رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خطابات الكراهية والتكفير


فى كل مرة يتحدث فيها الرئيس عبدالفتاح السيسى، أو يلقى خطبة، فمن المحتم أن يتحدث عن حتمية تجديد وتصويب الخطاب الدينى، وكان آخرها فى المؤتمر الثامن للشباب فى جلسة مكافحة الإرهاب وكذلك خلال جلسة «استراتيجية بناء الإنسان المصرى»، ضمن فعاليات مؤتمر الشباب الدورى السادس، قال الرئيس عبدالفتاح السيسى: «لما تيجى تتكلم عن تجديد الخطاب الدينى، أنتم خايفين لنضَيع الدين، هو اللى إحنا فيه ده، فيه أكثر منه ضياع للدين، إن فهم الدين خلال السنوات الأخيرة اعتمد على أن الحرب هى الأصل والاستثناء هو السلام، لما أمة يكون فكرها كله مبنى على الحرب، هى الحرب استثناء ولا أصل؟!! الحرب استثناء، ولكن لما يكون الفكر لأمة ما خلال المائة سنة الأخيرة مبنى على أن الحرب فقط هى الأصل والاستثناء هو السلام، معقول فيه فهم دينى كده؟ أنتم خايفين من إصلاح الخطاب ليضيع الدين، هو فيه ضياع أكثر من كده، هو الإلحاد اللى الشباب لجأت له لأنها اتهزت واتلخبطت من الحالة اللى احنا فيها ده إيه؟!، أنتو عاوزين أكتر من كده؟!، شبابنا قلقوا ومصدقوش إن الخالق العظيم ممكن يوافق على اللى بيحصل ده، أنتوا عاوزين تعملوا إصلاح لخطاب دينى ولا خايفين لنضَيَع الدين؟ أنا قولت ده كتير».
المتابع لحوارات الرئيس يجد أن السيسى فى حواراته التليفزيونية، حتى قبل أن يصبح رئيسًا للجمهورية وبعد فوزه فى انتخابات الرئاسة، لا يكل ولا يمل من الدعوة لتجديد الخطاب الدينى، إيمانًا منه بأهمية وخطورة الخطاب الدينى فى تشكيل عقول الجماهير وتحريكها، وبات من الواضح أن سيادة الرئيس يكرر هذه الدعوة مطالبًا بالتجديد بين الحين والآخر دون كلل أو ملل، لأنه أحس أنه ليس من منصت ولا مجيب، بل إن هناك من يظن أن تجديد الخطاب الدينى هو بدعة بل هو عين الكفر! مع أن التجديد لا يعنى أبدًا تغيير النصوص والأصول العقائدية كما يروج البعض، وإنما يعنى تجديد التفسير بما يوائم المستجدات العلمية فى عصرنا من خلال التعمق فى فهم الظواهر الدينية انطلاقًا من أن الاجتهاد لا يتجاوز النص الدينى، إذ إنه لا بد من إعمال العقل فى فهم النص، والتأويل والتجديد فى التفسير، ويرجع اختلاف البشر فى فهم النصوص الدينية ومن ثم اختلاف خطاباتهم، إما إلى عوامل فردية ذاتية، أو إلى عوامل اجتماعية تاريخية، أو إلى العاملين معًا، كما تحدد غلبة الاتباع أو الابتداع على كيفية الفهم أصلًا، فتحدد قبول مبدأ الاجتهاد أو رفضه.
ومما لا شك فيه أن العالم العربى صار فى هذه الأيام العصيبة أحوج ما يكون إلى دعوة تجديد الخطاب الدينى‏، إن السؤال الذى يفرض نفسه علينا: لماذا نحن هكذا؟ لماذا وصلنا إلى هذه الحالة من التردى والرجعية؟ لماذا العنف والإرهاب وإراقة الدماء؟ والجواب كما يراه عدد كبير من المفكرين هو لأن كل محاولات النهضة لم تقم على أساس الإصلاح الدينى، فالأمم التى تقدمت قامت نهضتها أساسًا على الإصلاح الدينى وإعمال العقل والتأويل وتجديد خطابها، فلا نهضة علمية أو تكنولوجية دون إصلاح دينى.
وبالطبع نحن لا يمكن أن ننكر أن هناك بعض الأنوار فى الفكر المصرى الحديث، لكنها ضئيلة ومتشرذمة، ولم ترقَ إلى الإصلاح الشامل، فالإصلاح الدينى هو حجر الأساس للإصلاح فى مجتمعاتنا العربية، والخطاب الدينى من شأنه أن يصنع إما أصدقاء للحضارة أو أعداء لها، وقد حان الوقت لترجمة دعوة الرئيس السيسى وتفعيلها على أرض الواقع وتحويلها من القول إلى الفعل،‏ فإننا بالفعل فى حاجة إلى خطاب دينى متطور فى دور عبادتنا‏،‏ وبيوتنا‏،‏ ومدارسنا‏،‏ ومناهج تعليمنا‏،‏ وإعلامنا‏،‏ وثقافتنا‏،‏ وسلوك مجتمعنا‏.
إننا فى حاجة إلى خطاب دينى جديد‏،‏ ومتجدد‏،‏ فالقدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والتربية لا التعرية، والترغيب قبل الترهيب، والتيسير لا التعسير، ومخاطبة القلب والعقل معًا، نحتاج لخطاب دينى يعلِّم الناس المحبة‏ وينشر قيم الاعتدال والتسامح‏،‏ ويحاصر الغلو والتطرف‏،‏ ويركز على جوهر الدين لا مظهره‏، ويهتم بلبِّه لا بقشره،‏ إننا بحاجة إلى فكر دينى وخطاب دينى يزود الإنسان المؤمن بقيم إيمانية حياتية أصيلة تعالج الفجوة الأخلاقية بين التدين النظرى المعلن وبين التدين العملى المعاش، نحتاج لخطاب دينى يعلى قيم العمل والاجتهاد‏،‏ ويجسد تعاليم الدين فى المعاملات والسلوك وواقع الحياة‏،‏ وينفتح على العالم‏ وعلى الإنسانية جمعاء من حولنا، فماذا عسانا فاعلون؟!
ومن الجدير بالذكر هنا أن الرئيس السيسى يمكننا أن نطلق عليه أنه الرجل صاحب القضية، فهو لا يكل ولا يمل من تكرار الدعوة لتجديد الفكر الدينى وتطويره ليكون مواكبًا للعصر ولحضارة القرن الحادى والعشرين، وإلحاح الرئيس على ضرورة تجديد الخطاب الدينى يؤكد أن هناك خطرًا داهمًا، فالخطب الدينية الغارقة فى الماضوية التى تدعو لكراهية الآخر أو تكفيره أو اتهامه بالهرطقة والزندقة، والتى تبيح العنف والإرهاب وإراقة الدماء، وكذلك الخطب التى تدعو للترويج للخرافات والخزعبلات ومعاداة العلم، كل هذه الخطابات وغيرها تتطلب من المجتمع المصرى وقفة جادة، ولا يجب أن تمر مرور الكرام دون محاسبة أو مساءلة، فهناك من يعبث بأمن الوطن جهارًا نهارًا، عيانًا بيانًا، مستخدمًا أقوى خطاب مؤثر فى الوجدان المصرى ألا وهو الخطاب الدينى، فهل من مجيب؟
قد لا يتم وجود الخير الكثير إلا بوجود شر يسير.