رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا الضاحية الجنوبية.. 120 دقيقة فى مقر حزب الله

جريدة الدستور

كانت ليلة هانئة وجميلة فى بيروت، على مقهى «سويس تايم» فى الضاحية الجنوبية، جلست مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات اللبنانيات، لم تكن هناك أى مقدمات تشى بأحداث مخيفة، وكانت سهرة ممتعة بدأت بالصحبة الحلوة واختتمت بفوز فريقى المفضل ريال مدريد فى الكلاسيكو.
بعد المباراة غادرت قاصدًا الفندق الذى أقيم فيه فى شارع «الحمرا»، لكن لم يتح لى الوصول سريعًا، إذ إن مفاجأة كبرى كانت فى انتظارى بعد خروجى من المقهى، عندما اعترض طريقى شابان هائلا الجثة يركبان دراجة بخارية، يبدوان كمصارعين، لم أتعرف عليهما فى البداية، لكن لاحقًا، بعد أن وقعت الفأس فى الرأس، اكتشفت أنهما مجندان تابعان لحزب الله.
كان جواز سفرى فى الفندق، ولذلك لم أستطع أن أثبت لهما أننى مصرى على الرغم من لهجتى الواضحة، ولم يعترف أكبرهما حجمًا وسلطةً ببطاقة الرقم القومى المصرى الخاصة بى، ناهيك عن أنه بعد أن أطال النظر فيها وقلّبها على وجهيها، وضعها فى جيبه ثم طلب منى أن أركب وراءه على الدراجة البخارية قائلًا: «شرِّف».
استجمعت شجاعتى ورفضت، اعترضت أصلًا على فكرة أن يتم استيقافى والتحقيق معى من جهة غير الشرطة، وقد أثار تعليقى سخرية عنصرى حزب الله، إذ قال أحدهما ما معناه إنهما هنا فى الضاحية الجنوبية هما الشرطة، وإن الشرطة نفسها لا سلطة لها على الضاحية الجنوبية. قلت له: «وما أدرانى أننى لست مخطوفًا؟»، فرد بأننى لو كنت مخطوفًا لأتيت معه تحت تهديد السلاح، ورفع قميصه ليرينى جنبه يحتضن مسدسًا كبيرًا.
كانت رسالته واضحة، فهو لم يشهر السلاح فى وجهى، لكنه أعلمنى بأنه مسلح وأننى مضطر للخضوع لأوامره، ولذلك تنازلت عن عنادى وركبت وراءه على الدراجة البخارية، تاركيْن العنصر الآخر يواصل دوره فى تأمين التجول فى المنطقة واصطياد ضحايا جدد.
وكانت هذه بداية القصة.

