رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وائل خورشيد يكتب: «جواز علي من صفية باطل»

وائل خورشيد
وائل خورشيد

بالطبع نحن لسنا هنا نتحدث عن فيلم «شيء من الخوف»، ولسنا أمام «عتريس وفؤادة»، ولكننا أمام قصة الشيخ علي يوسف، وصفية أحمد عبد الخالق السادات، حكاية زمنها يسبق عتريس وفؤادة، حكاية أرَّخ لها بعض الكتاب الكبار، أحمد بهاء الدين في كتابه «أيام لها تاريخ»، ورشاد كامل في كتابه «زواج هزَّ مصر»، وحلمي النمنم في كتابه «رسائل الشيخ علي يوسف وصفية السادات»، وأخيرا محمد توفيق في كتابه «علي وصفية.. قصة حب وحرب».

العنوان وهو الموازي لعبارة «جواز عتريس من فؤادة باطل»، يبدو أن أصله كان في تلك القصة التي نتحدث عنها هنا، حيث هتف الناس «جواز علي من صفية باطل»، في القصة التي اشتهرت وقتها باسم «قضية السيد عبد الخالق السادات ضد صاحب "المؤيد"».

- قبل أيام حضرت ندوة مناقشة كتاب «علي وصفية.. قصة حب وحرب»، لمؤلفة الكاتب الصحفي محمد توفيق، والتي أقيمت في مقر الجريدة التي أكتب فيها الآن، وبعدما قرأت الكتاب، واطلعت على الرسائل المتبادلة بين العصفورة الشركسية، وصاحب المؤيد، وقصتهما التي دخلت كل بيت في مصر، كما أنه بين الأحداث اطلعت على تاريخ الرجل بما فيه من مواطن عظمة ونقاط «خِسّة»، كما وصفه الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي الشرعي، تكوَّن في عقلي موقف، وأخذت أتصور لو أني كنت حيا وقتها.. ماذا يكون الحال!




• قبل 114 سنة
جئت من كل مكانٍ في بر مصر، جلست على سلالم المحكمة الشرعية، مرتديا جلبابي الرمادي، والعمامة تطوق رأسي، أتصبب عرقا، فالحر بلغ أشده في شهر أغسطس، ولكن لم يهمني كل هذا، جلست أنتظر ما يروي ظمئي، ليس الماء، ولكن كلمات حق، من وجهة نظري. وكان لي رأي أتمسك به، وأنا الذي أحيط علما ببعض الغيب، فقد اطلعت على ما لم يطلع عليه غيري، يحكم ميلادي بعد وقائع القضية بـ76 سنة.

• قضية الشيخ عبد الخالق السادات ضد صاحب «المؤيد»
يوم ١١ أغسطس ١٩٠٤ كانت المحكمة منعقدة بالداخل، ورغم الزحام كنت ساكنا كما يبدو ولكن نار مستعرة بداخلي، الصمت كان ترقب، فقط وحده الشيخ أحمد أبو خطوة، الذي كان بالداخل، الذي كان مسموحا له أن يتكلم، ويسع.

• الحكاية باختصار
لمن لم يحط بالأمر علما، هي قصة حب نشأت بين الشيخ علي يوسف، صاحب صحيفة المؤيد، وصفية السادات ابنة الشيخ أحمد عبد الخالق السادات، شيخ الطريقة الوفائية، ففي غفلة من الزمن التقى صوتا «صفية وعلي»، وبدأت قصة حب الشيخ والصبية، وظلت الأحداث تتصاعد. كان أبوها رافضا لتلك الزيجة، ثم تدخل الخديو عباس حلمي، فاضطر الأب لقبول عقد القران على مضض، وماطل في الزواج سنوات، ليقرر «علي» أن يتزوجها رغم رفض أبيها، ثم يصل الأمر للمحكمة فتفرق بينهما، ويستأنف، فتؤيد المحكمة الحكم الأول، فيمتد الزمن، ويعود الشيخ علي يوسف ليحاول من جديد مع والد صفية، فيصل لمراده!

• ١٩٠٤
كانت النار تغلي في رأسي، وكأنما أنا خصم في الدعوى، وكنت رافضا لتلك الزيجة، حتى جاءت كلمات الشيخ أبو خطوة، فاطمأن قلبي، لأن الشيخ لم يرضخ للخديو، ولا لأي شيء، سوى ما اعتقد في صحته، ووقفت أهتف بصوتٍ عالٍ «الله أكبر.. يحيا العدل»، وهتفت أيضًا «جواز علي من صفية باااااااااطل»، وصرت أجوب الشوارع، وذهبت لبيت القاضي، وقبلت يديه، وأثنيت على حكمه.

