رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حوارات البوكر

عبدالوهاب عيساوى: «الديوان الإسبرطى» ترصد جرائم العثمانيين وتسببهم فى استعمار الجزائر

جريدة الدستور

قبل نحو قرنين ونيف سيطر الأسطول الجزائرى على البحر الأبيض المتوسط لسنوات، وفرض «إتاوات» على أى سفينة عابرة فيه، وكان القوة البحرية الأكبر، لدرجة أنه هزم أساطيل بعض الدول الأوروبية، وأجبر الولايات المتحدة، حديثة الاستقلال عن المملكة المتحدة آنذاك، على إبرام معاهدة تدفع بموجبها للجزائر مبالغ طائلة نظير حرية الملاحة الأمريكية فى «المتوسط». بمرور الوقت، ومع استمرار فرض «الإتاوات» وتراكم الضغائن وقرصنة العثمانيين فى «المتوسط»، ومع أول هزيمة للأسطول، أصبحت الجزائر عرضة للوقوع تحت الاستعمار. ما سبق يمكن أن نعتبره تلخيصًا لما تطرحه رواية «الديوان الإسبرطى» للروائى الجزائرى عبدالوهاب عيساوى، التى وصلت مؤخرًا للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر». والجزائرى الشاب «عيساوى» ليس حديث العهد بالجوائز، ففى جعبته جائزة «سعاد الصباح للرواية»، فى ﻋﺎم ٢٠١٧، ﻋﻦ رواﻳﺔ «الدوائر والأبواب»، وكذلك جائزة «آسيا جبار»، فى عام ٢٠١٥، عن رواية «سييرا دى مويرتى»، كما حصل على الجائزة الأولى فى الرواية بمسابقة رئيس الجمهورية، عام ٢٠١٢، عن رواية «سينما جاكوب». «الدستور» التقت «عيساوى» فى حوار كشف خلاله عن الكثير من تصوراته عن سياسة الجوائز الأدبية، وتحدث عن البنية التى اعتمدها فى كتابة روايته المرشحة لـ«البوكر»، إلى جانب جوانب وتفاصيل من تجربته فى عالم الأدب.

■ بداية.. ما انطباعاتك عن وصول روايتك «الديوان الإسبرطى» لقائمة «البوكر»؟
- لم يخالف النص توقعات الكثير من القرّاء، سواء أكانوا كتابًا أو نقادًا، كلهم أجمعوا على أن النص سيذهب بعيدًا، ومع ذلك كانت لدى شكوك مثل أى كاتب، لكن سعدت بأن النص لاقى تقدير اللجنة بعدما اختير من بين أكثر من ٢٠٠ رواية، فهذا بحد ذاته تكريم.
■ كيف ترى وصول ٤ روايات جزائرية للقائمة؟
- الاختيار كان منتظرًا منذ سنوات، وسعدت به جدًا، لأن الكتاب الجزائريين لم يحظوا بمثل هذا الفرصة فى التنافس على «البوكر».
■ هناك من يقول إن «البوكر» تراعى «التوزيع الجغرافى» فى جوائزها.. فهل تتفق مع هذا الطرح؟
- منذ تأسيس «البوكر» قبل سنوات، ظهرت جليًا فكرة مراعاة التنوع الثقافى فى النصوص الفائزة، من حيث الجغرافيا أو موضوعات النصوص، نجد بعضها يحفر عميقًا فى الذات الإنسانية، والبعض الآخر منها يحلق فى عوالم مفتوحة، ونصوص تعود لتضىء تاريخًا قديمًا، وأخرى ترحل إلى المستقبل بطريقة تنبؤية، لكنها تشترك فى أن الإنسان كان دائمًا هو محورها الأساس.
ذلك يجعلنا نستخلص أن الاشتغال بهذه الطريقة يسير نحو إذابة مفهوم علاقة المركز بالهامش، وأن النص يبقى المقياس الوحيد، أو العملة الوحيدة التى يمكن أن نتكلم عنها، بمعنى أنه توجد رواية عربية لها همومها المتعددة، بعيدًا عن التصنيف الجغرافى. ولـ«البوكر» معايير معينة لاختيار النصوص، منها فنية وثقافية وموضوعاتية، بعيدة كل البعد عن مسألة التوزيع الجغرافى، وهناك نصوص مكتوبة بالعربية تحمل هموم الإنسان العربى وتحولات المدينة العربية قديمًا وحديثًا، وعلاقتها بالتحولات العالمية الكبرى، وتبقى المسألة متعلقة بمقدرة الكاتب، وكيف استطاع أن يعيد قراءة كل تلك الأزمات أو تحليلها أو حتى إعادة بنائها، وهذا فى اعتقادى هو الفيصل فى قضية التفوق.
