رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العراقي باسم فرات: قصائدي تغتسل بالآلهة القديمة لنيوزيلندا

جريدة الدستور


يكتب العراقي باسم فرات (1967) الشعر، وصدرت له عدّة دواوين، غير أنه بفعل الهجرة والتنقل الدائم بعيدًا عن العراق، كتب اليوميات أيضًا وحاز على جوائز عدة في هذا المضمار كان آخرها جائزة السلطان قابوس.. ولا شك أن كتابة "فرات" إبان وجوده في العراق تغيرت كثيرًا بعدما هاجر إلى عدة بلدان في قارات مختلفة.

يقول صاحب "بلوغ النهر" في ذكرى إعلان الأمم المتحدة عام 2000 يوم 18 ديسمبر يومًا دوليًا للمهاجرين، لتسليط الضوء حول قصص المهاجرين وتفاصيل نجاحاتهم ومعاناتهم، وأثر التداخل الذي تحدثه الهجرة بين الثقافات، وبمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين: "هناك جملة أرددها باستمرار، وهي أننا جميعًا ضحايا الشائعات، نقرأ ونكتب ونسافر بل نحلم تحت مؤثرات الشائعات، وكنت محظوظًا لأني أتيت للكتابة وللشعر وأنا طفل، دون العاشرة من العمر، ولا أدري هل كانت ظروف طفولتي الدرامية القاسية سببًا في شعوري بمحاولة التعويض عبر المعرفة والبحث والتميز؟ ربما، لكنني لم استسغ أن أقلّد غيري في شيء ما، كتابة أو قراءة أو سلوكًا، بل كنت أشمئز من الذين يقلدون سواهم.

من هنا كانت البداية، وقد أسعفني الحظ بأن جرى قبولي لاجئًا عبر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ثم إصدار قرار بمنع اللاجئ من الاعتراض على بلد التوطين، وهذه ربما ضارة نافعة، فكان توطيني في أقصى جنوب الجنوب، في زي الجديدة (نيوزيلندة) وهناك كان الاختلاط بالماوريين سكان البلاد القدامى، والتعرف عن كثب على الجاليات فيها، وهي جاليات تمتد أرومتها إلى أربع جهات الأرض؛ لكن الفرصة الأكبر جاءت حين انتقلت للسكن في وسط مركز مدينة هيروشيما في اليابان، هذه المدينة التي علقت بذاكرتنا بأول قنبلة ذرية أُسقطت عليها من قبل الجيش الذي احتل بلدي ودمره وما زال نفسه.

ثم كانت التجربة التالية في جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية، في جنوب شرق آسيا، وهو بلد يستلقى على شرق فيتنام وعلى غربه تايلاند، فكانت تجربة أخرى انغمست فيها مثل سابقتيها بالمجتمع، وكانت زياراتي المتكررة لتايلاند على دراجتي الهوائية لها وقع كبير في نفسي، ومثلما قضيت ثلاثة أعوام في هيروشيما، كذلك فعلت في جنوب شرق آسيا، وكانت النتيجة خوض غمار الترحال والبحث عن المعرفة والتوغل في الأمكنة، طبيعية وجغرافية ودينية، حتى خرجت بكتاب عدد كلماته تزيد على اثنين وخمسين ألف كلمة، عنونته "طواف بوذا".

بعد ذلك انتقلت من جنوب شرق آسيا إلى غرب إمريكا الجنوبية، حيث الإكوادور، وفي هذا البلد قضيت ثلاثة أعوام أيضًا، ولا أظنني تركت مدينة أو بلدة أو مكانًا ولم أزره، غامرت فيها حتى تعرضت للموت أكثر من مرة، تركت كولومبيا والبيرو ذكريات جميلة ومهمة في ماضيّ، هذه التجربة تركت أثرها في الاقتراب من عوالم الأدب اللاتيني أي عوالم غابريل غارسيا ماركيز وصحبه وأترابه، وخرجت من تجربتي تلك بكتابين في أدب الرحلات هما "مسافر مقيم.. عامان في أعماق الإكوادور" وقد فزت عنه بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات في عام 2013 – 2014 ميلادية. وأما الكتاب الثاني فهو "الحلم البوليفاري.. رحلة كولومبيا الكبرى" وهو يشمل رحلاتي في العام الثالث في الإكوادور ورحلات كولومبيا والبيرو، وهذه البلدان الثلاثة تم توحيدها بواسطة سيمون بوليفار الذي كان يحلم بتوحيد إمريكا الجنوبية كلها، ولكن الحلم لم يتحقق وتحول إلى طاغية. وقد فزت بالجائزة الأولى لأدب الرحلات – مسابقة جواد ناجي الساعاتي – في بغداد عام 2015 ميلادية.