• لكن لماذا موقفي متشدد؟ حسنا.. لنستعرض الأمر
ساق القاضي العديد من الحجج في رفضه، وربما كان أقساها التالي: «لا يمكن للمدعى عليه (علي يوسف) أن يدعي لنفسه هذه الصحافة، ولأن تقلبه في المبادئ لغير سبب وتعرضه لشخصيات في ثوب المصالح العامة وسكوته عن بعض ما يلزم الكلام فيه لأغراض بعض من يهمه رضاه»، ويستمر القاضي وصولا لعبارة «وهذا الاشتغال يعد اشتغالا بأخسّ الحرف، فلا يكون محترفا بحرفة شريفة» وقضى أبو خطوة بعدم صحة عقد الزواج، لعدم الكفاءة بين ابنة الشيخ السادات الذي يمتد نسبه للأشرف، وآخر كما بيناه.

ولكن ليس لهذا فقط أبيت أن أقر زواجهما في نفسي، فأنا لست من أبناء القصور، حتى آخذ موقفا مغاليا ضد فقير تمكن من النجاح، ولكن لي أسباب أخرى. وكلها من نفس الكتاب.


• كيف تعرف الشيخ علي (٤١ عاما) على الصبية صفية (١٨ عاما)؟
في أحد الأيام طلب والدها أن تتصل بصحيفة المؤيد، لتسأل هل ظهر هلال رمضان؟ ومن أجاب الهاتف كان الشيخ علي يوسف، وكان هذا الحوار:
ممكن أكلم الشيخ علي يوسف.. أنا صفية بنت السادات؟
أجاب: أنا علي يا صفية.
قالت: والدي يريد أن يعرف هل ظهر هلال شهر رمضان.
رد: إنتِ تحبي إيه يا صفية؟.. (تصرف غريب من الشيخ!).
فضحكت، واستطرد: لو تحبي رمضان بكرة، اعتبريه بكرة.
فعلا صوت صفية بضحكة صافية خلعت قلب علي - حسب الكتاب - ونادى والدها مستفسرا: ماذا قال الشيخ علي؟
فقالت صفية بصوت حازم: والدي يسألك هل رمضان غدا؟
فأجابها عليّ: نعم الليلة ظهر الهلال، ورغم أني سمعت صوت القمر.

صفية الطفلة أبهرها «علي»، المقرب من الخديو، وهو الصحفي الشهير، ولكن تعجبت جدا من طريقة الشيخ صاحب المقام في أن يتحدث مع الفتاة بتلك النبرة، والتي هي لا تناسب سنه ولا وضعه. وما كان يملأ عقل صفية مما سمعته عن «علي» من والدها، صار يملأ قلبها.

«علي» كان متزوج من سيدة فاضلة كانت معه منذ كان فقيرا، وبقيت معه حتى صار شهيرا مقربا من الخديو عباس حلمي، وكان لهما ولد وفتاة، لقيت الفتاة ربها، وبقي الولد.

ما فعله الشيخ بعد ذلك، زاد حدة التنافر بيننا (أنا وهو)، إذ إنه استسلم لدقات قلب المراهق، وأخذ يدخل بيت السادات من باب الحديث الجاد، بينما كان غرضه التلصص على من هي بالمنزل، ثم زاد الأمر حدة حينما قرر أن يراسلها، من وراء أبيها، وظل يلقيها بكلمات الحب، حتى صار «مالك العصفورة» كما وصفت نفسها في خطاب له.

وبعد كل ذلك، قرر أن يسأل الشيخ السادات الزواج من ابنته، ولم يعجب الأمر الأب، فهو يكبرها بـ ٢٣ عاما، ومتزوج وله ابن، ولكن ظل «علي» يلح، والشيخ يماطل في الرد.

• الاستعانة بالخديو عباس حلمي للضغط على والد صفية
هنا نبدأ فصل آخر من «الخِسة»، إذ قرر عليّ أن يجبر الأب على الزيجة، فسأل الخديو عباس أن يتدخل، وقد كان، فشعر الأب أنه مجبر، فاضطر للموافقة، وماطل أربعة سنوات في تحديد موعد الزواج، ولما فقد «علي» الأمل، قرر أن يأخذها عنوة من أبيها، ويتزوجها في مكان آخر، وقد كان عمرها ٢٢ عاما، ولها حق إتمام عقد الزواج.