عناصره يقومون بدور الشرطة ويحتجزون أى شخص لمجرد الاشتباه.. وإطلاق الرصاص منتشر

ركبت معه على الدراجة البخارية، احتضنته من الخلف، وانطلق الرجل يخترق شوارع جانبية وأزقة ضيقة، وبين الحين والآخر يمد يده ليتأكد من وجود مسدسه فى مكانه ومن أننى لم أسحبه خلسة لأفرغه فى رأسه، وهذا جعلنى أستنتج أنه يشك فىّ بالفعل، ويعتبرنى شخصًا مدربًا على استخدام السلاح.
بين الحين والآخر كنت أسمع صوت زخة من رشاش آلى قادمة من بعيد، فأرتعد وأشد حضنى على سائق الدراجة، وأسأله عن الصوت فيقول باستخفاف: «متل عنكو بالأفلام يا مصرى: هااااع مين هناك؟».
وصلنا إلى أرض خالية واسعة تتوسطها ٤ غرف منقوش عليها بعض الشعارات التى تتوعد إسرائيل والولايات المتحدة وتتعهد بتحرير القدس، وشعار حزب الله «رشاش» بالأصفر والأخضر، وأسماء بعض «شهداء» الحزب، وعلى رأسهم اسم «عماد مغنية»، ثم ترجلنا عن الدراجة البخارية، وطلب منى المسلح أن أصطف بجوار شباب آخرين، كانوا كالمساجين فى طابور العرض.
أشعلت سيجارة، ودخل المسلح إلى واحدة من الغرف، ومن هناك تناهى إلى مسامعى تعنيف أحدهم للجندى الذى اتضح أن اسمه «إسماعيل»، ثم خرج الأخير يتبعه رجل أصلع أقصر قامة يرتدى «شورت وفانلة بلا أكمام» ويدق وشمًا على ذراعه.
من على بعد ١٠ أمتار صرخ الرجل ذو الرتبة الأعلى فىّ: «طفى السيجارة»، فأصبت بالذعر ورميت السيجارة، ثم وقفت «انتباه عسكرى»، فسألنى الرجل: «شو اسمك؟»، ومن بعدها سألنى فى كل شىء لمدة ساعتين، لماذا جئت إلى لبنان؟، وما معنى «ورشة كتابة» التى جئت إلى بيروت كى أحضرها؟، وإن كنت صحفيًا، ففى أى قناة أعمل؟ وحتى عندما شرحت له أنها ليست قناة وأنها صحيفة، عاد وسأل: «يعنى بأى تلفزة؟ بأى فضائية؟».
حاولت أن أنوه بأننى كتبت لفترة لحساب جريدة «الأخبار» اللبنانية، وهى صحيفة معروفة وقد تولى حزب الله تمويلها لفترة فى ظل التقلبات السريعة التى تعصف بالصحافة فى لبنان منذ سنوات، وذكرت له اسمى «إبراهيم الأمين» و«حسين بن حمزة» وكل الأسماء من العاملين بجريدة الأخبار ممن لأسمائهم جرس شيعى، حتى إننى ذكرت اسم «عبدالرسول» ضمن اسمى الخماسى عساه يهدئ من حسه الطائفى، غير أنه قال لى بعد أن ذكرت له تلك الأسماء: «مين هولا؟ وما هى جريدة الأخبار؟».
حاولت أن أشرح له أننى روائى، وأننى فى بيروت لحضور ورشة فى الرواية، فظن الرجل أن الرواية هى عملية الحكى الشفوى وأشار إلى فمه، ضربت له مثلًا بنجيب محفوظ فلم يعرفه، ثم قرّبت المثل أكثر واستشهدت بالروائى اللبنانى إلياس خورى فلم يعرفه أيضًا.
كنت كلما أجبته، فهمت جليًا أن الرجل ليس سوى عسكرى بائس لا يعرف أى شىء وجرى تلقينه منذ الطفولة، ولا مساحة متاحة عنده للتفاهم، وعرفت أننى لن أستطيع أن أقنعه بأنى مجرد مصرى قاده حظه العثر إلى متابعة المباراة فى الضاحية الجنوبية مع مجموعة من الأصدقاء، وعرفت أيضًا أنهم يشتبهون فى كونى داعشيًا، بسبب شعرى الطويل ولحيتى وملامحى التى لا تشبه ملامح اللبنانيين والشوام عمومًا، وأيقنت أننى فى ورطة لا مفر منها إلا بالعناية الإلهية.
بعد ساعة ونصف الساعة من الأسئلة وحرب الأعصاب، وبينما أنا موشك على الانهيار، دمعت عيناى وعرفت أننى لن أنجو، ورأيت فى خيالى شاهد قبرى وقد كتب عليه: «هنا يرقد المرحوم أحمد مجدى همام.. العين - بيروت.. ١٩٨٣ - ٢٠١٦».