في الخامس من شهر أغسطس عام 2014 ميلادية، انتقلت للعيش في الخرطوم، وحتى هذه اللحظة، وخلال هذه الأعوام قمتُ برحلات عديدة في أنحاء السودان باستثناء غربه، وكذلك رحلات عديدة إلى أنحاء متفرقة من مصر ابتداء من الحدود المصرية السودانية ومعبد أبي سمبل صعودًا إلى أسوان والأقصر وما بينهما حتى مصب النيل في دمياط ورشيد وبورسعيد ومقابر العلمين مقبرة الإيطاليين ومقبرة الكومنولث، وللإسكندرية زيارات عديدة.

كانت الحصيلة أن تجربتي الشعرية اختلفت عوالمها. كانت تعج بالكربلائيات ليس لأنني من أبناء كربلاء فقط، وتجذر الحزن والأسى في لا وعيي فقط، بل لأن مفهومي للشعر كان مبنيًّا على فهم لا يرى في الفرح شعرية، بل الشعرية في الحزن والمآسي، ولأن مدينتي كانت تستقبل جثامين الموتى قتلى الحروب والإنظمة وحوادث السير والدهر معًا، وكذلك الذين سقطت ورقة الحياة عنهم لاصفرارها بفعل وقائع غبار الزمن؛ وكنت منذ نعومة أظافري أميّز بين جنازة محتفى بها وأخرى لا يحملها سوى نفر ضئيل، بأن الأخيرة تعني أن الحدث المسجى في التابوت مغضوبًا عليه، وبعبارة أخرى أعدمته السلطات، فضلًا عن حرماني من الأبوين وشقاء طفولتي وعملي في بيع الأكفان وأنا ابن التاسعة، كل هذا ألقى بظلاله على نصوصي الشعرية فصبغها بصبغة مليئة بالسواد والأسى والفقد والكربلائيات.

لكن السفر والترحال والاحتكاك بهذه الشعوب احتكاكًا عميقًا واكتشاف الصلات بينها وبين العرب، بما في ذلك الشعب الياباني، الذي فاجأني بقربه منا، وأول ما تعلمته أن اليابانيين مثلنا تمامًا يودون أن نبدأ حديثنا بالتحيات والمجاملات الاجتماعية ثم يدخلون في أحاديث التجارة وغيرها. ومثلما لاحظت أن العمارة العربية تلقي بظلالها على الإكوادوريين والكولومبيين وسواهم كذلك عديد الصفات العربية مثل العاطفة الجياشة وحب إلقاء السلام على كل مَن يرونه بغض النظر عن معرفتهم به أم أنه مستطرق، ولا يمكنني أن أتحدث بتفاصيل كثيرة لضيق المساحة؛ من خلال الانغماس بهذه المجتمعات أخذت قصائدي تغتسل بآلهة الماوريين وحياة اليابانيين وببوذا وعوالمه وعوالم إمريكا الجنوبية وجغرافيتها كالأنديز والأمازون فضلًا عن الإثنيات العديدة من سكان البلاد القدامى.وتواريخها وإشارات إلى عقائدها وعاداتها وتقاليدها، ما صبغ تجربتي الشعرية بنكهة مختلفة عن الآخرين.

بينما نتج عن رحلاتي في السودان ومصر ديواني الشعري السابع "محبرة الرعاة" فهو مخصص لوادي النيل باستثناء قصيدة واحدة، وفي الكتابين الآخرين الثامن "فأس تطعن الصباح" (2018) و"مبكرًا في صباح بعيد" عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فإنهما لم يتخلصا من وادي النيل ومائه وعذوبته، بل تزينا بخصوبة هذا الوادي الخصيب.

أحب الشرق وحياته الصاخبة والضاجة ليلًا، ولا أطيق الغرب ونوم مدنه المبكر. أحب أن أتبع نفسي قراءة وكتابة وسفرًا وعيشًا ووعيًا وملبسًا ومأكلًا، ولا أطيق التقليد، وأضجر حين يطقلون عليّ "سندباد العصر الحديث" أو "ابن بطوطة المعاصر".