ماذا فعل «علي» بعد ذلك؟ قرر أن يستعين بتوفيق البكري، زوج شقيقتها، لكي يساعدهم في إتمام الزيجة ولتكن في بيته، ولكن كيف يوافق البكري على ذلك؟



• كيف تمكن علي يوسف من رقبة توفيق البكري!
لهذا قصة استعرضها الكاتب محمد توفيق في مؤَلَفهِ، وهي ببساطة أن «علي» توسط للبكري عند الخديو قبل زمن في واقعة كادت تنتهي بحبسه، ولأن توفيق البكري مدينا لعلي يوسف، كما أنه لا يقل خِسة عنه، فقد وافق بشرط، أن يتوسط له مرة أخرى عند الخديو ليتولى منصب كبير، وقد كان.

وبهذه الحيل، تمكن الشيخ علي يوسف، الذي لا يتهاون في استخدام كل الوسائل والطرق، للوصول لمراده، والزواج من صفية رغما عن أبيها.

البعض اعتبرها قضية طبقية لما أثير داخل المحكمة من حديث عن عدم كفاء النسب، ولكن الأب حينما رفض الزيحة في البداية، لم يشر لتلك النقطة، ولكنه أشار لأمور أخرى عرضناها بالأعلى.

إلى جانب هذا، كان «علي» متقلب الفكر، يبيع الهوى لمن هوى، ولا يمنعه مبدأ ولا موقف من أن يأكل الكتف من حيث يجب أن تؤكل، ولا أرى في هذا سوى نقص يحاول أن يعوضه.

ومواقفه في الكتاب عديدة، والتي توضح أنه كان رجلا لا يؤتمن، رغم مواقفه الوطنية في بعض المواطن.

لكل هذا أحببت حكم الشيخ أحمد أبو خطوة، وصدقت على بطلان عقد الزواج، والذي إن كان شكليا صحيح، فإن في روحه الزور والبهتان.

ولكن قصة «علي وصفية» لم تقف عند حكم التفريق، فبعد سنوات، يعود «علي» ليتودد للشيخ السادات بكل الطرق، لينال مراده، ويتزوج صفية من جديد!

• ما رأيت في علي وصفية؟
قد يظن البعض أنه الحب الشديد، وكما شبهه المؤلف بـ«روميو وجولييت»، و«قيس وليلى»، ولكني لم أرَ ذلك، بل رأيت شيخا غير أمين، يملك نفوذا يستغله كلما استطاع، تلاعب بعقل الصبية، ولما لقي ممانعة من والدها، أصر، واشتد عناده، واستغل كل وسائله، ليصل لمراده. شعرت أنه وصل للجاه والمال، ويبحث عن امرأة تصلح واجهة له في حياته كشخص من علية القوم وربما يحبها بصورتها الكاملة كفتاة جميلة من عائلة كبيرة، وهو حقه، لكن لا يحق له أن يفعل ما فعل.

ولم أرَ في صفية سوى فتاة مراهقة، سمعت عن الكبار من والدها وحضرت مجالسهم، واستقت العلم واللغات، وشعرت أنه جاء وقتها لتكون زوجة واحد منهم.

• الإفك لا يدوم
النوائب نزلت على «علي»، ففقد مصطفى كامل الذي كان صديق حياته يوما ما، قبل أن ينقلب عليه إرضاء للخديو، وفقد زوجته الأولى، وابنه، ثم تبدل حاله، ولم يعد حبل الود يشده لصفية التي خاض كل تلك المعارك لنيلها، حتى رحل هو الآخر. وبعد ذلك نسيته صفية، وتزوجت من آخر لتكمل حياتها.

هذا الأمر أيضًا غريب، فإن كنّا أمام قصة حب ملحمية، فأعتقد أنه لا يصح بأي حال أن يقترب رجل آخر من قلبها، لأن قصتهما صارت أيقونة، فكيف تجرحها بهذا الشكل!

أضيف أخيرا، أن الكاتب الصحفي محمد توفيق، أجاد في عرض المادة، أجاد للدرجة التي تجعلك داخل أروقة المحكمة تشاهد، وفي الشوارع تسمع همس الناس، وأمام صفحات الجرائد تقرأ، وكل هذا، وأنت تشعر بالحالة التي كانت عليها مصر وقتها.