اشتبهوا أننى جاسوس.. وتأكدوا من هويتى بعد فحص حسابى على «فيسبوك»

أخبرنى المسلح الذى يتولى التحقيق بأنه لا يرانى إلا مشتبهًا به، مصرى له ملامح خليجية وشعر طويل ولحية مثل الدواعش، لا يحمل جواز سفر مصريًا، ولا يحمل رقم صديقه الذى شاهد معه المباراة، ويتلعثم فى إجابات الأسئلة، فكيف يتركنى لأمضى؟
شرحت له أن جواز سفرى فى الفندق وأن رقم صديقى ليس معى، لأننى اتفقت معه على حضور المباراة معًا عبر «فيسبوك». فشغّل الرجل خاصية «الواى فاى» وشبك موبايلى بالإنترنت، وفتح صندوق الدردشة بينى وبين صديقى الذى تابعت المباراة برفقته.
فتح الضابط صفحة صديقى، فوجده قد رفع صورنا ونحن فى المقهى ندخن الشيشة ونرفع علامات النصر بينما نتابع المباراة.
زفرت وطفرت من عينى دمعة، أدرك الرجل أنى برىء، وأنى لست جاسوسًا داعشيًا متنكرًا فى هيئة مصرى، وعندما شعر بمدى جلافته مع مشتبه به برىء، سألنى ممازحًا: «مين ربح؟».
كنت خائرًا من التعب والخوف، وكنت قد يئست من الخروج من المأزق، شبكتى العصبية منهارة وبالكاد أصلب طولى، أجبته بصوت مرتعش: «ريال مدريد».
بطريقة فيها استعراض للقوة وضع بطاقتى وموبايلى فى كفى ثم أشار لى: «فِل». فسألته: «ممكن إسماعيل يوصلنى؟» إلا أنه رفض.
مشيت، وقبل أن أبتعد كثيرًا سمعت المسلح الأعلى رتبة يطلب من «إسماعيل» أن يوصلنى إلى المكان الذى أخذنى منه.
مرة أخرى على الدراجة البخارية خلف «إسماعيل»، هذه المرة لم يكن بحاجة للقلق على مسدسه، بعد أن ثبتت براءتى، لكننى كنت أشعر بقهر كبير ومذلة، لذلك سألته: «بعد ما طلعت برىء يا إسماعيل عايز أسألك لو تسمح: عمرك شفت مقاتل بكرش؟»، ضحك «إسماعيل» وقال: «لا».
وضعت يدى أمام وجهه وسألت مجددًا: «هل تبدو لك هذه اليد كيد مقاتل؟»، مجددًا ضحك «إسماعيل» وقال: «فهمت عليك.. يعنى إنت عم تشكك بحسى الأمنى!»، وعندما استجمعت شجاعتى وأجبت بـ«نعم»، قال: «مو ضرورى مقاتل.. بلكى تجسس!».

حسن نصرالله الأقوى فى المعادلة الداخلية.. والوضع الاقتصادى متردٍ فى ظل نظام حكم قائم على الطائفية