■ ما أهمية الجوائز بالنسبة للمبدع؟
- الجوائز مهمة لمسيرة أى كاتب خاصة فى العالم العربى، لأن الإعلام الثقافى لا يسوق النصوص بشكل جيد، خاصة عندنا فى الجزائر، فالجائزة تفتح المجال للبحث عن النص واكتشافه وزيادة عدد القراء، بهذه الطريقة يمكن للكتاب أن يُتداول أكثر، وبالتالى يكون التفاعل معه مضاعفًا، وهذه غاية أى كاتب أن يُقرأ نصه فى نطاق أوسع.
كتجربة شخصية لامست هذا الأمر بعد فوزى بجائزة «آسيا جبار»، إذ صارت رواية «سييرا دى مويرتى» مرغوبة أكثر لدى القراء، كما أن الكثير من النقاد سلّطوا عليها الضوء، ولاقت الكثير من الترحيب وسط الفضاء الثقافى الجزائرى وحتى خارجه، وكُتبت عنها مقالات عديدة.
أنا لا أقول إن الجائزة كانت السبب المباشر، لكن لفتت الانتباه إليها، وطرحت السؤال حول النص الفائز وما أهله للجائزة، وما الميزة التى يحملها دون النصوص الأخرى؟.. هذه النقطة هى التى تُستثمر فيها الجائزة بشكل عام، لتُدرس الرواية بحثًا عن سر تميزها.
وربما هكذا سار الأمر مع رواية «الدوائر والأبواب» التى فازت بجائزة «سعاد الصباح» فى ٢٠١٧، وأزعم أن القارئ العادى كان أكثر تفاعلًا معها من الناقد.
■ تناقش «الديوان الإسبرطى» فترة تاريخية مهمة.. هل حاولت من خلالها إعادة النظر فى الواقع الجزائرى الحالى؟
- بالتأكيد، وهذا ما لم ينتبه إليه كثيرون، فالعنوان وحده كان كفيلًا بقول الكثير، وهو بالفعل قراءة فى الواقع الجزائرى الحالى، وجاء اختياره بعد دراسة، والاستعانة بكتاب «الديوان الشرقى» للشاعر الألمانى يوهان جوته، لأننى كنت أكتب عن نفس الحقبة الزمنية التى كان الأخير يكتب عنها، واسم «الديوان الإسبرطى» ذُكر فى كتابه.
وأثناء الحكم العثمانى فى الجزائر قبل ١٨٣٠، كان الأسطول الجزائرى يسيطر على البحر الأبيض المتوسط، واعتبره العثمانيون حارسا للثغور ومجاهدا فى سبيل الله، وفرض «الإتاوات» على كل السفن التى تمر عبر البحر، بينما رآه الغربيون قرصنة.
تناقش الرواية هذه النقطة من زوايا متعددة ومتباينة، لكنها تركز على الموضوع الأهم وهو انعكاس هذا الأمر على سكان الجزائر، وكيف كانوا يرونه، وطرحت الشخصيات السؤال نفسه: ما الغاية من هذا الأمر كله؟ وما مصير المدينة بعد فقدان أو خسارة الأسطول؟ وكيف تعيش مدينة حياتها فى سلب حيوات الآخرين؟
ربما السؤال الأعمق كان الأخير، لأن المصير كان فعلًا مأساويًا، إذ احتُلّت الجزائر بسبب تراكم تلك «الضغائن» التى زرعها العثمانيون.
■ الاشتغال على الرواية التاريخية يحتاج إلى قراءات وإلمام وبحث وغيرها.. كيف جاءت فكرة الرواية ومراحل كتابتها والبحث عن فترتها؟
- تأتى الفكرة الأولى للرواية فى العادة من تحليل الواقع الراهن، فبعد قراءة التاريخ الجزائرى لاحظتُ دوران الأحداث وتكرارها، من حيث عدم تغير الفكرة الجوهرية للأنظمة السياسية، ولا أسباب الحروب أو هموم الإنسان، فدائما هناك ملك أو رئيس أو محتل أو خائن يفكر بالطريقة نفسها، وهناك مدينة تُنتهك للسبب نفسه.
بهذه الطريقة تشكَّل هيكل النص فى رأسى، وشرعت حينها فى جدولة الكتب التى يجب أن تقرأ، وتعددت أجناسها وحتى لغاتها، من كتب سيرية إلى رحلات وكتب تاريخ وجغرافيا وتقارير عسكرية لضباط فرنسيين، وأحيانًا كتب دينية كون الأتراك كانوا «أحنافًا» أما المغاربة «مالكية»، بالإضافة إلى خرائط متخيلة عن مدينة الجزائر فى تلك الفترة ما قبل ١٨٣٠، وزيارة الأمكنة والشوارع التى لها علاقة بمسار الشخصيات.
المهم أن فترة القراءة دامت أكثر من سنة قرأت فيها أكثر من ٧٠ كتابًا حول الفترة ولخصتها جميعًا، وكنت أجعل لكل شخصية خطابًا يوافق توجهها الفكرى والأيديولوجى، ثم حين استوت كلها شرعت فى الكتابة سنة أخرى مع التدقيق والتنقيح.
