبرعوا لى، أو للمؤسسة، أو لإنسانيتكم.

أرى أن استغلال الأطفال في هذه الإعلانات جريمة، وأحلم بأن يترك فاعل الخير مهمة نجدة الفقراء وعلاج المرضى، للدولة.

أحلم بألا أرى "سيكابوس" في شوارع القاهرة، أحلم بأن أميّز الفقير من النصاب.

أحلم بأن يذهب من يريدون التبرع إلى المستشفيات الحكومية، أن يوجهوا أموالهم لمكان معلوم، وألا أرى وجه طفل يتلو استغاثة معلبة، في سبيل العلاج.

أريد أن يزور الأصحاء كل المأزومين، وأن يمسحوا على رءوسهم، ولكن دون وجود كاميرا.

- في 25 يونيو من عام 2008 أيّد البرلمان الإسباني قانونًا جديدًا يجعل من "الإبقاء على القرود للسيرك أو الإعلانات التليفزيونية أو التصوير" غير قانوني.