تذكرت هذه الواقعة بينما أتابع، عبر الفضائيات المصرية والعربية، الأحداث المشتعلة فى لبنان، والمتظاهرين الذين اختاروا النزول للشوارع منذ منتصف أكتوبر الماضى، ليعلنوا عن غضبهم من الأوضاع هناك، خاصة فى جانبها الاقتصادى المتردى للغاية، فى ظل نظام طائفى قائم على المحاصصة فى إدارة البلد، ومبنى على «الميثاق الوطنى اللبنانى» الذى أبرم عام ١٩٤٣، وهو اتفاق شفهى قسم البلد بحيث تكون الرئاسة للموارنة ورئاسة الوزراء للسنة ورئاسة مجلس النواب للشيعة.
لكن يبدو أن الميثاق الوطنى، ومن بعده اتفاق الطائف عام ١٩٨٩، هما القاعدتان الأكبر فى منهج الحكم فى لبنان، ومعهما السعار الإيرانى المحموم ويدها الممتدة بالعبث فى الكثير من البلدان العربية، كل ذلك أدى إلى تغول حزب الله على باقى أقرانه، حتى بات حسن نصرالله، الأمين العام للحزب، هو الحاكم الفعلى للبنان، ولا يُقال له إلا «السيد»، ولا يمضى أمر إلا بموافقته ولا يقف تنفيذ قرار إلا باعتراضه.
فى خضم الحراك اللبنانى، هاجمت عناصر حزب الله المتظاهرين فى ساحة رياض الصلح بوسط بيروت، وسبق هذا الهجوم تحذيرات واضحة طرحها حسن نصرالله بلهجة وعيد فى خطاب متلفز.
فى البداية، أو فى خطابه الأول تعليقًا على الأحداث فى بيروت، أيد «نصرالله» مطالب المتظاهرين ولام الحكومة على تخاذلها، لكن بعدها بأيام، وفيما يبدو أن الأوامر قد وصلت إليه من طهران، وجدنا خطابًا مغايرًا للرجل، لقد «شخط» خلاله فى المواطنين ولامهم واتهمهم بتلقى تمويلات من سفارات أجنبية، كما لو كان التمويل الإيرانى لحزب الله مسألة محلية صرفة.
اتهم «نصرالله» اللبنانيين بالعمالة، مسقطًا أكبر مأزق ينتقص من وطنية حزب الله- بوصفه ذراع إيران فى المنطقة- على كل اللبنانيين، بسنتهم ودروزهم وموارنتهم وأرمنهم وباقى فئاتهم، وأعقب ذلك هجوم من عناصر الحزب على متظاهرى لبنان.
وسط كل تجمع لبنانى يطالب بالتغيير، انبثقت مجموعة من أفراد حزب الله، هتفوا للحزب وللسيد «لبيك يا نصرالله»، ثم انهالوا بالضرب بالأيدى والعصى على المتظاهرين، فى استمرار فج لدور «شرطى المنطقة» الذى يؤديه حسن نصرالله منذ فترة سواء على المستوى الإقليمى، عبر التدخل فى سوريا واليمن والعراق، أو حتى من خلال موقف فردى مثل الذى تعرضت له وأشرت له فى مطلع هذا المقال.
لم أستغرب تشبث «نصرالله» وحزبه بلعب دور البعبع المسيطر. فقد عاينته بنفسى، بعد أن جرى نقلى فى ذلك اليوم البعيد من ٢٠١٦ عبر الدراجة البخارية، إلى أحد مقرات الحزب، ليتم التحقيق معى لسبب لا يعلمه إلا الله، ومجند الحزب الذى رآنى مشتبهًا به يستحق النقل إلى مقر الحزب والتحقيق معه.
ويتفوق حزب الله على الجيش اللبنانى من حيث التجربة والتسليح، ويبلغ عدد الجنود العاملين لديه نحو ٢٠ ألف مقاتل، ويبلغ عدد جنود الاحتياط ٢٥ ألفًا، والقوة الكاملة ٤٥ ألفًا، إلا أن الميزة الكبرى لديه التى اكتسبها منذ ٢٠٠٦ فصاعدًا هى قدرته الصاروخية.
يمتلك الحزب صواريخ «فجر ٣» بمدى ٤٥ كم، وصواريخ «فجر ٥» بمدى ٧٥ كم، وصواريخ «رعد» التى تحمل رءوسًا متفجرة زنة ١٠٠ كجم، وصاروخ «زلزال» البالستى بمدى ١٥٠ كم، و«زلزال ٢» بمدى ٢٠٠ كم، ويمتلك الحزب منها نحو ٢٠ قطعة، وصواريخ فاتح ١١٠ أرض أرض، وكل ما سبق هو تصنيع إيرانى.
كما يمتلك الحزب من الصناعة السورية صواريخ ٢٢٠ ملم بمدى ٧٥ كم وصواريخ ٣٠٢ ملم بمدى ١٠٠ كم، وكذلك ١٣ ألف صاروخ «كاتيوشا» روسى الصنع، ويبلغ إجمالى ما يمتلكه ١٥٠ ألف صاروخ.
والآن فى ٢٠١٩، قرر الحزب ترك كل «عدة» المقاومة جانبًا، وأشهر هراواته وعصيه لتفريق المتظاهرين فى لبنان، وتفتيش ضمائرهم ونواياهم وكيل الاتهامات لهم جزافًا.