■ لا تحمل شخصيات «الديوان الإسبرطى» قناعة واحدة فجاءت متباينة تناقش وتشير لكن لا تقدم حلولًا.. ما القصد من ذلك؟
- الوظيفة الأساسية لمفهوم «البوليفونية» أو «تعدد الرواة» هى إبراز وجهات النظر المختلفة والمتعدّدة، فلا يمكن أن تحمل شخصية وجهة نظر الثانية بشكل كلى، بل تتشارك فى بعض الأفكار، وهذا حاصل بين أطراف الرواية المتناقضين، لكن الجوهر يكون مختلفًا. لهذا ناقشت الرواية أفكارًا عديدة انطلاقًا من زوايا مختلفة ومناظير متعددة، كل جهة تعتقد أن لها الحق من خلال رؤيتها لما حدث أو يحدث فى «المحروسة» أو الجزائر التى تقع فيها الأحداث.
ولا يمكن لـ«كافيار»، إحدى الشخصيات مثلًا، أن يتفق مع شخصية أخرى مثل «ديبون» حول المصير الذى يتمناه كل واحد منهما للمدينة، لا يمكن كذلك أن يتفق «حمّة السلاوى» مع «ابن ميار» فى طريقة التعامل مع العثمانيين أو الفرنسيين.
أما «دوجة» فهى الصوت الهامشى فى الرواية، لأنى أعتقد كذلك أن للهامش وجهة نظر تستحق أن يُعنى بها، خاصة إذا كانت أنثوية فى مجتمع عربى يحتفى بالسطوة الذكورية، وبرؤية دينية محدودة للمرأة ووظيفتها.
لماذا هذا الخيار «البوليفونى»، وكيف تخدم هذه التقنية الوضع الراهن؟.. الفكرة كلها أن تستوعب النظم العربية الحالية المفهوم الحقيقى للديمقراطية والحوار، نحتاج أن نسمع بعضنا البعض، الاختلاف والتباين هو الأساس الوجودى للحياة.
■ فى ظل موجات متعاقبة من الكتابات الشبابية.. هل ترى أن «السوشيال ميديا» ضرت الأدب الشبابى فى الدول العربية أم أضافت له؟
- المشكلة أن وسائل التواصل الاجتماعى تُبرز أحيانًا كتابًا بلا كتب، وشعراء بلا شعر، وفلاسفة بلا فلسفة، خدمت الكثير من المبدعين الحقيقيين، لكنها فى الوقت نفسه سمحت للكثير من الدخلاء والمزيفين بالولوج إلى عالم لا يمتّ لهم بصلة، كما أنها فتحت بطريقة ما مجالًا واسعًا للصراعات والمشاحنات التى لا طائل منها، لذا أتعامل معها بحذر من لا يثق فيها إلا بقدر يسير.
■ لماذا أضفت مسحة صوفية على رواياتك؟
- لأنها «فضاء فانتازى» تمتزج فيه الحقيقة والخيال، والتصوف جزء من هذا العالم. ربما «الدوائر والأبواب» هى الرواية التى ظهر فيها التصوف بشكل أقوى، ببساطة لأنها مفتوحة على عوالم صحراوية، حيث الله قريب من البشر.
فى هذه الرواية أتكلم عن المدينة الصحراوية التى عشت بها، وتاريخها شبيه بالكثير من تاريخ المدن الجزائرية التى تأسست فى البداية على ضريح، وتوثقت علاقتها به بعد تأسيسها، دائمًا هناك دراويش وقبور للصالحين وزوايا لتحفيظ القرآن، وترديد الأوراد، وفضاء ملىء بالنبوءات والرؤى، حيث يختفى الرجال زمنًا ثم يعودون، ويقطع آخرون النهر مشيًا على مياهه، وبعض الرجال لديهم قدرة على ترويض قبيلة من الجن، وآخرون تقصدهم النساء من أجل الحصول على الأولاد.
■ للمكان بطولة عظيمة فى كتاباتك.. هل تريد إيصال رسائل بعينها من وراء ذلك؟
- لطالما آمنت بأن للمكان ذاكرة أكبر من ذاكرة البشر، فهو يقاسمهم همومهم وأحزانهم وأفراحهم، يمضون هم لكنه يبقى بعدهم. تتسع ذاكرة خان الخليلى منذ اليوم الأول الذى وجد فيه، وهو قاسم مشترك مع كل الذين سكنوه أو عبروا منه، فقد شهد الحرب والسلم والثورات والخيبات، وهذه كانت رؤية نجيب محفوظ أو جمال الغيطانى وألبير قصيرى. هذه هى عظمة الأمكنة، الكل كتب عن الحوارى فى القاهرة القديمة، فهل أحاطوا بها كلها؟ هل أرضوا شغفها؟ لا، ظلّت معينًا متجددًا بالخيال، يغوى كل كاتب حى، أو سيكون فى الأزمنة القادمة.
■ ما مشروعك المقبل بعد «الديوان الإسبرطى»؟
- هناك رواية تختمر فى الذهن، لكن هواجس كثيرة تقول لى إننى حالما أنتهى من كتابتها لن أجرؤ على نشرها.