رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابن الناس.. كلمة تبحث عن معنى


هناك كلمات وصفات وعبارات أحيانًا ما نقولها دون أن ندرى معناها، ودون أن يكون لها بُعدها الصحيح.. فلقد تغيّرت الدنيا من حولنا فى السنوات الأخيرة، ولم يعُد للعبارات التى نقولها نفس معناها الذى عرفناه، ولا الصفات نفس معناها.. وظهرت سلوكيات وتعاملات وعبارات مختلفة طغت فى التعاملات اليومية، مثل تغليب المصالح والمادة وتغييب المبادئ والقيم.. وأتوقف اليوم بشكل خاص أمام كلمة «ابن ناس»، وأعتقد أن الأنسب لها أن نطلقها اليوم على القيمة الفعلية لإنسان يكون راقيًا فى أخلاقه وتصرفاته وسلوكياته.

أعتقد أننا من ناحية أخرى قد أصبحنا نعيش فى هرم مقلوب.. إننا فى حاجة ماسة إلى تقييم الناس على أسس سليمة ومبادئ واضحة، مثل أخلاقهم النبيلة أو نجاحهم فى عملهم أو رقيهم فى تعاملاتهم، حيث أصبحنا نعيش فى زمن طغت فيه المصالح، وتسيّدت وأصبحت كلمة «ابن ناس» للأسف الشديد تقال لمن يتمتع بالثراء أو بالنفوذ والجاه بغض النظر عن أخلاقه أو سلوكياته أو تعاملاته أو نزاهته.. فلم يعُد المجتمع يبحث عن القيم والمبادئ فى تعاملات الشخص أو أصل الشخص العريق أو أخلاقه النبيلة أو عن نجاحه المهنى أو ضميره الحى، بل أصبحت كلمة «ابن ناس» تطلق مفرغة من معناها.. وهى كلمة عندما توقفت عندها وجدت أننا من الضرورى أن نحدد مواصفاتها حتى نعيد للقيم النبيلة أهميتها فى مجتمعنا الذى اختلط فيه الحابل بالنابل فى السنوات الأخيرة.

فكثيرًا ما كنا نقول عن الإنسان الذى ينحدر من أسرة عريقة إنه «ابن ناس»، أى أنه ينتمى لأسرة لها أصول عريقة نجحت فى تربيته وتقديمه للمجتمع بصورة مشرفة، وكان حينما يتقدم شاب من أسرة عريقة لخطبة فتاة فكانوا يتباهون بذلك ويقولون إنه «ابن ناس». وكان هذا ما نشأنا عليه عندما كانت للقيم أهميتها، أما الآن فقد تغيّرت السلوكيات والأخلاق عن ذى قبل.

ولم تعد التعاملات فى الحياة اليومية بشكل عام تتسم بالأخلاق والاحترام والنزاهة والنقاء والشهامة والأدب والصدق، بل هى قيم فى طريقها للاندثار إن لم نؤكد أهميتها ونعظم من يتسمون بها، ولا بد أن نحافظ عليها جيلًا بعد جيل حتى لا تختفى الأخلاق والقيم، وتصبح المادة والماديات هى أساس تقييم الشخص فى المجتمع.. ولا بد أيضًا أن نعترف بأن الشخص الذى يتحلى بالمبادئ فى السلوكيات اليومية العادية قد أصبح عملة نادرة الآن.

وإذا ما بحثنا فى أصل هذه الكلمة، فسنجد أن كلمة «ابن ناس» التى نقولها الآن كانت لها تفسيرات مختلفة قد تدهشنا، بل إن لها معانى قد تفاوتت على مر العصور، ففى زمن المماليك كانت تطلق على القادة العسكريين الذين لا يُعرف لهم آباء، أما فى أيام العثمانيين فكانت تطلق على من هُم أقل من الباكوات والباشوات، لتمييزهم عن باقى المصريين، ثم فى عهد الملوك والسلاطين حسين كامل وفؤاد وفاروق ارتبطت كلمة «ابن ناس» برجال الصناعة وصغار رجال الأعمال وملاك الأراضى الذين يطمحون فى الحصول على لقب الباشوية، ثم جاء عصر عبدالناصر ليجعل الكل سواسية إلا أن المصريين ظلوا متمسكين بها ويطلقونها على من ينحدرون من عائلات باشوات أو سياسيين أو غيرها. وأدى تمسك المصريين بها إلى إطلاقها على مواصفات أخرى، فمثلًا عندما يتقدم شاب لخطبة فتاة كان هذا الوصف بمثابة جواز مرور ناجحًا لأسرتها بأن يقال إنه «ابن ناس»، أى أن العريس يتحدث بلغة أجنبية أو لديه سيارة أنيقة أو يتمتع بالأناقة والوسامة، ثم أصبحت فى الستينيات والسبعينيات تطلق على الشخص الذى لديه مهنة محترمة ومن الطبقة المتوسطة المتعلمة، مثل الطبيب الناجح أو المهندس أو الشخص الذى نجحت أسرته فى تعليمه، وكانت كلمة «ابن ناس» تطلق على الإنسان الذى استطاع أن يصل للنجاح العلمى أو الفكرى بطريقة سليمة وصحيحة ويتمتع بالسلوكيات التى تدعو إلى الاحترام أو العمل الناجح، حيث كانت الكلمة تطلق على القيمة الفعلية لما يؤديه الشخص الناجح وليس على ما يمتلكه أو يقتنيه، فكانت تطلق على من يقدم عملًا يدعو للاحترام والتقدير المجتمعى أو لديه ضمير أو يتمتع بالرقى فى السلوكيات، ثم أصبحت بعد ذلك بسنوات ومع اختفاء الطبقة الوسطى المتعلمة تطلق على ما يمتلكه الشخص من سيارات فارهة ومن امتلك فيلا بمواصفات عالية فى كمبوند أو عضوية فى نادٍ فاخر أو تطلق على ملاك الأراضى والأثرياء الجدد دون حتى أن يهم مصدر الثراء.

لهذا فإننا فى حاجة إلى تحديد كلمة «ابن ناس» الآن دون أن يكون مقصودًا بها أن هناك ناسًا أقل من ناس، أو أن تكون هناك شبهة فى التعالى على الناس وإنما من الضرورى أن نطلق هذه الصفة على شخص يستحقها ويتميز بسمات تدعو لاحترامه وتقديره من المجتمع كأن يكون متمتعًا بالأخلاق النبيلة فى تعاملاته اليومية، وأن يكون لديه ضمير وقيم عليا فى سلوكياته، وأن يكون ناجحًا مهنيًا، وأن يكون نزيهًا فى معاملاته وراقيًا فى تصرفاته وعفيفًا فى لسانه، إننا فى حاجة ماسة لأن نعطى لكلمة «ابن ناس» معنى واضحًا لا التباس فيه حتى نجعل للأخلاق النبيلة قيمة عليا وللمبادئ أهمية فى حياتنا اليومية فى مجتمعنا الراهن، وأتذكر هنا حديث شريف قاله الرسول، عليه السلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وأتذكر أيضًا قول أمير الشعراء أحمد شوقى فى وصف أهمية الأخلاق، حيث قال فى أجمل شعره «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا».